طي البروتينات السر الذي حير العلماء
الخميس/ديسمبر/2019
لقد شرحنا في مقالة سابقة بعنوان (الشيفرة الوراثية سر الحياة الأعظم) تركيب شريط الحامض النووي وذكرنا أنه يحتوي على البرنامج الرقمي المسؤول عن تصنيع أجسام جميع أنواع الكائنات وذلك ابتداء من خلية واحدة. فكامل مواصفات جسم الكائن الحي وكذلك برنامج تصنيعه قد تمت كتابتها بطريقة رقمية وبكثافة تخزين تصل إلى ثلاثين مليون حرف على كل سنتيميتر من طول الشريط. ولقد تم كتابة برنامج التصنيع باستخدام أربعة أحرف فقط على شكل شيفرات يبلغ طول الواحدة منها ثلاثة أحرف مما يعني أن عدد الشيفرات يبلغ أربع وستون شيفرة. إن كتابة المعلومات الوراثية بهذه الطريقة الرقمية وبهذه الكثافة العالية تعتبر معجزة من معجزات الحياة ولكن هذه المعجزة لا تكاد تقارن بالمعجزات الموجودة في الآليات التي يستخدمها هذا الشريط لتصنيع أجسام مختلف أنواع الكائنات الحية.
ولكي يدرك القارئ مدى صعوبة الطريقة التي يتبعها شريط الحامض النووي في تصنيع مكونات الخلية فعليه أن يتذكر أن هذا الشريط ليس له أيدي ولا أرجل تمكنه من حمل المواد العضوية التي يصنعها ويضعها في المكان المخصص لها في جسم المكون.
مما يعني أن على هذه المواد العضوية المصنعة أن تتحرك من تلقاء نفسها نحو أهدافها وتأخذ أماكنها الصحيحة في جسم هذا المكون بدون أيّ تدخل من أي قوة خارجية. ولكن السؤال الذي حير العلماء هو في الكيفية التي تتمكن فيها هذه المواد العضوية من أخذ مواقعها في جسم المكون من تلقاء نفسها وبدون مساعدة من أحد يقوم بحملها ويضعها في الأماكن المخصصة لها كما يفعل البشر عند قيامهم بتصنيع ما يصنعون.
لقد انصبت جهود علماء الأحياء على كشف الأسرار الرئيسية في هذه الطريقة الربانية لتصنيع الأشياء فالسر الأول يتعلق بالطريقة التي يتمكن بها الشريط الوراثي أحادي البعد من تصنيع البروتينات وهي جزيئات ثلاثية الأبعاد تستخدم كلبنات لبناء مكونات الخلية وكأنزيمات للتحكم في العمليات الحيوية ولقراءة المعلومات الوراثية.
أما السر الثاني فيتعلق بالطريقة التي يتم بها بناء مكونات الخلية البالغة الصغر والبالغة التعقيد من هذه البروتينات في غياب أي قوة خارجية تقوم بوضعها في الأماكن المخصصة لها في جسم المكون. أما السر الثالث فيتعلق بالطريقة التي تنقسم بها الخلية إلى خليتين متماثلتين وكذلك الشريط الوراثي إلى شريطين. أما السر الرابع فيتعلق بالطريقة التي تصطف بها الخلايا المنقسمة لتصنع كل جزء من أجزاء جسم الكائن الحي وذلك ابتداء من خلية واحدة. ولقد تمكن علماء الأحياء من كشف بعض الآليات المتعلقة بالسر الاول من أسرار هذه الطريقة الذاتية في التصنيع وهو قدرة الشريط الوراثي على تصنيع أشرطة مكونة من سلسلة طويلة من الأحماض الأمينية تقوم بالالتفاف على نفسها من تلقاء نفسها لتنتج مكونات ثلاثية الأبعاد بالغة الصغر تسمى البروتينات.
ولقد وجد العلماء أن أنواع ومواقع الأحماض الأمينية في سلسلة البروتين يتم اختيارها بشكل بالغ التقدير بحيث لا يمكنها أن تلتف على نفسها إلا بطريقة واحدة فقط لتنتج شكل البروتين الذي يقوم بوظيفة محددة. وبهذا الاكتشاف تمكن العماء من فهم الآلية التي يتبعها الشريط الوراثي الأحادي البعد في بناء أجسام ثلاثية الأبعاد وهي مكونات الخلية الحية وأجسام الكائنات الحية وذلك من خلال تصميم أشكال البروتينات بحيث لا يمكنها أن تتراكب في جسم المكون إلا بطريقة واحدة فقط بحيث ينتج عنها الشكل الوحيد الذي يجب أن يكون عليه هذا المكون.
