معجزة النبات ـ البذرة
الخميس/يناير/2020
بقلم الكاتب التركي هارون يحيى
الكمال في تصميم البذرة
تكون الملقحات الذكرية التي تصل إلى أعضاء الزهرة المؤنثة قد أنهت رحلتها بواسطة الرياح أو بواسطة ناقلات أخرى وكل شيء جاهز لتكوين البذرة، وهي أهم خطوة في التكاثر الجنسي، ومن المفيد أن نتفحص هذا التكون بدءاً من التركيب العام للزهرة.
في مركز أغلب الأزهار توجد كربلة واحدة أو أكثر -وحدة عضو التأنيث في الزهرة- تكون نهايتها منتفخة وتدعى الميسم -الجزء الأعلى من مدقة الزهرة- وتحته سويقة تدعى قلم السمة، وفي الأسفل مبيض يحتوي على السمات الخاصة بالبذور، يهبط غبار الطلع الذي يأتي من الأعضاء الذكرية على الميسم وسطحه مغطى بسائل لزج دبق، وبعد ذلك يصل إلى المبيض بواسطة قلم السمة، ووظيفة السائل اللزج هامة جداً، وإذا لم تتمكن حبات غبار الطلع من الوصول إلى المبيض تحت قلم السمة فلن تقدر على تخصيب البذور، لذلك يضمن هذا السائل التصاق حبات الطلع مع بعضها البعض حتى لا تذهب سُدًى، وتتشكل البذرة حين التقاء خلايا التكاثر المؤنثة والمذكرة، تطور كل حبة غبار طلع- أو كل خلية تكاثر مذكرة- بعد نزولها فوق الميسم أنبوباً رفيعاً موجهًا نحو الأسفل وتدخل المبيض من خلال قلم السمة.
صورة توضح أقسام الزهرة والأعضاء التناسلية |
وهناك نطفتان في كل أنبوب من هذه الأنابيب وينمو الأنبوب إلى الأسفل، ويدخل المبيض وتتحرر النطاف، وبهذه الطريقة تتحد نواة إحدى النطاف مع البيضة في المبيض فتتخصب البيضة وتتطور في الرحم مشكلة فيما بعد البذرة، أما نواة النطفة الثانية فتتحد مع نواتي الخلية المركزية مشكلة نسيجاً خاصاً يحيط بالرحم ويغذيه ويعرف هذا التطور بالتخصيب.
بعد التخصيب تتغلف البيضة بغطاء، ويدخل الرحم في فترة راحة، وينمو ليصبح بذرة محاطة بمصادر الغذاء، في كل بذرة مشكلة باتحاد الخلايا الجنسية المذكرة والمؤنثة هناك نباتا جنينيا ومؤونة من الغذاء، وهذه المؤونة مهمة جداً لتطور البذرة لأنه في المراحل الأولى عندما تكون تحت الأرض لا يكون للبذرة جذور أو أوراق قادرة على إنتاج الغداء، ولذلك تحتاج إلى مصدر غذائي لتتمكن من النمو خلال هذا الوقت، إن الجنين والغذاء المخزن حوله هو ما ندعوه في الواقع بالفاكهة، ويوجد في تركيبها مستويات عالية من البروتينات والكربوهيدرات لتغذية البذور، بالإضافة إلى أنها تعد مصدراً ضرورياً لتغذية البشر والكائنات الحية؛ وتمتلك كل ثمرة أفضل الخصائص لحماية وتغذية البذور التي تحويها بدءاً من القسم اللبّي إلى كمية الماء إلى تركيب القشرة الخارجية، هناك مسألة تفصيلية هامة أخرى ألا وهي أن كل نبات يمكنه أن يخصب نباتاً آخر من الفصيلة نفسها، وإذا هبطت حبة غبار طلع على ميسم لنبات من فصيلة أخرى يفهم النبات هذا، ولا يسمح لغبار الطلع بالدخول ليصل إلى المبيض، ونتيجة لذلك لا تتطور البذرة لعدم وجود تخصيب (20)، فعلى سبيل المثال إذا سقطت حبة غبار طلع لزهرة قمح فوق شجرة تفاح لن تنتج الشجرة ثمار التفاح، ومن المفيد عند هذه النقطة أن نتوقف ونفكر قليلاً حول الطبيعة المدهشة لما سبق ذكره وهو تمييز زهرة فصيلة من النباتات حبة غبار الطلع من الفصيلة نفسها، ويمكن أن تبدأ عملية التخصيب إذا كانت من الفصيلة نفسها، أما إذا لم تكن كذلك فلن تقوم بعملية التخصيب، كيف حدث أن ميسم الزهرة المؤنثة- الذي يستطيع أن يميز غبار الطلع العائد لفصيلته نفسها تبعاً لمعيار محدد- تعلّم أن يقوم بعملية المطابقة هذه؟ كيف تعلّم أن عليه إغلاق هذه الآلية أمام حبات غبار الطلع الغريبة؟ ليس هناك شك في أن الذكاء الذي يتحكم في كل خطوة في النبات صمم هذه الآلية في الزهرة بهذه الطريقة البارعة ليضمن استمرارية الأنواع من جيل إلى جيل.
