جريان الشمس ومستقرها
الثلاثاء/فبراير/2022
الموجز:
نعيش الآن في رحاب قول الله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ{38})[سورة يس]... وبالرغم من إبطال نفر من فقهاء المسلمين المعاصرين لحقيقة دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وذهبوا إلى دوران الشمس حول الأرض، فإن هذه المسألة لها معنا لقاء خاص… الشمس تجري… نعم، والشمس تسبح… نعم، والشمس تدور… نعم، وكل هذا وذاك واضح في الإشارات العلمية لعدد من آيات القرآن العظيم… فلماذا ورد الفعل “تجري” في الآية القرآنية التي نعيش في رحابها الآن، ولم يأت بدلا منها أفعال، مثل (تسير)، أو حتى (تسبح)؟… ولماذا وقع الخلاف فيما بين العلماء – قديما وحديثا – في فهم مدلول (لمستقر لها)… وبعد البحث والدراسة توصلنا إلى أن “مستقر الشمس” هو أجلها المسمى والمقدّر لها سلفا في المشيئة الإلهية، أيْ الوقت الذي حدده الله سبحانه لينفد عنده وقودها فتنطفئ… والأن، ندخل في تفصيلات الموضوع…
بداية نقول: إن لدينا أربع آيات في القرآن الكريم تلفت أنظار الناس إلى نعمة عظيمة أنعم الله تعالى عليهم بها، وهى نعمة تسخير الشمس والقمر لمصالحهم، واحتوت الآيات جميعها عددا من الإشارات العلمية، مثلما يشير إليه الفعل “يجري”، والجملة “لأجل مسمى”… وحين يتفكر الإنسان في هذه النعمة الكبرى، فإنه لابد وأن يقرّ لله تعالى بالوحدانية ويزعن لقدرته على تسخير المخلوقات وتفرده بمطلق المُلك والعزة والعلم… وهذه الآيات هى: (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ{2})[سورة الرعد]، ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{29})[سورة لقمان]، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ{13})[سورة فاطر]،(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ{5})[سورة الزمر]… كما وردت آية واحدة تخصص الشمس بحركة الجري، وهى قول الله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ{38})[سورة يس]. إضافة إلى آيتين تشيران صراحة إلى سباحة الأجرام السماوية في الفضاء الكوني، هما: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ{33})[سورة الأنبياء]، (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ{40})[سورة يس]…
وأما الآية التي سنركز جلّ همنا على تلمس إشاراتها العلمية، فهى الآية الثامنة والثلاثين في سورة يس، وقد نتعرّض لبعض الإشارات العلمية الواردة في الآيات المذكورة سابقا، وذلك بحسب ما نراه مفيدا لتوضيح الإشارة الواردة في الآية التي نعيش الدقائق الحالية في رحابها…
نذهب الآن إلى أحد المفسرين القدامى، ومن بعده نذهب إلى أحد المفسرين المحدثين، لنتعرف على ما عرضاه بشأن جريان الشمس المذكور في هذه الآية الكريمة… فالفخر الرازي (ت 606 هـ) يقول (في تفسيره “مفاتيح الغيب”): … وقوله: (وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي) إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها وهو وقت الغروب فينسلخ النهار، وفائدة ذكر السبب هو أن الله لما قال نسلخ منه النهار وكان غير بعيد من الجهّال أن يقول قائل منهم سلخ النهار ليس من الله إنما يسلخ النهار بغروب الشمس فقال تعالى: والشمس تجري لمستقر لها بأمر الله فمغرب الشمس سالخ للنهار فبذكر السبب يتبين صحة الدعوى ويحتمل أن يقال بأن قوله: (وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا) إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال: (وَءَايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ (37)) [سورة يس] ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار بمنافعه…