وعلى الرغم من اكتشاف العلماء لسر طريقة التصنيع الذاتية إلا أنهم فتحوا على أنفسهم بابا واسعا يمتليء بالأسرار التي لا زالوا يقفون عاجزين عن كشفها. ومن هذه الأسرار هو في الطريقة التي يتم بها اختيار أنواع ومواقع الأحماض الأمينية في السلاسل بمنتهى الدقة بحيث تلتف على نفسها بطريقة محددة لتنتج أشكالا ثلاثية الأبعاد له خصائص فيزيائية وكيميائية مميزة تحدد الوظيفة التي سيقوم بها البروتين. وسنثبت أن تصنيع بروتين ما لكي يقوم بوظيفة محددة عملية مستحيلة ليس على الصدفة بل على علماء الأحياء المعاصرين بما أوتوا من علم وبما يملكون من أجهزة ومعدات. وإذا ما ثبت أن الصدفة مهما أعطيت من زمن والعلماء مهما أوتوا من علم وملكوا من معدات لا يمكنهم تصنيع أبسط أنواع البروتينات فعلى العاقل أن يعترف بأن الذي قام بصنع هذا البروتينات لا بد وأن يكون صانعا لا حدود لعلمه وقدرته.
أما المشكلة الثانية فهي ما أطلق عليه العلماء “مشكلة طي البروتين” وهي تتعلق بالطريقة التي يتبعها البروتين للالتفاف على نفسه بشكل واحد فقط من بين ملايين الأشكال المحتملة وليس هذا فحسب بل إن عملية الإلتفاف تتم في زمن لا يتجاوز جزء من ألف جزء من الثانية. تتكون البروتينات من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية التي يبلغ عدد أنواعها في الكائنات الحية عشرين نوعا ويتراوح طول هذه السلاسل ما بين عدة عشرات وعشرات الآلاف من هذه الجزيئات. ويتم اختيار أنواع الأحماض الأمينية ومواقعها في هذه السلسلة بمنتهى الدقة بحيث تحدث تجاذباﹰ أو تنافراﹰ بين هذه المواقع ممّا يؤدي إلى التفاف وطي هذه السلاسل على بعضها البعض بطريقة محددة منتجة شكلا ثلاثي الأبعاد له من الخصائص الميكانيكية والكيميائية والكهربائية المميزة التي تمكنه من القيام بالوظيفة التي صنع من أجلها.
وكما أنه ليس كل الكلمات التي يتم تأليفها من ترتيب الأحرف الهجائية يكون لها معنى فإنه ليس كل ترتيب للأحماض الأمينية ينتج بروتين يمكنه القيام بوظيفة محددة كما أثبت ذلك العلماء في أبحاثهم. وإذا كانت احتمالية تكون جملة مفيدة مكونة من عدة كلمات بالصدفة شبه مستحيلة فإن تكون بروتين الأنسولين الذي هو أحد أقصر البروتينات المعروفة والذي يبلغ طوله خمسين حمضا أمينيا من خلال الصدفة يكاد أن يكون مستحيلا.