صورة توضح كيفية وصول غبار الطلع إلى البيضة في داخل الزهرة المؤنثة وتلقيحها |
ما هو نوع البيئة المناسبة لتطور جنين البذرة؟
ماذا تحتاج البذرة خلال مراحل تطورها؟
ماذا ستجد عندما تنبثق من التربة؟ ما هو نوع الحماية الذي تحتاجه؟
صُممت البذرة وفقاً لهذه الاحتياجات وتم التفكير في كل المتطلبات مقدماً إن الطبقات الخارجية التي تحمي البذور (غلاف البذور) تكون في العادة قوية جداً، وهذا التركيب يحميها من التهديدات الخارجية التي تواجهها ويقوم بالتعديلات المناسبة وفقاً للبيئة التي توجد فيها ومثال ذلك: في المرحلة الأخيرة من تطور بعض البذور تتشكل مادة شمعية مقاومة على الأسطح الخارجية، ويعود الفضل لها في مقاومة البذور لتأثيرات الماء والغاز. لا تنتهي التراكيب الدقيقة في حياة الزهرة عند هذا الحد وربما تُغطّى أغلفة البذرة بأنواع مختلفة من المواد تبعاً لفصيلة النبات، وعلى سبيل المثال تغطى حبة الفاصولياء بغشاء رقيق، وبذرة الكرز تكون محمية بغلاف خشبي قاسٍ، أما أغلفة البذور التي تحتاج لمقاومة الماء فتكون أقسى وأثخن من غيرها،
إن المواد الغذائية مثل الفيتامينات والسكريات والزلاليات التي توجد في الفواكه والثمار المختلفة تعتبر وسيلة حفاظ وتغذية للبذور وكذلك غذاء لباقي الأحياء. وتتميز الفواكه والخضر باختلافها عن بعضها البعض اختلافا كبيرا بالرغم من أنها تنشأ من تربة واحدة وبواسطة الماء نفسه. فهي بروائحها ومذاقاتها وأشكالها تمثل نماذج رائعة للتصميم الخارق. |
وإضافة إلى ذلك أعطيت البذور أشكالاً وأحجاما مختلفة تبعاً لأنواعها، وتختلف كمية الغذاء بين البذور التي عليها أن تعيش لفترة طويلة قبل التبرعم (مثال بذور جوز الهند)، وتلك التي تحتاج إلى فترة أقصر للتبرعم بعد ملامستها للماء (البطيخ، البطيخ الأحمر الخ)
وقت النثر: انتثار البذور تتنوع الأساليب التي تستخدمها النباتات عند نثرها لبذورها -جميع الطريق فعالة- باختلاف تركيب بذور كل نبات، وعلى سبيل المثال: البذور الصغيرة والخفيفة التي يمكن أن تطير مع أخف نسمة هواء تسقط فوراً عندما تحركها الريح وتتخصب بدون أية صعوبة، ويكفي بعض النباتات لكي تتكاثر بذورها أن تسقط على الأرض، بينما تنثر نباتات أخرى بذورها بطريقة القذف، ويحدث ذلك بتحرير الشدّ الذي يتشكل عند نمو البذرة داخل غلافها، وتنفصل أغلفة البذور لبعض النباتات بعد جفافها تحت أشعة الشمس بينما تُفتح بذور أخرى محتوياتها عند تأثرها بعوامل خارجية مثل الريح أو الحيوانات. النباتات التي تنثر بذورها بالانفطار قثاء الحمار المتوسطية.
الصورة إلى أعلى اليسار تمثل بذور شجرة الحور وهي تنطلق إلى الجو من الحويصلات الحاملة لها. أما الصور الأخرى فتمثل بعض النباتات التي تنفث بذورها ذات الاستطالات الخيطية الدقيقة. وهذه الاستطالات هي التي تسهل عملية طيران البذور في الهواء. |
عندما نتفحص الأساليب التي يستخدمها النبات في عملية الانتثار-المهمة جداً لتكاثر النباتات- نرى أنها دقيقة وحساسة جداً، فعلى سبيل المثال: تستخدم بعض النباتات مثل قثاء الحمار قوتها الذاتية لتنثر البذور، وعندما تبدأ قثاء الحمار في النضوج يتشكل داخلها نسغ لزج وبعد فترة يزداد ضغط هذا السائل إلى درجة أن القشرة الخارجية للقثاء لا تستطيع مقاومة الضغط فتنفجر بعيداً عن زنيدها وعندما يحدث هذا ترش القثاء السائل الموجود داخلها ومعه البذور مثل أثر صاروخ أُطلق في الجو (21) إن الآليات هنا حساسة جداً، إذ يمتلئ غلاف البذرة بالسائل عندما تبدأ القثاء بالنضوج ويحدث الانفجار في وقت النضوج الكامل، وإذا بدأ هذا النظام في العمل قبل الأوان تنفجر القثاء قبل تشكل البذور وهذا لن يحقق الهدف، ومثل هذا الاحتمال يعني نهاية فصيلة النبات، ولكن مجازفة من هذا القبيل لا تحدث أبدا، وذلك بفضل التوقيت المخطط مسبقاً. والإدعاء بأن هذه الآليات- التي يجب أن تكون قد وجدت منذ البداية – قد تطورت نتيجة لتغير دام مئات وآلاف بل ملايين السنين هو بالتأكيد ليس مبنياً على العقل أو المنطق أو العلم إن أغلفة البذور، والسائل الموجود بداخلها، ونضج البذور وكل شيء يجب أن يظهر إلى الوجود في وقت واحد ويظهر استمرار النظام الذي عمل بكفاءة تامة ولم يصبه أي خلل حتى اليوم أنه نشأ منذ البداية بشكل كامل ولا عيب فيه، وبتعبير آخر إن الله تعالى هو الذي خلق هذا النظام البديع.