ثم يأتي محمود الألوسي (ت 1270 هـ) فينشغل – كغيره من المفسرين القدامى والمحدثين – بمسألة “المستقر”، ولم يورد في جريان الشمس سوى المعنى اللغوي، حيث قال (في تفسيره “روح المعاني”):… والجري: المرّ السريع، وأصله لمرّ الماء، ولما يجري بجريه، والمعنى: تسير سريعا…
وعلى الرغم من أن علماء الفلك في عصرنا الحالي قد توصلوا إلى إثبات الحركة الدورانية للشمس، وقدروا سرعة جريانها بأكثر من 22 ألف كيلومتر/ ثانية، وأطلقوا على هذه الحركة (للشمس وغيرها من النجوم) مصطلح “جريان النجوم Star streaming” ، فإن البعض من السلفيين المعاصرين لم يفهموا من حركة الشمس سوى شروقها وغروبها، وبالطبع هم لم يفهموا أن هذه حركة ظاهرية خادعة للشمس، وليست حقيقية، لأن الغروب والشروق مرجعه إلى دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس وليس إلى دوران الشمس… وهؤلاء (ومعهم عدد من المفسرين) قد اعتمدوا على فهمهم لآيات سورة الكهف في قصة فتية الكهف: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً{17}[سورة الكهف]، وفي قصة ذي القرنين: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً{90})[سورة الكهف]… ولم يفطن هؤلاء إلى أن حركة الشمس في آيات سورة الكهف اقترنت بفعل بشري في “ترى”، وفي “وجدها”، ويفيدان ما يشعر به المدرك (بكسر الراء) لا حقيقة المدرك (بفتح الراء)… وأما الآيات التي أوردناها في بداية لقائنا فإنها لم تقرن حركة الشمس (ولا حركة القمر) بفعل بشري يحتمل الظن…
من أشهر مَن أبطل حقيقة دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وذهب إلى دوران الشمس حول الأرض، الشيخ/ عبدالعزيز بن باز (ت 1419 هـ/ 1999م) في كتابه “الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب”، وهو الكتاب الذي نشرته الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمدينة المنورة (المملكة السعودية) في سنة 1395 هـ… وقد تابع ابن باز في آرائه عدد من الفقهاء في المملكة السعودية، من أبرزهم محمد بن صالح العثيمين ( ت 1422 هـ/ 2002م) الذي قال في إحدى فتاويه: (…والمهم أنه يجب علينا في هذه المسألة أن نؤمن بأن الشمس تدور على الأرض، وأن اختلاف الليل والنهار ليس بسبب دوران الأرض، ولكنه بسبب دوران الشمس حول الأرض)…!!
الشمس تجري… نعم، والشمس تسبح… نعم، والشمس تدور… نعم، وكل هذا وذاك واضح في الإشارات العلمية لآيات القرآن العظيم التي ذكرناها من قبل… وإنما الخلاف الذي وقع فيما بين العلماء – قديما وحديثا – كان في فهم مدلول (لمستقر لها)... لقد أثبت علماء الفلك في العصر الحالي أن الشمس تجري بسرعة 230 مليون كيلومتر/ ثانية حول مركز مجرة درب اللبانة (Milky way)، وهو المركز الذي تبعد الشمس عنه بنحو ثلاثين ألف سنة ضوئية (السنة الضوئية وحدة قياس للمسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة، وهى 9,46 تريليون كيلومتر)، ساحبة معها الكواكب السيارة التابعة لها، فتكمل دورة كاملة حول مجرتها كل 250 مليون سنة… وإذا كان العلماء يعودون بتاريخ ميلاد الشمس إلى 4.6 مليون سنة، فإنها بذلك تكون قد أتمت 18 دورة حول مركز المجرة… !!