ولتوضيح مدى الدقة التي يتطلبها ترتيب الأنواع المختلفة من الأحماض الأمينية في سلسلة بروتين معين فقد اكتشف العلماء أن وجود خطأ واحد في أحد الأحماض الأمينية المكونة لبروتين الهيموجلوبين الموجود في خلايا الدم الحمراء والمكون من خمسمائة وأربعة وسبعين حمضا أمينيا قد تسبب في تقليل قدرة هذا البروتين على الإمساك بجزيء الأوكسجين ونقله من الرئة إلى خلايا الجسم المختلفة بما يسمى مرض فقر الدم. وللقارئ أن يتخيل قياسا على هذا المثل فداحة العواقب المترتبة على حدوث مثل هذه الأخطاء بمعدلات عالية في ترتيب الأحماض الأمينية لعشرات الآلاف من أنواع البروتينات التي تحتاجها الكائنات الحية للقيام بالوظائف الحيوية المختلفة. ونظرا لطول سلاسل البروتينات فإن عدد البروتينات النافعة التي يمكن تصنيعها من ترتيب الأحماض الأمينية العشرين يفوق أضعافا مضاعفة عدد الكلمات المفيدة التي يمكن تركيبها من الأحرف الهجائية العربية وذلك لأن طول السلسلة التي يتكون منها البروتين يزيد عن خمسين وقد يصل إلى خمسين ألف حمض بينما لا يتجاوز طول الكلمة العربية العشرة أحرف. وبسبب وجود هذا العدد الهائل من أنواع البروتينات النافعة نجد هذا التنوع الهائل في أشكال وألوان وروائح وتراكيب الكائنات الحية التي يزيد عدد أنواعها عن عدة ملايين. فهناك البروتينات التي تدخل في بناء خلايا أعضاء الحيوانات كالجلد واللحم والعظم والشعر والريش والأظفار والغضاريف والقلب والكبد والرئة والمعدة والعين والأذن وغير ذلك من الأعضاء.
وهنالك البروتينات الموجودة في أوراق وأزهار وثمار وبذور النباتات التي تتفاوت تفاوتا كبيرا في ألوان وروائح أزهارها وطعم ثمارها وبذورها. وهناك البروتينات التي تقوم بالعمليات الكيميائية والحيوية في داخل الخلايا الحية المختلفة كالأنزيمات والهرمونات التي لا حصر لعدد أنواعها.
أما الاكتشاف الأكثر إثارة فهو توصل العلماء إلى أن كل كلمة من الكلمات المكتوبة على شريط الحامض النووي ما هي إلا شيفرة تمثل أحد الأحماض الأمينية العشرين التي تلزم لتصنيع جميع أنواع البروتينات الموجودة في مختلف أنواع الكائنات الحية.
وعلى الرغم من وجود فائض في عدد الكلمات التي توفرها الشيفرة ثلاثية الأحرف إلا أنه قد تم استغلال الكلمات الزائدة بشكل بارع من خلال تخصيص أكثر من شيفرة لبعض الأحماض الأمينية المهمة وذلك بهدف تقليل احتمالية الخطأ عند نسخ المعلومات عن الشريط وهذا هو نفس الأسلوب المتبع في تقليل احتمالية الخطأ عند نقل المعلومات في الأنظمة الرقمية الحديثة. وإلى جانب الشيفرات المستخدمة لتمثيل الأحماض الأمينية يوجد في قاموس الشيفرة الوراثية كلمة واحدة (AUG) تحدد بداية كتابة الأوامر المتعلقة بتصنيع البروتين وثلاث كلمات (UAA, UAG, UGA) تحدد نهاية كتابة هذه الأوامر فبدون ذلك فإن حدوث إزاحة بمقدار حرف واحد أو حرفين عن البداية الصحيحة للجملة كفيل بتدمير كامل المعلومات الموجودة عليها. وبعد أن تأكد للعلماء استحالة أن تبني البروتينات نفسها بنفسها بالصدفة فإنه لا بد في هذه الحال من وجود برنامج على شريط الحامض النووي يحدد نوع وطريقة ترتيب الأحماض الأمينية اللازمة لتصنيع البروتين المطلوب.
وما هذه البرامج المسؤولة عن تصنيع البروتينات إلا الجينات الوراثية الموجودة على الكروموسومات حيث يوجد على كل كروموسوم عدد كبير من الجينات المسؤولة عن تصنيع مختلف أنواع البروتينات حيث يتراوح عدد الجينات في الكائنات الحية ما بين عدة جينات كما في الفيروسات وما يقرب من مائة ألف جين في الإنسان.
ويتم تصنيع البروتينات في داخل ما بسمى بالرايبوسومات الموجودة في سيتوبلازم الخلية بعد أن يتم تزويد هذه المصانع بالأحماض الأمينية المكونة للبروتين ونسخة من التعليمات التي تبين ترتيبها. وبما أن هذه التعليمات مخزنة على الشريط الوراثي الموجود في نواة الخلية والذي لا يمكنه مغادرتها بسبب كبر حجمه النسبي فقد تمكن العلماء من اكتشاف شريط حامض نووي أحادي السلسلة يسمى الشريط المراسل (mRNA) يقوم بأخذ نسخة عن ترتيب الأحماض الأمينية وينقلها إلى الرايبوسومات وتسمى هذه العملية بعملية النسخ (Transcription).