الوزّال وشجرة الهيورا:
يحدث تكاثر الوزال بطريقة الفتح الذاتي نفسه، ولكن بطريقة معاكسة لتلك التي تكون في قثاء الحمار المتوسطية، ويحدث انفجار بذور الوزال بتبخر السائل عوضاً عن زيادته، وعندما تزداد حرارة الغلاف في أحد أيام الصيف فإن الجانب المواجه للشمس يجف أسرع من الجانب الذي يكون في الظل، وينقسم غلاف البذرة فجأة إلى نصفين نتيجة للاختلاف في الضغط بين الجانبين، وبهذه الطريقة فإن البذور السوداء الصغيرة داخلها تنتثر في جميع الاتجاهات أحد أكثر النباتات نجاحاً في نثر بذوره بطريقة الانفطار، هو الشجرة البرازيلية المعروفة بإسم ‘هيورا’ فعندما تجف الشجرة ويحين الوقت لانتثار بذورها يمكنها أن تقذف البذور لمسافة تصل إلى 12 متراً وهي -بالنسبة إلى الشجرة- تعتبر مسافة كبيرة (22).
لبذور الحوامة ولبذور القيقب والدلب الأوروبي تصميم مشوق جداً، فهي مجهزة بجناح ينبت من جانب واحد فقط ويتناسب وزن البذرة مع طول الجناح لدرجة أن هذه البذور يمكن أن تدور وينمو الدلب غالباً في مواقع منعزلة نسبياً، وبهذا تستطيع الريح أن تقدم للبذور مساعدة كبيرة، ويمكن للبذور بواسطة الدوران حول نفسها أن تقطع مسافات كبيرة بنسمة خفيفة (23).
تبقى البذور في أشجار البيرثوليتيا-التي تنمو في أمريكا الجنوبية- داخل أغلفتها بعد سقوطها على الأرض، والسبب وراء ذلك أنه ليس لديها خاصية تجذب اهتمام الحيوانات، إذ أنه ليس لها رائحة ومظهرها الخارجي لا يلفت النظر على الإطلاق، بالإضافة إلى أنها صعبة الكسر، ولكي تتكاثر هذه الشجرة على القرنات التي تحوي البندق أن تخرج من قشرتها الخارجية وتُدفن تحت الأرض لتشكل هذه الصفات السلبية للبرثوليتيا لأن هناك مخلوقاً يشاركها البيئة نفسها يمكنه أن يتغلب على كل هذه النواقص والعيوب، يعلم حيوان الأغوطي– وهو قارض يعيش في جنوب أمريكا- أن له طعاماً تحت القشرة السميكة عديمة الرائحة، ويستطيع الأغوطي بفضل أسنانه الأمامية الحادة أن يكسر القشرة الصلبة بسهولة ليصل إلى البذرة، ويجد حوالي 20 بندقة داخل كل قشرة، وليس بإمكان الأغوطي أن يأكلها في وجبة، لذلك يقوم بحشو البندق في جيوب داخل خده، ويغطيها بعد أن يدفنها في حفر صغيرة، وبالرغم من أنه يقوم بهذه العملية لكي يحصل على البندق فيما بعد ويأكله، إلا أنه لسوء حظه لا يملك ذاكرة قوية، ولذلك ينسى أكثر البذور فتنبت شجرة جديدة بعد حوالي سنة (24). بالطبع لم ينشأ هذا التناغم بالمصادفة ولم تكتشف هذه الكائنات الحية بعضها البعض بالمصادفة، لقد خُلقت هذه الكائنات خلقا، وهناك أمثلة لا تحصى على هذا التكامل في الطبيعة، وهو نتاج حكمة خارقة، إن الله هو مالك هذه الحكمة، وهو الذي خلق هذين الكائنين بجميع خواصهما، وأنشأ بينهما ذلك التناغم العجيب، البذور التي تصمد أمام جميع الظروف.
هناك قاعدة تقول بأنّ خلايا التكاثر في الكائنات الحية تموت بعد فترة وجيزة من مغادرتها لبيئتها الطبيعية، ولا ينطبق هذا على النباتات، فيمكن لحبات غبار طلع النبات وبذوره أن تبقى حية لآلاف الأميال بعيدة عن النبات الأم، بالإضافة إلى ذلك لا يهم الزمن الذي يمر بعد مغادرتها النبات الأم، فهناك بذور تبقى قابلة للحياة والنمو بعد سنوات وحتى مئات السنين، وجود بذور الترمس في منطقة التندرة في القطب الشمالي هو مثال ممتاز عن كيفية تمكن بذور النباتات من البقاء حية لفترات طويلة من الزمن، وتشعر بذور النباتات بالحاجة إلى الجو الدافئ في أوقات معينة من السنة لكي تنبت، وعندما تشعر أن الحرارة غير كافية حتى لو توافرت لها كل الظروف الأخرى لن تنفجر البذور، بل تنتظر في التربة المتجمدة لترتفع الحرارة، وعندما تحصل على البيئة المناسبة تبدأ في النمو وتنبت في النهاية دون الأخذ بعين الاعتبار طول الفترة الزمنية التي مرت منذ مغادرتها النبات الأم، وقد وُجدت بذور في شقوق صخور بقيت لمئات السنين بدون أن تنبت أو تفسد، إن هذا الوضع مشوق جداً ماذا يعني أن يدرك النبات البيئة الخارجية؟ بما أن النبات لن يقدر على تدبر أمره بنفسه لنتأمل ما هي الاحتمالات الأخرى: آلية داخل النبات تخبره عن الوضع، ثم يوقف النبات تطوره فجأة كما لو أنه تلقى أمراً بذلك ولكن في تلك الحالة كيف يمكن لمثل هذا النظام أن يتطور؟
كيف أنتج التقنيات الضرورية داخله؟ بالطبع لم يبنِ النبات هذا النظام بنفسه، وجميع هذه المعلومات مخزنة في الشفرة الجينية في بذرة النبات منذ نشأة النبات الأولى، وتمتلك بذرة الترمس نظاماً يستطيع إيقاف تطورها عندما تصادف جواً بارداً، ومن المستحيل لمثل هذا التركيب أن يحصل بالمصادفة من تلقاء نفسه، ومهما كان زمن التشكل الخيالي الذي دعاه التطوريون ‘الفترة التطورية’، ومهما كانت المصادفات التي حدثت خلال هذه الفترة المزعومة فإن تشكل نظام يُعلم النباتات عن حالة الجو هو شيء مستحيل تماماً.