وتشير المراجع العلمية الأجنبية إلى أن الفلكي الألماني كبلر (Kepler) – في القرن السابع عشر الميلادي – هو أول من أكد أن الشمس، والكواكب التي تتبعها، يدور كل منها في مسار خاص به، وأن الكواكب تسبح في مدارات إهليجية الشكل حول مركز هو الشمس، وفق نظام توصل كبلر نفسه إلى بعض معادلاته… وفي القرن ذاته، كان الفلكي الإيطالي جليليو (Galileo) قد توصل إلى هذه الحقيقة من خلال مشاهداته الدائمة وتعقبه لحركة الكواكب… ثم جاء الفلكي الإنجليزي ريتشارد كارينجتون (Richard Carrington) في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي واكتشف أن الشمس تدور حول نفسها خلال فترة قدّرها هو بثمانية وعشرين يوما وست ساعات وثلاث وأربعين دقيقة، وذلك من خلال تتبعه للبقع السوداء التي اكتشفها في سطح الشمس، كما أوردت هذا وكالة بحوث الفضاء الأمريكية “ناسا” …(NASA) ومن قبل هؤلاء جميعا كان المهتمون بالعلوم الفلكية يأخذون بآراء طاليس (Thales)، وأرسطو (Aristotle)، وبطليموس (Ptolemy) وغيرهم من علماء اليونان القدامى الذين قالوا إن الأرض ثابتة في مركز لكون كروي مغلق مؤلف من كرات متطابقة من الكريستال…
ولم تشر هذه المراجع العلمية الأجنبية إلى أن آيات القرآن الكريم قد صرّحت بدوران الكواكب والنجوم وغيرها من الأجرام السماوية، بل وأشارت آيات القرآن بوضوح إلى أنماط حركة هذه الأجرام، من جري وسباحة، وأشارت إلى النهاية الحتمية لكل منها، وهى الأجل المسمى عند الله الخالق الأعظم، والنهاية التي قدّرها الله، والموت الذي كتبه الله على كل مخلوق…( كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى) ، فلماذا لم ترد إشارة إلى هذا في تلك المراجع؟ لم ترد أية إشارة إلى ما ورد في القرآن الكريم وذلك بسبب جهل هؤلاء العلماء به، أو علموه ثم أخفوه، أو نسوه، أو تناسوه، ولكن تبقى المسئولية ملقاة على عاتق علماء المسلمين لأنهم أهملوا في تبليغ الدعوة ونشر كنوز القرآن في كثير من أنحاء الأرض، وسوف يحاسبهم الله على تقصيرهم هذا أشد الحساب يوم القيامة !!!
كما توصل العلماء حديثا إلى أن الشمس تتحرك حركة محورية، وهى الحركة التي تؤدي إلى تركز الغازات المتفاعلة نوويا في جوفها، وينشأ عنها قوة جذب عظمى (تبعا لكتلتها الهائلة المقدرة بنحو 333 ألف مثل كتلة الأرض) تضم الكواكب التابعة إليها، وتربطها في أفلاكها، ليستمر النظام (أو المنظومة، أو المجموعة) الشمسي منضبطا… وإذا توقفت الشمس عن حركتها المحورية، يتوقف تكوين الطاقة بداخلها، وتفقد جاذبيتها، وتختفي عوامل الربط بين الشمس وكواكبها التابع لها، فتنفلت الكواكب وتتوه في الفضاء الكوني الهائل…
ويتبقى معنا في مسألة جريان الشمس لفتة بيانية وعلمية في آن واحد، وهى في الفعل “تجري” الوارد في الآية القرآنية محل التعليق الآن، فلماذا لم يأت بدلا منها أفعال، مثل (تسير)، أو حتى (تسبح)؟ الإجابة متوفرة لدى علماء الفلك الآن، فقد اكتشفوا أن الشمس لا تدور فقط ، بل وتجري جريانا حقيقيا، وأن جريانها يشبه جري الجياد في حلبات السباق… وذلك حين اكتشفوا حركة أخرى للشمس غير حركة دورانها حول مركز المجرة، وهى الحركة الاهتزازية للأعلى وللأسفل، وكأنها تصعد وتهبط وتتقدم للأمام، وتستغرق هذه الحركة الاهتزازية نحو 60 مليون سنة… ونحن من جانبنا نعدّ هذا فهما جديدا لجريان الشمس، مبني على أساس علمي، إضافة إلى ما فهمه أسلافنا قديما من أن جريان الشمس هو حركتها الظاهرية الخادعة حين تشرق رويدا رويدا، ثم ترتفع وتتوسط السماء، ثم تذهب وتختفي وتأوي إلى مهدها وتتوارى عن أنظار الناس… وهكذا تنطوي كلمة قرآنية واحدة هى “تجري” على معجزة علمية لم يكتشفها العلماء إلا في عصرنا الحالي، وهى الحركة الحقيقية الذاتية السريعة… وبالتالي، لسنا في حاجة لنلجأ إلى المجاز في فهم الكلمة “تجري”، كما اضطر إليه معظم أهل التفسير، بل نحن الآن نفهمها على ظاهرها وحقيقتها، لا على المجاز…
