“والنهار إذا جلاها”.. حين يكشف النهار الشمس!

 
الأحد/يوليو/2025
   

القسم في القرآن ودلالة الشمس

من إعجاز القرآن الكريم أنه لا يكتفي بتقرير العقائد أو التشريعات، بل يربط بين الكون والكتاب، بين السماء والأرض، وبين الكلمة الإلهية والآية الكونية. ومن أبرز مظاهر هذا الإعجاز ما جاء في مستهل سورة الشمس، حيث أقسم الله جلّ وعلا بمخلوقاته العظيمة: الشمس، القمر، الليل، والنهار، ثم النفس الإنسانية، فقال:

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾ [الشمس: 1-3].

في هذا المقال نسلّط الضوء على الآية الثالثة، ونتوقف عند المفارقة اللفظية والعلمية العجيبة: كيف يُجلي النهارُ الشمسَ، مع أن الشمس هي التي تبدد الظلام وتُظهر النهار؟!

التفسير اللغوي والشرعي: تأملات المفسرين

  1. “وضحاها”
    كلمة “الضحى” في العربية تعني وقت انتشار الضوء بعد طلوع الشمس، وقد فسرها السلف بعدة معانٍ:

    • ضوئها ونورها: كما قال مجاهد وقتادة.

    • النهار كله: أي أنّ الضحى رمز لسير الشمس خلال النهار.

    • حرارتها: كما أشار بعض المفسرين إلى أن في الكلمة إشارة لحر الشمس.

    • الطبري رجّح أن القسم بالشمس وضحاها هو قسم بالشمس وما يتبعها من النهار وضوئه.

    وهذا كله يدل على أن التعبير القرآني فيه شمولٌ للمصدر (الشمس) والظاهرة (النهار)، وما يتولد عنه من حياة وحركة ونور وحرارة.

  2. “والنهار إذا جلاها”
    وهنا مربط الفَرس:
    من يُجلي من؟ وهل النهار هو الذي يُظهر الشمس، أم الشمس هي التي تُظهر النهار؟

    الآراء تعددت:

    • الرأي الأول: أن الضمير في “جلاها” يعود على “الشمس”، فيكون المعنى: النهار يُجلي الشمس، أي يُظهرها.

    • الرأي الثاني: أن الضمير يعود على “الظلمة” أو “الليل”، أي أن النهار يُزيل الظلمة ويُبددها.

    • الرأي الثالث: أن النهار يُظهر ما على وجه الأرض، كما قال السعدي: “جلا ما على وجه الأرض وأوضحه”.

    ورجّح الإمام الطبري الرأي الأول، مع الاعتراف بأن الآية تحتمل الرأيين الآخرين أيضًا لغويًا.

المفارقة التي فجّرت الإعجاز

لو اكتفى القرآن بالقول: “والشمس إذا جلت النهار”، لكان الأمر مألوفًا لا يلفت النظر. لكن التعبير “والنهار إذا جلاها” يلفت الذهن إلى علاقة معكوسة: كيف للنهار أن يُجلي الشمس وهي مصدر نوره؟!

إن هذا التحدي الظاهري للمنطق البسيط، ليس خللاً في الفهم، بل هو بوابة إلى حقيقة علمية دقيقة لم تُفهم إلا مؤخراً.

الإعجاز العلمي: كيف يُجلي النهار الشمس؟

أولًا: الغلاف الجوي هو السر

من خلال الفضاء، تبدو الشمس كنقطة باهتة محاطة بظلام دامس، حتى أثناء سطوعها الكامل. لكن على كوكب الأرض، نراها قرصًا لامعًا، محاطة بضوء النهار المنتشر والسماء الزرقاء. والسبب هو وجود الغلاف الجوي للأرض.

الغلاف الجوي يحتوي على الغازات وجزيئات الماء والغبار، وهذه الجزيئات تقوم بتشتيت أشعة الشمس (خاصة الزرقاء منها)، في ظاهرة تُعرف باسم تشتت رايلي (Rayleigh Scattering)، مما يخلق جوًّا مضيئًا يجعل الشمس نفسها تُرى بوضوح، ويجعل السماء زرقاء بدل أن تكون سوداء كما في الفضاء.

صورة للشمس من فوق القمر
صورة للشمس من فوق القمر

ثانياً: النهار ظاهرة جوية

النهار ليس مجرد نتيجة لوجود الشمس، بل هو مزيج من:

  • وجود الشمس في السماء.

  • دوران الأرض حول محورها.

  • وجود غلاف جوي يبعثر أشعة الشمس في الاتجاهات كافة.

وبالتالي فإن “النهار”، بهذا المعنى، هو البيئة التي تُظهر الشمس نفسها بشكلها المعروف للعين البشرية.

ثالثاً: انكسار الضوء

بالإضافة إلى التشتت، فإن انكسار الضوء (Light Refraction) داخل الغلاف الجوي يؤدي إلى بقاء الشمس مرئية حتى بعد غروبها الفعلي. وهذا يعزز فكرة “تجلي الشمس” في الأفق بسبب آليات فيزيائية تجعل ظهورها ممتدًا.

مقارنة حاسمة: الأرض والفضاء

المشهد على الأرض (مع غلاف جوي) في الفضاء (بدون غلاف جوي)
رؤية الشمس واضحة لامعة، تحف بها السماء الزرقاء قرص باهت حاد في ظلام دامس
الإضاءة العامة نهار منتشر بضوء مشع ظلام كامل ما لم تكن في شعاع الشمس المباشر
سبب الظاهرة تشتت وانكسار لا يوجد وسيط بصري

🔹 هذا الاختلاف الجوهري يبرهن أن ما نراه من “تجلي الشمس” في النهار هو نتيجة للغلاف الجوي، الذي هو جزء لا يتجزأ من مفهوم “النهار”.

الجمع بين العلم والتفسير

ما يُدهش في هذا المقام أن القرآن قد أشار بدقة، بكلمة واحدة “جلاها”، إلى كل هذا التعقيد الفيزيائي والفلكي. ولم تكن هذه المفاهيم معروفة زمن التنزيل، مما يجعل هذه الآية نموذجاً حياً لما يُعرف بـ”الإعجاز العلمي”.

  • لم يقل: “أنارها”، لأن الشمس منيرة بذاتها.

  • لم يقل: “أظهرها”، لأن هذا قد يوحي بعلاقة مباشرة.

  • قال: ﴿جلاها﴾، أي جعلها واضحة جليّة ببيئة النهار.

 دعوة للتفكر

إن الآية: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾ لا تصف ظاهرة بصرية عابرة، بل توثق عملية كونية تتداخل فيها عناصر عدة: الشمس، الأرض، الغلاف الجوي، والتوقيت الزمني.

إنها آية تدعو المؤمن لأن يتأمل، والباحث لأن يتدبر، والعاقل لأن يزداد يقينًا بأن هذا الكلام من عند الله.

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].


المراجع العلمية والشرعية


الوسوم:


مقالات ذات صلة