إن عملية النسخ عملية بالغة التعقيد لا مجال لشرح تفصيلاتها في هذه المقالة ولكن ملخصها أنه عندما يعطي الشريط الوراثي الأمر لتصنيع بروتين معين فإن إنزيم خاص بهذا البروتين يذهب إلى مكان محدد على الشريط الوراثي حيث يوجد الجين المنشود ثم يقوم بفتح سلسلتي الشريط الرئيسي في هذا المكان فيقوم الشريط المراسل بأخذ نسخة عن الشيفرات التي تحدد سلسلة الأحماض الأمينية.
ومن الجدير بالذكر أن أحد الأحرف الأربعة التي تكتب بها المعلومات على الشريط الوراثي وهو حرف (T) يتم استبداله بحرف جديد وهو حرف (U) عند كتابة المعلومات على الشريط المراسل لسبب لا زال العلماء يجهلونه.
وعندما تنتهي عملية النسخ يتحرر الشريط المراسل وتنغلق سلسلتي الشريط الوراثي على نفسها ثم يغادر الشريط المراسل نواة الخلية متجها إلى سبتوبلازم الخلية حيث توجد مصانع البروتينات (الرايبوسومات).
ومما يثير الدهشة أن بنية الشريط المراسل تتطابق تماما مع بنية الحزم الناقلة للبيانات في شبكات الحاسوب والإنترنت فهو مكون من سلسلة من الأحرف غير المشفرة تسمى المقدمة (Leader) ومن ثم شيفرة البدء (start codon) والتي تشير أن ما بعدها هي شيفرات الأحماض الأمينية ومن ثم شيفرة الوقف (stop codon) التي تشير إلى نهاية سلسلة شيفرات الأحماض الأمينية والتي يتبعها سلسلة أحرف إشارة الإنتهاء (Trailer).
وكما هو واضح من الشكل المرفق فإن الشريط المراسل محمي أيضا عند أطرافه بسلسلة من الأحرف لضمان حماية إشارات الإبتداء والإنتهاء من أي تدمير قد يصيبها أثناء إنتقالها عبر مكونات الخلية. وعند وصول الشريط المراسل إلى الرايبوسوم تبدأ عملية تصنيع البروتين في داخله ويسمى علماء الأحياء هذه العملية بالترجمة (Translation) حيث يتم تصنيع شريط من الأحماض الأمينية يحكم تسلسلها سلسلة الشيفرات التي يحملها الشريط المراسل. ويعتبر تركيب الرايبسوم معجزة كبرى من معجزات الحياة فهو أعظم وفي نفس الوقت أصغر مصنع في هذا الكون. فعليه تقوم ظاهرة الحياة على الأرض فهو يقوم بتحويل المعلومات المخزنة على الشريط الوراثي إلى مكونات ثلاثية الأبعاد وهي البروتينات التي تبنى منها أجسام الكائنات الحية.
إن أبعاد هذا المصنع لا تتجاوز عشرين نانومتر (النانومتر جزء من بليون جزء من المتر) مما يعني أنه مصنع لا يمكن رؤيته بأي ميكروسكوب ضوئي وهو مكون من ما يقرب من خمسين نوعا من البروتينات وعدد قليل من الأحماض النووية الرابوسومية (rRNA). ويتكون الرايبوسوم من وحدتين الكبرى والصغرى تكونان مفصولتان عن بعضهما قبل وصول الشريط المراسل وبمجرد وصوله فإن الوحدتين تنجذبان إلى مقدمته ثم تطبقان عليه لتتحركان عليه كوحدة واحدة. وتحتوي الوحدة الكبرى على ثلاثة تجاويف أو مواقع (E, P, and A sites) سنبين وظائفها بعد أن نشرح تركيب الشريط الناقل. والشريط الناقل (tRNA) هو شريط حامض نووي قصير يحمل على أحد جنبيه شيفرة أحد الأحماض الأمينية وعلى الجنب الآخر الحامض الأميني المناظرة وبهذا يوجد لكل حامض أميني من الأحماض الأمينية العشرين شريط ناقل خاص به.