نصل الآن إلى الجملة لمستقر لها الواردة في الآية الكريمة محلّ التعليق، وقد أشرنا من قبل إلى أن علماء المسلمين قديما وحديثا قد تباينت أفهامهم للمقصود بالمستقر، وفيما يلي موجز لما توصلنا إليه، مبتدئين بجولة سريعة في كتب التفسير… فصّل الفخر الرازي (ت 606 هـ) (في تفسيره “مفاتيح الغيب”) قوله في “المستقر”، واستعرض أقوال عدد ممن سبقوه، وانتهى إلى قوله: … وعلى هذا فمعناه تجري الشمس وقت استقرارها، أيْ كلما استقرت زمانا أمرت بالجري فجرت. ويحتمل أن تكون بمعنى “إلى”، أيْ (إلى مستقر لها) ، وتقريره هو أن اللام تذكر للوقت، وللوقت طرفان: ابتداء وانتهاء، يقال: سرت من يوم الجمعة إلى يوم الخميس، فجاز استعمال ما يستعمل فيه في أحد طرفيه لما بينهما من الاتصال، ويؤيد هذا قراءة من قرأ : (وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي إِلَىٰ مُّسْتَقِرٌّ لَهَا). وعلى هذا، ففي ذلك (المستقر) وجوه: الأول: يوم القيامة، وعنده تستقر ولا يبقى لها حركة. الثاني: السنة. الثالث: الليل، أيْ تجري إلى الليل. الرابع: أن ذلك المستقر ليس بالنسبة إلى الزمان، بل هو للمكان… وحينئذٍ ففيه وجوه: (1) غاية ارتفاعها في الصيف وغاية انخفاضها في الشتاء، أيْ تجري إلى أن تبلغ ذلك الموضع فترجع. (2) غاية مشارقها، فإن في كل يوم لها مشرق إلى ستة أشهر ثم تعود إلى تلك المقنطرات، وهذا هو القول الذي تقدم في الارتفاع، فإن اختلاف المشارق بسبب اختلاف الارتفاع. (3) وصولها إلى بيتها في الابتداء. (4) الدائرة التي عليها حركتها حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس… ويحتمل أن يقال:(لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا) أي تجري مجرى مستقرها…
وجاء ابن كثير (ت 774 هـ) من بعده بأكثر من قرن ونصف من الزمان، وذهب (في تفسيره “تفسير القرآن العظيم”) إلى أن المستقر قد يكون مستقرا مكانيا (تحت عرش الرحمن)، وقد يكون مستقرا زمانيا. أما الأول فاستشهد له ابن كثير بحديث نبوي (بروايات مختلفة) رواه أبو ذر رضيى الله عنه. وأما الثاني فيعني منتهى سير الشمس، وهو يوم القيامة حين تسكن حركة الشمس، وتتكور، وينتهي العالم.. فيكون (لمستقر لها) يعني لوقتها ولأجل لا تعدوه… ثم أورد ابن كثير خبرا عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه يفيد بأن المراد هو أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها، ثم تنتقل في مطالع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها… وختم ابن كثير بقراءة أخرى للآية الكريمة وردت عن ابن مسعود رضيى الله عنه وابن عباس رضي الله عنه، هى : (والشمس تجري لا مستقر لها)، وقال: أيْ لا قرار لها ولا سكون، بل هى سائرة ليلا ونهارا، لا تفتر ولا تقف، كما قال تبارك وتعالى: (وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ (33))[سورة إبراهيم] ، أيْ لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة . ( ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ) ، أيْ: الذي لا يخالف ولا يمانع ( ٱلْعَلِيمُ ) بجميع الحركات والسكنات، وقد قدر ذلك، ووقته على منوال لا اختلاف فيه، ولا تعاكس، كما قال عز وجل: (فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ (96)) [سورة الأنعام]. وهكذا ختم آية حم السجدة بقوله تعالى: (ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ).