بالطريقة نفسها تبقى الميموزا المكببة محفوظة في الأعشاب الجافة، وتنبت حال نقعها بالماء. وهناك مثال آخر لنبات تتميز بذورة بالقدرة على المقاومة، وهو ألبزيا جوليبريسين حيث بقيت بذوره محفوظة في معشبة المتحف البريطاني في لندن ونبتت بعد 147 سنة عند تعرضها للماء خلال الجهود المبذولة لإخماد حريق اندلع في البناء أثناء الحرب العالمية الثانية (25).
يحدث الفساد ببطء بسبب درجات الحرارة المنخفضة في منطقة التندرا لدرجة أن بعض البذور- التي تم أخذها من جليد عمره عشرة آلاف سنة – يمكن أن تعود للحياة عند أخذها للمختبرات وتوفير الحرارة والرطوبة المناسبة لها(26 ). كما نعرف جميعاً فإن المادة داخل البذرة تحتوي على كمية معينة من الغذاء مع قشرة خارجية تشبه الخشب والقول بأنها يمكن أن تملك ميزاناً للحرارة داخلها أو أن لها القدرة لتقرر ما العمل المطلوب بناء على معلومات تصلها من الخارج كنتيجة لقدراتها الذاتية يجب أن توصف بأنها فكرة غير منطقية وحتى ‘غير عقلاينة’ ونحن أمام مادة غير عادية تبدو مثل قطعة صغيرة من الخشب من الخارج بدون رابط بين المكان الذي حصرت فيه والعالم الخارجي، ومع ذلك يمكنها أن تقيس درجة الحرارة وفي مراحل تالية أن تقرر إذا كانت الحرارة مناسبة لتطورها وتملك قطعة من الخشب مثل هذه الآليات التامة لتدرك أن الظروف غير مؤاتية وستؤذي تطور نموها وتعلم ما يجب عليها فعله لتوقف تطورها لحظة إحساسها بهذه الظروف غير المناسبة، وتستمر في تطورها من لحظة توقفه عندما ترتفع درجة الحرارة إلى المستوى المطلوب لا يمكن تفسير هذه الآلية الرائعة في البذور مع هذا التركيب المقاوم بواسطة المصادفات كما يزعم التطوريون.
وفي الواقع لقد صممت البذور بطريقة تمكنها من مقاومة جميع الظروف الصعبة يكشف الله تعالى دلائل خلقه ووجوده حتى في هذه البذور الصغيرة:
(وَهوَ الذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون. [سورة الأنعام:99].
البذور التي تبقى في الماء 80 يوماً إلى جانب البذور التي تستطيع مقاومة ظروف الجو الباردة:
هناك بذور أخرى لها بنية تمكنها من البقاء في الماء لفترة طويلة، وبعضها يستطيع البقاء في الماء لمدة ثمانين يوماً بدون أن تنبت أو تفسد، وأشهر هذه البذور هي بذرة جوز الهند، ولكي تنتقل بأمان فهي محفوظة داخل قشرة قاسية جداً، بالإضافة إلى أن كل ما تحتاجه لرحلة طويلة متوفر فيها كمؤونة من الغذاء الغني ونصف بينت (البينت هي وحدة وزن تساوي ثمن غالون) أو ما يعادله من الماء، أما من الخارج فهي مغلفة بنسيج يمكّنها من البقاء طافية على سطح الماء إن فاصولياء البحر نوع آخر من النبات الذي يرسل بذوره بواسطة الماء لكن بذوره ليست بكبر حجم بذور جوز الهند ولكنها تظل حية ولو بمرور سنة في البحر (27)، كما رأينا في المثالين السابقين فإن أهم ميزة للنباتات التي تتضاعف باستخدام الماء كوسيلة للنقل هي أن بذورها تنبت فقط عندما تصل إلى الأرض الجافة، وفي الواقع فهذا وضع استثنائي ومثيرٌ جداً لأنه كما نعرف تبدأ بذور النباتات بالانتعاش والنمو حالما تلامس الماء، ولكن هذا لا ينطبق على النباتات المذكورة سابقا بسبب تركيبها البنيوي الخاص،
تستطيع بذور نبات ”اللوبين“ أن تكمن تحت سطح التربة لسنوات طويلة حتى تجد درجة الحرارة الملائمة للإنبات. |
تبدأ بذور جوز الهند في الإنبات حال بلوغها الشاطئ بعد رحلة طويلة عبر الماء. وقد خلقت هذه البذور بصورة لا يؤثر عليها الماء أبدا خلال تلك الرحلة. |
تعتبر فاصوليا البحر مثل جوز الهند من النباتات التي تنتقل بذورها عبر الماء. |
فالنباتات التي تنثر بذورها بواسطة الماء لا تلتزم بهذه القاعدة، وإذا كانت هذه النباتات تبدأ بالانتعاش حالما تلامس الماء، كحال النباتات الأخرى، فإنها تكون قد ماتت منذ أمد طويل، ولكن هذه النباتات تستطيع أن تعيش بسبب آليات عامة تناسب الظروف التي تعيش فيها. تمتلك جميع النباتات أفضل التراكيب التي تناسبها وهذه الخواص الاستثنائية تجعل العقل يطرح السؤال التالي:
‘كيف تكون للبذور خاصية مقاومة الماء في أنواع معينة من النباتات هي في حاجة إلى هذه المقاومة؟
لنأخذ مثال جوز الهند كجواب لهذا السؤال:
1. تحتاج بذور النخيل لتركيب مقاوم لكي تكون قادرة على البقاء فترة طويلة في الماء ولهذا السبب فقشورها قاسية ولها خواص مقاومة للماء وهذا ليس مصادفة!
