وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ـ دراسة علمية
الخميس/ديسمبر/2019
د. نظمي خليل أبو العطا موسى
أستاذ علوم النبات في الجامعات المصرية والبحرين
حدثناكم في مقال سابق عن قوله تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا) (الأنعام/59)، واليوم نعيش مع قوله تعالى: (وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام/59).
قال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله: (وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ) من حبوب الثمار والزروع وحبوب البذور التي يبذرها الخلق وبذور النوابت البرية التي ينشأ منها أصناف النبات (وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) هذا عموم بعد خصوص (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ قد حواها واشتمل عليها، وبعض هذا المذكور يبهر عقول العقلاء ويذهل أفئدة النبلاء، فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته في أوصافه كلها، وأن الخلق من أولهم إلى آخرهم لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك فتبارك الرب العظيم الواسع العليم الحميد المجيد الشهيد المحيط وجل من إله لا يحصي أحدا ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده، فهذه الآية دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء وكتابه المحيط بجميع الحوادث.(انتهى).
وقال الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله في التفسير المنير: ويعلم ما تسقط من حبة في ظلمات الأرض سواء بفعل الإنسان كالزراع أو الحيوان كالنمل أو بغير فعل الإنسان كالساقط من النبات في شقوق الأرض، ويعم ما تسقط من الثمار، رطبا ويابسا، حيا وميتا وهكذا علم كل الكائنات مكنون ثابت في كتاب واضح لا يمحى هو اللوح المحفوظ الذي سجل فيه كل شيء، وسجل عدده ووقت وجوده وفنائه.. والخلاصة أن الله تعالى يعلم الغيب والشهادة، والظاهر والباطن، والرطب واليابس، والسر وأخفى وكل شيء في الكائنات، يعلم الكليات والجزئيات) انتهى.
وجاء في معجم النبات من قاموس القرآن الكريم، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن الحَب: الحب اسم جنس للحنطة وغيرها مما يكون في السنابل والأكمام، والحب معروف مستعمل في أشياء جمة: حبة من بُرّ، حبة من شعير حتى يقولوا: حبة من عنب. ويطلق على بعض المحاصيل خاصة تلك التي تنتمي إلى فصيلة النجيلية مثل القمح والشعير والذرة والأرز والشوفان اسم محاصيل الحبوب، حيث تزرع من أجل حبوبها التي تمثل المصدر الأساس للغذاء، ولاسيما الخبز، والحبة في هذه المحاصيل ما هي إلا ثمرة صغيرة بها بذرة واحدة يلتحم غلافها مع غلاف الثمرة، وتعرف بين النباتيين باسم البُرة (Caryopsis) وتمثل المواد الكربوهيدراتية وخاصة النشا، معظم مكونات الحبة، وبكل حبة جنين صغير ينمو عند الإنبات ليكون البادرة، ويتكون الجنين في الحبة من ريشة (رويشة) وجذير وفلقة (واحدة) تعرف بالقصعة (Scutellum) وتتراص الحبوب في سنابل أو كيزان (كالذرة) انتهى مع بعض التصرف.
ونحن نقول وبالله التوفيق: الحبوب من أهم مكونات النبات فهي ثمرته ووسيلته الجنسية التزاوجية لنقل الصفات الوراثية، وهي غذاء ودواء للإنسان والحيوان والكائنات الحية الدقيقة تجلت فيها عظمة الخالق والإبداع في الخلق، وعلينا أن نفرق أولا بين الحبة والبذرة، أو الحبة والنواة، فالحبة ثمرة والبذرة جزء من الثمرة، فكل حبة ثمرة وليس كل ثمرة حبة، وتتكون البذرة من إخصاب البويضات الزهرية بواسطة حبوب اللقاح, فالإخصاب هو اندماج النواة الذكرية مع النواة الأنثوية، ولابد لكل بويضة في المبيض من حبة لقاح لإخصابها، وبعد إتمام عملية الإخصاب تحدث تغيرات في الكيس الجنيني تؤدي إلى تكوين البذرة، ويتبع ذلك تضخم في المبيض، وقد تتعدى التغييرات المبيض إلى الأجزاء الأخرى من الزهرة وينتج عن ذلك تكوين الثمرة، وتتميز البذرة (مثل بذور الفول) بوجود ندبة واحدة هي السرة، بينما توجد في الثمرة ندبتان إحداهما تمثل موضع اتصال الثمرة بالساق، والثانية تمثل بقايا القلم (كما ورد في النبات العام، أحمد مجاهد وآخرون).