وفيما يلي بعض ما توصلنا إليه في فهم الجملة المعجزة (لمستقر لها)، بناء على المكتشفات الفلكية الحديثة، والمعطيات العلمية الحالية… “مستقر الشمس” هو أجلها المسمى والمقدّر لها سلفا في المشيئة الإلهية، أيْ الوقت الذي حدده الله سبحانه لينفد عنده وقودها فتنطفئ، وقد أشـــارت الآية القرآنية إلى هذا بقــــول الله تعـــالى: (.. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى …{2})[سورة الرعد]. وفي القرن العشرين الميلادي فقط ، وليس قبله، توصّل علماء الفلك إلى أن الشمس، كأيّ نجم آخر، يمرّ بعدة مراحل في حياته، فله مولد وشباب وكهولة وشيخوخة وموت. وقد انتهى علماء وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” إلى أن الشمس ستنتهي طاقتها وتدخل في فئة “النجوم الأقزام” (Dwarf stars)، حين تتحول من كرة متوهجة (تجري في جوفها تفاعلات نووية اندماجية مهولة) إلى كرة مستقرة، وتموت. وافترض العلماء أن الشمس ستصل إلى هذه النهاية الحتمية بعد خمسة أو ستة بلايين من السنين… ولكننا نؤكد أن هذا محض افتراض وظن، لأن العلم الحقيقي بموعد فناء وموت أيّ مخلوق إنما هو عند الله خالقه وحده الذي قال في كتابه العزيز : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ{187})[سورة الأعراف].
“مستقر الشمس” هو الاتجاه الذي تجري الشمس (ومعها أعضاء مجموعتها من الكواكب والأقمار وغيرهما) نحوه، وقد توصل علماء الفلك مؤخرا إلى أن حركة الشمس شديدة التعقيد، وأن محصلتها هى أنها تجري باتجاه محدد لتستقر فيه، ثم تكرر دورتها من جديد، وأطلقوا على هذا الاتجاه اسم “مستقر الشمس” (Solar apex)… ومجيء العبارة القرآنية(لمستقر لها) بصيغة النكرة يدل على عظيم شأن هذا المستقر الذي قد يكون هو نجم “النسر الواقع”، وقد يكون “ثقبا أسودا” (Black hole) تتجه الشمس ومجموعتها نحوه لتقع في باطنه وتستقر فيه إلى غير رجعة… وأيا كان المستقر، كما فهم أسلافنا العلماء من أهل التفسير، أو كما يرجّح علماء الفلك المعاصرين، فالأمر لا يزال في كنف الغيب، ولا يعلم “مستقر الشمس” تحديدا إلا الله سبحانه وتعالى…
وهكذا، تعطي الكلمة القرآنية الواحدة العديد من المدلولات، وتشير إلى العديد من الحقائق، وإنما الأمر يتطلب تثوير هذه الكلمات والآيات وسبر أغوارها، والغوص في بحارها لاستخراج بعض للآلئها المخبوءة في باطنها، وهذا هو عمل الراسخين في العلم الذين كلفهم الله تعالى باستخراج كنوز كلامه وبيانه للناس، ليزداد المؤمن إيمانا على إيمانه، ويفيق غير المسلم إلى رشده، ويتأكد أن هذه الآيات والكلمات، وهذا الكتاب المجيد، إنما هو وحي الله تعالى إلى خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم … والله تعالى أعلى وأعلم
***