2. تحتاج هذه البذور إلى غذاء أكثر من الغذاء العادي في رحلتها الطويلة، والكمية المطلوبة موضوعة بدقة داخل غلاف بذرة جوز الهند وهذا أيضاً لم يتكون بالمصادفة!
3. تفتح البذور حالما ‘تعرف’ أنها وصلت إلى الأرض الجافة ولا مجال أن تكون هذه أيضا مصادفة! كما رأينا صُممت هذه البذور -بقشورها القاسية، ومخازنها من الغذاء وأحجامها، وباختصار جميع خواصها المميزة- لتكون مقاومة لفترات طويلة، عند الضرورة ستنتعش البذور وتموت قبل أن تصل إلى اليابسة، إذا كان هذا التركيب المحسوب بدقة- أي سُمك القشرة المناسبة والمخزون المطلوب من الغذاء- نتيجة المصادفات بالطبع لا يمكن أن يحدث شيء كهذا، والفضل يعود للتحكم الدقيق في انتعاش البذور، وليس هناك أدنى شك في أن كمية الغذاء والماء في البذور التي تمكنها من الوصول إلى اليابسة (باختصار التدابير الوقائية) لم تأتِ نتيجة لذكاء أو قدرات البذور نفسها إن الله عزّ وجلّ هو الذي أنجز كلّ هذه الحسابات والقياسات الدقيقة فهو الذي خلق البذور وهو يعلم حاجاتها وخصائصها، وهو الذي يملك العلم اللاّنهائي والذكاء المطلق: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) [سورة الرعد: 8] .
(وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [سورة الحجر:19]
النمل حمال مأجور:
لبعض البذور خواص بنيوية مختلفة عن غيرها من البذور المعروفة، وتظهر حقائق مذهلة عندما نتفحصها، دعنا مثلا نأخذ بذرة مغطاة بنسيج زيتي صالح للأكل؛ ربما يبدو هذا النسيج الزيتي عادياً تماماً من النظرة الأولى، لكن له في الواقع ميزة هامة جداً لبقاء هذا النوع من النبات، وهو السبب في اهتمام النمل به ويحدث تضاعف هذه النباتات بواسطة النمل على عكس معظم أنواع النباتات، فالنبات الذي لا يقدر على وضع بذوره تحت التربة بنفسه اختار أن يفعل هذا عن طريق النمل الذي يجمع هذه البذور المغطاة بالنسيج الزيتي-وهو طعام جذاب جداً للنمل- ويحملها إلى أعشاشه حيث يدفنها تحت الأرض ربما يظن البعض أن السبب في اجتهاد النمل لجمع البذور كونها هي طعامه لكن هذا الاعتقاد خاطئ فبالرغم من كل الجهود التي يبذلها النمل ليحمل البذور إلى أعشاشه فإنه لا يأكل سوى الغلاف الخارجي ويترك اللبّ، وبهذه الطريقة يحصل النمل على شيء ليأكله، أما قسم البذرة الذي يحمل آلية تضاعف البذرة فيُترك مدفوناً في التربة (28) ؛
البذرة المبينة في الصورة تحتاج في انتقالها وتكاثرها إلى النمل. فالنمل يقوم بنقل البذرة إلى تحت مستوى التربة، ومن ثم يقوم بالتغذي على الجزء الأمامي من البذرة، وعلى هذا النحو يساهم في ظهور الجزء الملائم للنمو. ومن هنا يتضح لنا مدى عظمة الخالق عز وجل، فقد جُعل شكل البذرة المذكورة وطريقة تغذية النحل مُنسجمين مع بعضهما البعض. |
والادعاء بأن النمل يفعل كل هذا عن معرفة وأن النبات رتب أن يكون لبذوره خواص محددة تروق لنوع معين من النمل أو خطط ليكون معه في البيئة نفسها هو ادعاء غير واقعي علمياً لا مجال للجدل بأن هناك عقلا عظيما نظم هذه العلاقة التبادلية، إنه ليس النبات ولا النمل، بل هو خالق يعلم خواص كليهما، إنه الله تعالى الذي منحهما هذا الإدراك (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [سورة الروم:26].