وتنقسم الثمار إلى عدة أنواع منها الثمار الجافة والثمار الرطبة (الطرية)، ومن الثمار الجافة الفقيرة (Achene)، وتتركب من كربلة واحدة تحتوي بذرة واحدة، وغلافها غشائي أو جلدي كما هو الحال في نبات الورد.
والسبسلاء: (Cypsele) تتكون من كربلتين ملتحمتين لمبيضها غرفة واحدة تحتوي بذرة واحدة مثل دوار الشمس.
البرة (Caryopsis): وهي تشبه الفقيرة إلا أن الغلاف الثمري ملتحم مع قصرة البذرة كما هو الحال في نبات القمح.
البندقة (Nut) تتكون من كربلتين أو ثلاث كرابل ملتحمة، والمبيض ذو غرفة واحدة تحتوي على بذرة واحدة، وغلاف الثمرة خشبي كما هو الحال في نبات البندق (Corylus).
القرنة (Legume) تتكون من كربلة واحدة، ينشق جدار الثمرة إلى مصراعين متصلين من أسفل كما هو الحال في ثمار الفول والبسلة.
الخردلة (Siliqus) تتركب من كربلتين يفصلهما حاجز كاذب كما هو الحال في نبات المنثور (Matthiola) ومثلها نبات كيس الراعي Capsella.
والعلبة (Capsule) ومنها ثمار نبات عين القط Angallis والخشخاش Papaver والقرنفل Dianthus والبنفسج Viola.
وتوجد الثمار الرطبة (أو الطرية) وهي ثمار غير متفتحة ذات جدر لينة متشحمة وأمثلتها ثمار نبات المشمش Prunus armenica والبرقوق Prunus domestica والعنب والخيار والتفاح والشليك (الفراولة).(انظر النبات العام، أحمد مجاهد وآخرون ).
وبالدراسة والبحث نجد أن هناك ملايين الملايين من الحبوب والبذور والثمار الجافة والرطبة ولكل منها تركيب وسلوك خاص بها، وقد خلقت هذه الحبوب والبذور بحكمة بالغة ولا مكان فيها للمصادفة العمياء والعشوائية كما يدعي أصحاب نظرية التطور.
وتنتشر هذه الحبوب والبذور في البيئة بأساليب مختلفة منها الانتثار بالرياح كما هو الحال في نباتات الأراشد (Orchids) وأبوالمكارم Machaerium والجعضيض Sonchus والخشخاش Papaver وتنتشر بعضها بالحيوان كما هو الحال في نبات الشبيط Xanthium الذي يمتلك خطاطيف يتعلق بها في أشعار وأوبار وأصواف الحيوان وملابس الإنسان وأوعية نقل الحبوب والبذور.
وعندما تسير الحيوانات على الطين تتعلق بأقدامها بعض البذور والثمار فتنقلها، ويقوم النمل بدور فعال في نقل البذور والحبوب وينقل الإنسان هذه البذور بالتصدير والاستيراد والنقل والزراعة، وهناك بذور وحبوب تنقل بالماء وهي مهيأة لهذا النوع من النقل.
ويقوم الفلاح بزراعة الحبوب والبذور في التربة الزراعية، والنتيجة العلمية أن الله سبحانه وتعالى وحده المحيط علما بكل هذه الحبوب والبذور جملة واحدة، فالإنسان قد يعلم بعضها في مكان محدد ويجهل البعيد عن علمه وإدراكه، ولكن الله سبحانه وتعالى وحده علام بها وقد قدر هذا منذ بدء الخلق ولذلك قال تعالى ” وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ” (الانعام /59) فجميعها مسجلة في اللوح المحفوظ.
وفي الآية إعجاز في قوله تعالى (وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ) ففي ظلام التربة وتحت الثرى توجد الحبوب والبذور والثمار المزروعة والبرية الكامنة لعشرات السنين والتي لا تنبت إلا عندما يحين موعد إنباتها وتتهيأ لها العوامل الداخلية والخارجية (البيئية) المساعدة على الإنبات.
وتوجد في ظلمات الأرض كورمات القلقاس الرطبة أو الطرية، ودرنات البطاطس، وجذور البطاطا، وريزومات الموز والغاب والكانا، وجذور النباتات العادية الوتدية والليفية، والجذور المتدرنة كاللفت والبنجر والجزر، وتوجد ثمار نبات الفول السوداني Arachis hypogaea في التربة، كلها يعلمها الله سبحانه وتعالى، ويعلم تركيبها الداخلي ووزنها وحجمها ولونها وشكلها الظاهري، وفوائدها الغذائية والبيئية والدوائية والجمالية، وتركيبها الجيني وأهميتها في دورات الحياة والحياة.