وللشريط الناقل شكل عجيب حيث يلتف على نفسه ليكون على شكل إشارة الزائد (+) حيث تتكون ثلاثة دوائر عند ثلاثة رؤوس بينما يرتبط الحامض الأميني عند الرأس الرابع. ومن المحتمل أن هذا الشكل العجيب هو الذي يساعد الرايبوسوم على التحرك بشكل قفزات بحيث تساوي القفزة الواحدة ثلاثة أحرف. إن كل من التجاويف الثلاث في وحدة الرايبوسوم الكبرى تتسع لشريط ناقل واحد فقط مع ما يحمل من حامض أميني. ويستخدم تجويف (A) لإدخال شريط ناقل جديد بعد أن تتطابق شيفرته المكملة مع شيفرة الشريط المراسل التي تقع أسفل التجويف. أما تجويف (P) فيستخدم لربط الحامض الأميني الذي يحمله الشريط الناقل مع سلسلة الأحماض الأمينية التي سبق ربطها وأما تجويف (E) فيستخدم للتخلص من الشريط الناقل بعد فصل الحامض الأميني عنه. وعلى عكس جميع المصانع فإن الرايبسوم بسبب صغر حجمه البالغ هو الذي يتحرك على الشريط وليس العكس وذلك على شكل قفزات تساوي ما مقداره عرض ثلاثة أحرف أي نانومتر واحد. ولا زال العلماء يجهلون الآلية التي يستخدمها الرايبوسوم للتحرك على الشريط وكذلك الآلية التي تضمن تحركه على شكل قفزات كل قفزة تساوي تماما عرض شيفرة واحدة فقط.
وإلا فإن إزاحة خاطئة بحرف واحد أو حرفين ستؤدي إلى تدمير كامل المعلومات الموجودة على الشريط. وتتم عملية تصنيع البروتين من خلال قيام الرايبوسوم بالوقوف على كل شيفرة من الشيفرات التي يحملها الشريط المراسل وذلك لحين وصول الأشرطة الناقلة المكلفة بنقل الأحماض الأمينية الموزعة في سيتوبلازم الخلية إلى موقع الرايبوسوم. وعندما يصطف الشريط الناقل بجانب تجويف الرايبوسوم الأول يتم مقارنة الشيفرتين فإن تطابقت يقوم الرايبوسوم بإدخال هذا الشريط وإن لم تتطابق فإنه سيهمله ويقوم بفحص بقية الأشرطة الناقلة التي تحيط به إلى أن يعثر على الشريط المطلوب. وبعدها يقوم الرايبوسوم بإدخال الشريط الناقل إلى التجويف الثاني ليتم فصل الحامض الأميني عنه وريطه بسلسلة الأحماض الأمينية التي سبق ربطها وأخيرا يقوم الرايبسوم بدفع الشريط الناقل بعد تجريده من الحامض الأميني إلى التجويف الثالث ليخرج منه إلى خارج الرايبسوم ليمسك بحامض أميني جديد.
وتتكرر هذه العملية إلى أن ينتهي الرايبوسوم من ربط جميع الأحماض الأمينية حسب الترتيب الموجود على الشريط المراسل ومن ثم يقوم بتحرير سلسلة الأحماض الأمينية التي قام بربطها والتي تبدأ بالالتفاف حول نفسها لتنتج البروتين المطلوب كما سنبين ذلك بعد قليل.