إن الطيور تحب التغذي على الجزء اللحمي من البذور، وبالتالي تسهل عملية بروز الجزء اللازم للإنبات. |
تحول البذرة إلى نبتة المرحلة الأولى:
الإنتاش البذور – التي تشبه قطعاً صغيرة من الخشب الجاف- هي في الحقيقة حاملات للشفرات الجينية التي تحوي بداخلها آلاف المعلومات عن النباتات، وتوجد داخل البذرة جميع المعلومات المتعلقة بالنبات الذي ستنتجه فيما بعد حتى أدق التفاصيل بدءاً من الشعيرات الدقيقة في نهاية جذورها إلى الأنابيب داخل ساقها إلى أزهارها، والثمار التي ستحملها بعد التخصيب تكون أول مرحلة في تحول البذرة إلى زهرة هي الانتعاش، تبدأ البذرة الموجودة تحت الأرض في العمل عندما تتهيأ عوامل مناسبة كالدفء والرطوبة والضوء، وقبل ذلك تكون في سبات وعندما يحين الوقت تستفيق وتبدأ في النمو، هناك عدد من المراحل في عملية الإنتاش، في المقام الأول يجب أن تتعرض البذور للماء لكي تترطب الخلايا الموجودة داخلها وتصبح قادرة على النشاط الأيضي، وعند بداية هذا النشاط يبدأ البرعم والجذر في النمو، وفي هذه المرحلة تبدأ الخلايا في الانقسام؛ وعلى الخلايا التخلق لكي تبدأ بعض العمليات الخاصة بالنسج وتتطلب كل هذه العمليات قدراً كبيراً من الطاقة لكي تنمو البذرة تحتاج إلى الغداء، ولكن البذرة تحتاج إلى مصدر أولي من الطعام حتى تستطيع أن تحصل على المواد غير العضوية المطلوبة بواسطة جذورها.
تستيقظ البذور من سباتها حالما يحين الموعد الملائم لذلك، ثم تشرع في الأنبات والظهور فوق سطح مستوى التربة مهما كان هناك من عوائق. |
إذن كيف تجد البذرة غذائها الذي تحتاجه لكي تنمو؟
يكمن جواب هذا السؤال في بنية البذرة، يتشكل احتياط البذرة من الطعام معها عند عملية التخصيب، وتستخدمه البذرة حتى تتبرعم وتظهر فوق الأرض، وتحتاج البذور للغذاء التكميلي في أجسامها حتى تصل إلى مرحلة تكون قادرة فيها على إنتاج غذائها الخاص، يبدأ الإنتاش عندما تكون الظروف مناسبة وتأخذ البذرة الماء من التربة وتبدأ الخلايا الجنينية في الانقسام؛ وبعد ذلك يفتح غلاف البذرة ويظهر أول جذر صغير- هو بداية نظام الجذر- وينمو باتجاه أسفل التربة ثم بعد ذلك تتطور البراعم التي ستنتج الساق والأوراق يبدأ الإنتاش تحت الأرض ثم يتجه النبات الصغير الجديد باتجاه الأعلى نحو الضوء وينمو ليصبح أكثر قوة وحالما تتفتح الأوراق الأولى يستطيع النبات أن يبدأ في إنتاج غذائه الخاص بواسطة التمثيل أو التركيب الضوئي ما تم شرحه حتى الآن أمر معروف، فالنباتات التي تنشأ من البذور تحت التربة هو شيء معروف ومألوف لكل شخص، لكن بينما تنمو النبتة الصغيرة تحدث معجزة حقيقية لا تجد البذرة التي تزن عدداً من الغرامات صعوبة في إحداث ثقب خلال ما يمكن أن يكون بضعة كيلوغرامات من التربة من فوقها إن هدف البذرة الوحيد هو البروز من التربة والوصول إلى الضوء تحرّك النباتات التي بدأت في الإنتاش ساقها النحيلة الضئيلة وكأنها في مكان فارغ متجهة ببطء نحو ضوء النهار وكأنه لا يوجد فوقها وزن ثقيل، وهي تبرز من التربة في مواجهة قوة الجاذبية، إنها تتجاهل جميع القوانين الفيزيائية التي تسري عليها تخرج البذرة الصغيرة ذات الجذور الدقيقة بعرض نصف ميليميتر بدون أذى وتنمو بسرعة وتتطور من التربة التي تفسد الأشياء وتدمرها، تم إجراء تجارب لمنع رشيم النبتة من الوصول إلى الضوء وذلك بإغلاق طريق الهرب في أعلى البذرة بوسائل متنوعة وكانت النتائج مذهلة جداً؛ تنمّي النباتات الرشيم المتبرعم بطول كاف ليلتف على أي عقبة تقف في طريقه نحو الأعلى أو تشكل ضغطاً قوياً مزيحة العقبة التي تحجب الضوء عنها، فالنباتات التي تنمو في شقوق وتصدعات تفتح طريقاً ممهداً، وبذلك تتغلب على أية صعوبة عندما تتوجه نحو ضوء النهار تنمو البراعم بشكل عمودي دائماً عندما تخرج من التربة وعندما تفعل ذلك فهي تعارض قوة الجاذبية، بينما تطيع الجذور من ناحية أخرى قوة الجاذبية متجهة نحو الأسفل وهذا يطرح سؤالا مهما:
|
|
عندما تبدأ البذور في الإنبات لا يحول التراب الذي يغطيها بثقله أو أي مانع آخر دون بروزها إلى الأعلى لكي تتصل بأشعة الشمس. فالبذرة التي تبدأ في الإنبات تباشر صنع غذائها بنفسها بواسطة إجراء عملية التركيب الضوئي. ويتكون من نمو البذرة التدريجي نبات صغير شبيه بالنبتة الأم. وبينما تنمو البذور نحو الأعلى تنمو البذور شيئا فشيئا نحو أعماق التربة لكي تقوم بامتصاص المواد اللازمة لصنع الغذاء خلال عملية التركيب الضوئي |