وإذا أردت أن تعلم هذه الآية (وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) أنظر إلى الصحراء القاحلة قبيل هبوط المطر عليها ستجدها جرداء قاحلة، وعندما يسقط عليها المطر ترى العجب العجاب، فبعد فترة وجيزة تخضر الأرض كما قال تعالى:” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ” (الحج/63) وكما قال تعالى ” وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ” (الحج/5) وقال تعالى ” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” (فصلت/39) وهذا ما فصلناه في كتابينا (آيات معجزات من القرآن الكريم وعالم النبات)، وكتابنا (معجزات حيوية علمية ميسرة). وبعد مده من نزول الماء على الأرض واخضرارها ترى الأزهار المتباينة والجميلة وقد كست الصحراء في مجموعات غاية في الحسن والجمال. من أين جاءت تلك النباتات؟! جاءت من البذور والحبوب والثمار التي كانت في ظلمات الأرض كامنة ومترقبة لنزول الماء لتنبت وتعطي هذه النباتات الجميلة.
وكل بذرة أو حبة أو ثمرة لها خصائص وتركيب جيني خاص بها يتوقف عليه طريقة الإنبات (هوائي ـ أرضي) والشكل الظاهري للأوراق (مركبة ـ بسيطة) وتركيب الزهرة والنورة والبذرة والحبة والثمرة، والله وحده المحيط بكل هذه الحقائق والعلوم والكائنات، وهو اللطيف بهذه الكائنات والحيوان والكائنات الحية الدقيقة والإنسان المستفيدة من هذه النباتات، وهو سبحانه خبير عليم يعلم كل هذه الخصائص والتراكيب ويحفظ على تلك المخلوقات حياتها, وخلق الأرض والماء والهواء والضوء والإظلام النافع لها. وعندما ينزل المطر على الصحراء تنبت أبواغ (جراثيم) بعض الفطريات كالكمأة أو الفقع وتعطي الأجسام الثمرية للفقع ذات القيمة الغذائية والدوائية والبيئية المتميزة، فمن كان يعلم بوجود هذه الأبواغ بين حبات الرمال وتركيبها الوراثي كيف تنبت وتتزاوج وتعطي الأجسام الثمرية.
وبعض البذور والحبوب والثمار تظل كامنة في الأرض الزراعية لعشرات السنين ولا تنبت رغم توفر شروط الإنبات الخارجية لوجود بعض مثبطات النمو في الجنين أو أغلفة الحبة أو البذرة أو الثمرة والتي تعوق إنبات البذور والحبوب والدرنات والريزومات والبصلات والبصيلات المحتوية عليها.
وعندما يبذر الفلاح البذور والحبوب والثمار في الأرض ويرويها بالماء تبدأ هذه البذور والحبوب والثمار في عملية الإنبات العجيبة حيث التغييرات الفيزيقية يتبعها التغييرات الكيميائية ثم التغييرات الحيوية، فتعطي البذرة الصغيرة شجرة الكافور الضخمة وتعطي حبة القمح القمح، وتعطي حبة الشعير الشعير وتعطي حبة الشوفان الشوفان، كل بخصائصه الخاصة والمعجزة. فهل كان الفلاح يعلم كل هذه العمليات المعجزة وهو يبذرها ويزرعها أو يستطيع إتمامها بنفسه دون ما أودع الله سبحانه وتعالى في هذه البذور والحبوب والثمار من خصائص تجعلها قادرة على الإنبات وإعطاء النبات، ولماذا لا تنبت حبوب الرمال والحصى وتنبت حبوب القمح والشعير في الرمال؟.
علينا أن نقرأ القرآن الكريم قراءة علمية واعية، وأن نتدبر آياته ويقوم كل متخصص في بيان الإعجاز في تلك الآيات القرآنية دون الدخول في تفاصيل علمية يعجز غير المتخصص عن فهمها وإدراك ما فيها من إعجاز, وهذا ما قمنا به بفضل الله عندما ألفنا كتبنا في الإعجاز العلمي النباتي، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يجعل ثواب هذا العمل المتواضع في ميزان حسناتي وحسنات والدي وكل من علمني علما نافعا، وكل من ساعدني على نشر هذا العلم النافع بإذن الله..
مع تحيات
د. نظمي خليل أبو العطا موسى
يستقبل الدكتور تعليقاتكم حول المقال على الايميل