لجذر الأصلي1 الجذر الثانوي 2 الجذع 3 نتوء 4. غشاء البذرة 5. الورقتان الأوليان 6 البرعم الأخير يسهل من استطالة الغصن7. |
‘كيف ينمو عضوان من النبات نفسه باتجاهين مختلفين؟
وللإجابة على هذا السؤال يحسن بنا أن نلقي نظرة على بعض آليات النباتات، هناك عاملان يتحكمان في نمو النباتات: الضوء والجاذبية. فالبرعم والجذر لديهما أنظمة حساسة لهذين العاملين هناك خلايا في الجذر لنبات منتش تحس بإشارات الجاذبية أما في الرشيم المتبرعم الذي يتجه نحو الأعلى فهناك خلايا حساسة جدا إزاء الضوء، وهذه الحساسية للضوء والجاذبية الموجودة في الخلايا تتحكم في الأقسام المختلفة من النبات المتجهة إلى الاتجاه الصحيح وهذان الحافزان قادران أيضاً على تصحيح نمو البرعم والجذر إذا لم يكن عمودياً (29) إذا نظرنا من ناحية أخرى إلى ما ذكرناه نرى أننا أمام وضع غير عادي حيث تبدأ الخلايا التي تصنع النبات في النمو في اتجاهات مختلفة وتغير شكلها لتشكل أقساماً مختلفة من النبات بالإضافة إلى ذلك ينمو البرعم والجذر باتجاهين مختلفين.
لنتأمل الآن في توجه الجذر نحو عمق التربة متوافقاً مع قوة الجاذبية وتوجه البرعم إلى الأعلى نحو سطح التربة إن حركة شق التربة في الاتجاهين من قبل الجذر والبرعم الضعيفين نسبياً تطرح في الذهن العديد من الأسئلة؛ من أو ماذا يحدد شروع الخلايا في الانقسام ومن يُرشدها إلى الطريق الذي تسير فيه؟ كيف تعلم كل خلية المنطقة التي ستكون فيها؟ كيف لا تحدث فوضى كأن تتجه خلايا الجذر إلى الأعلى؟
هناك جواب جوهري واحد لجميع هذه الأسئلة من الواضح أن النبات لا يتخذ القرار وينفذه أو يضع الأنظمة الضرورية ويشكلها في جسمه بحيث لا تحصل أي فوضى؛ ومن غير المحتمل أن يحدث تدخل أي كائن حي آخر في حدوث هذه الأنظمة، ولا تستطيع الخلايا التي يتشكل منها النبات أن تفعل ذلك أيضاً، تكشف لنا جميع هذه العوامل أن النباتات موجهة ومحكومة بقوة أخرى؛ أي أنه يجب أن يكون هناك ذكاء أعلى خلق التراكيب التي يتألف منها النبات وأرشد الخلايا لتأخذ القرارات المناسبة، وبين لها الطريق لتؤدي عملها، ليس هناك أدنى شك في أن هذه الحكمة الفائقة هي حكمة الله تعالى رب العالمين.
تختلف النباتات فيما بينها من ناحية تنوع الغلاف المحيط بالبذور، وكما هو واضح من الصورة فإن غلاف بذرة البندق يتميز بصلابته الملحوظة حيث يتكون من مادة صعبة الكسر، ولكن البذرة الكامنة داخل هذا الغلاف الصلب تبدأ في الإنبات عندما يحين الموعد الملائم لذلك دون أن تكون صلابة الغلاف المذكور عائقا أمام عملية الإنبات ونمو البذرة نحو الخارج. |
البراعم التي تتغلب على الصعوبات قد لا يجد البرعم الذي يخرج من التربة بيئة مناسبة دائماً، فربما يجد نفسه مثلاً تحت ظل صخرة أو نبات كبير؛ وبالتالي يجد صعوبة في القيام بالتركيب الضوئي في مثل هذا الوضع- إذا استمر في النمو- لأنه لا يستقبل ضوء الشمس المباشر؛ وفي هذه الحالة يُغير البرعم اتجاه نموه باتجاه مصدر الضوء وتظهر هذه العملية- المعروفة بالنزعة الضوئية-أن للبراعم نظام توجيه حساس للضوء، وعندما نقارن النباتات بالبشر والحيوانات نرى أنها تتميز عنهم في موضوع الإحساس بالضوء؛ لأن البشر على سبيل المثال يستطيعون استقبال الضوء بأعينهم فقط، بينما للنباتات ثلاث آليات على الأقل لاستقبال الضوء، ولهذا السبب لا تخطئ في الاتجاه وتجد طريقها بسهولة بفضل أنظمة التوجيه الدقيقة لديها المعتمدة على الضوء وقوة الجاذبية تتمركز إلى جانب الأنظمة الحساسة للضوء داخل النباتات مناطق انقسام الخلية -التي تعرف بالمرستيمة وهي نسيج جنيني مؤلف من خلايا قادرة على الانقسام غير المحدود- الموجودة عادة في أطراف الجذور والسويقات النامية وإذا نمت الخلايا دائماً في مناطق النمو بالطريقة نفسها خلال الإنتاش فهذا يجعل الساق تنمو بشكل مستقيم ويأخذ كل نبات شكله تبعاً لاتجاه النمو لخلايا النبات في النسج الجنينية للبراعم والجذور وإذا كان نمو الخلايا في جهة أكثر منه في جهة أخرى فستنمو ساق النبات بزاوية ، أما إذا كانت الظروف مناسبة فإن النبات يبدأ في النمو في كل المناطق في الوقت نفسه، ويوجه النبات المتبرعم ساقه بشكل مستقيم باتجاه الضوء الذي يحتاجه بشدة، ومن ناحية أخرى تنمو الجذور -التي ستزود النبات بالماء والمعادن الضرورية من التربة- بأفضل الطرق المناسبة بفضل أنظمة التوجيه الحساسة للجاذبية لديها من النظرة الأولى يمكن الاعتقاد أن الجذور تنتشر تحت الأرض بشكل عشوائي في حين أنه بفضل هذا النظام الحساس تبرز استطالات الجذور مثل الصواريخ المتجهة إلى أهدافها بشكل دقيق ومُحكم يختلف النمو الذي تحكمه هذه الآليات من نبات إلى آخر؛ لأن نمو أي نبات يكون متوافقاً مع معلوماته الجينية الخاصة، فعلى سبيل المثال أعلى معدل نمو لنبات التُرمس يكون في غضون عشرة أيام من عمره، ونبات الذرة في الأسبوع السادس، وشجرة الزان بعد ربع قرن من الزمن(30).
الإنتاش هو أول مرحلة لكي يصبح جسم البذرة الضئيل نباتاً طوله عدة أمتار ووزنه عدة أطنان، وبينما تتوجه الجذور إلى الأسفل والأغصان إلى الأعلى في النباتات بطيئة النمو فإن الأنظمة الموجودة داخلها (أنظمة نقل الطعام، والتكاثر، والهرمونات التي تتحكم في النمو العلوي والجانبي للنبات ومن ثم توقفه) تنشأ سوية وليس هناك أي تأخير أو عيب في أي منها وهذا مهم جداً؛ لأنه على سبيل المثال بينما تتطور أجهزة تكاثر النبات من جهة فإن الأنابيب الناقلة (للماء والطعام) تتطور من جهة أخرى؛ وإلا لن يكون لللحاء أو الأنابيب الخشبية أية أهمية لنبات لم تتطور آلية تكاثره بعد نظراً إلى أن مثل هذا النبات لن يستطيع أن ينتج أجيالاً لاحقة، ولم تعد هناك أهمية للآليات المساعدة الفرعية، وكما لاحظنا فهناك مخطط لهذا التصميم المتناسق للعلاقة التبادلية في النبات، والذي لم يحدث نتيجة المصادفة والتطور على مراحل -كما زعم دعاة التطور من العلماء-هو شيء مستحيل، لنبرهن على ذلك بتجربة بسيطة يمكن لأي شخص أن يقوم بها، لنأخذ بذرة واحدة ومزيجا يحتوي على جميع جزيئات بذرة من نفس النوع والحجم وندفنهما في التربة بالعمق نفسه وننتظر برهة؛ وحالما تمر فترة من الزمن تختلف حسب أنواع النبات، سنرى أن البذرة التي زرعناها شقت التربة وظهرت على السطح، لكن مهما انتظرنا فإن المادة الأخرى لن تظهر على السطح وستبقى النتيجة نفسها ولو انتظرنا لمئات بل آلاف السنين، والسبب في ذلك هو بكل وضوح التصميم الخاص للبذرة، فجينات النبات تحمل شفرة تحوي جميع المعلومات الضرورية لهذه العملية، وتكشف جميع أنظمة النباتات وجود إدراك واعٍ، كما تظهر كل التفاصيل أن النباتات لم تنشأ نتيجة أحداث عشوائية بل على العكس فهي تُظهر أن هناك إدراكاً تدخل في نشوء النباتات بالطبع إن هذا التصميم المثالي هو دليل على وجود خالق يعلم ويخلق كل شيء بأدق التفاصيل؛ كما تكشف لنا بوضوح أول مرحلة من حياة النباتات -وهي ظهور البذرة- الطبيعة الفريدة لخلق الله تعالى وينبهنا الله عز وجل إلى هذه الحقيقة في القرآن🙁 أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) [سورة الواقعة :63-65].
المصدر : موقع الداعي التركي هارون يحيى : http://www.harunyahya.com
الهوامش:
20. Temel Britannica, Vol 4, p.299
21. David Attenborough, The Private Life of Plants, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, p.15
22. David Attenborough, The Private Life of Plants, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, p.16
23. David Attenborough, The Private Life of Plants, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, p.19
24. David Attenborough, The Private Life of Plants, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, p.35
25. Malcolm Wilkins, Plantwatching, New York, Facts on File Publications, 1988, p.46-47
26. John King, Reaching for The Sun, 1997, Cambridge University Press, Cambridge, p.117
27. David Attenborough, The Private Life of Plants, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, p.22
28. David Attenborough, The Private Life of Plants, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, p.24
29. Malcolm Wilkins, Plantwatching, New York, Facts on File Publications, 1988, p.65-66
30. Guy Murchie, The Seven Mysteries of Life, USA, Houhton Mifflin Company, Boston, 1978 p.57