أما الخطوة الأخيرة في تصنيع البروتين فهي أن السلاسل البروتينية أحادية البعد التي يصنعها الرايبسوم تلتف على نفسها بطريقة فريدة لتنتج جزيئات ثلاثية الأبعاد بأشكال وأحجام وخصائص فيزيائية وكيميائية محددة وذلك لكي تقوم بوظيفة محددة في جسم الكائن الحي. ولا زال علماء الأحياء في حيرة من أمرهم حول الآلية التي يتبعها البروتين للالتفاف على نفسه حيث وجدوا أنه بمجرد أن ينتهي الرايبسوم من تصنيع سلسلة البروتين فإنه يقوم بالالتفاف على نفسه لينتج الشكل المطلوب في زمن لا يتجاوز جزء من ألف جزء من الثانية. وقد قام أحد العلماء بحساب الزمن اللازم لالتفاف سلسلة بروتينية بطول مائة حامض أميني فيما لو تمت بطريقة المحاولة والخطأ فوجده يساوي مائة بليون بليون بليون سنة! أما في داخل الخلية الحية فيوجد سلاسل بروتينية يصل طولها إلى عدة آلاف من الأحماض الأمينية ولكنها تلتف على نفسها في جزء لا يذكر من الثانية. ولا زال علماء الأحياء يجهلون سر طريقة الإلتفاف هذه رغم آلاف الأبحاث العلمية التي أجريت لحل هذه المشكلة ورغم استخدامهم لأضخم الحواسيب العملاقة لمحاكاة هذه العملية ولذلك أطلقوا عليها اسم “مشكلة طي البروتين”.
إن شكل البروتين الناتج عن التفاف السلسلة البروتينية يتحدد بشكل رئيسي من أعداد الأحماض الأمينية على هذه السلسلة وطريقة ترتيبها ولذلك فإن اختيار طول السلسلة البروتينية وكذلك طريقة ترتيب الأحماض الأمينية عليها لإنتاج بروتين يقوم بوظيفة معينة لا يمكن أن يتم إلا من قبل صانع لا حدود لعلمه وقدرته. فكيف يمكن لصانع محدود العلم كالإنسان أن يحدد تسلسل الأحماض الأمينية التي تنتج بروتينات شفافة للضوء وأخرى حساسة لترددات محددة في الطيف الضوئي لاستخدامها في عيون الكائنات أو إلى غير ذلك من البروتينات التي يصل عدد أنواعها في الكائنات الحية إلى مئات الآلاف! ولقد وجد العلماء أن كثيرا من الأمراض التي تصيب الكائنات الحية مردها إلى فشل بعض البروتينات من الالتفاف على نفسها وذلك بسبب حصول خطأ واحد فقط في أحدى الشيفرات الوراثية التي أنتجتها.
إن مكونات الخلية المختلفة يتم تصنيعها من خلال إنتاج جميع البروتينات اللازمة لبنائها ومن ثم تقوم هذه البروتينات بالتراكب مع بعضها البعض بشكل تلقائي وبتسلسل محدد وذلك بمجرد التقائها في حيز واحد. ولا يمكن لهذه العملية أن تنجح إلا إذا تم تصنيع كل بروتين من البروتينات التي تدخل في تركيب هذا المكون بشكل فريد ومميز بحيث لا يمكنه الارتباط بجسم المكون أثناء عملية تصنيعه إلا في مكان محدد.
ولتوضيح ذلك فإن عملية تصنيع المكون تبدأ بارتباط بروتينين لإنتاج شكل محدد لا يسمح إلا لبروتين ثالث محدد الشكل بالارتباط بهما لينتج شكلا جديدا لا يسمح بدوره إلا لبروتين محدد آخر للارتباط به وهكذا تستمر عملية البناء من خلال تسلسل محدد لعملية اتخاذ البروتينات لمواقعها المحددة في جسم المكون. وبعد أن تنتهي عملية تصنيع المكون بالشكل المطلوب لا يسمح لأي بروتين مهما كان نوعه بالارتباط بجسم المكون وإلا لتغير شكله ولفشل في القيام بوظيفته.
إن هذه الطريقة في تصنيع مكونات الخلية أشبه ما تكون بالطريقة التي يبني بها الأطفال مكعبات الليغو أو الرسومات المبعثرة على قطع الكرتون أو ما يسميه العلماء طريقة المفتاح والقفل. ولولا أن العلماء يرون بأم أعينهم الخلايا وهي تصنع جميع مكوناتها بكل سهولة ويسر ولا تكاد تخطئ في إنتاج هذه المكونات بأشكالها المطلوبة مهما تكررت عملية التصنيع لظن بعضهم أن عملية تصنيع المكونات هذه هي ضرب من الخيال. ومما حير العلماء أنه في داخل الخلية الواحدة التي لا يتجاوز قطرها عدة ميكرومترات يتم إنتاج آلاف الأنواع من البروتينات في نفس الوقت وبكميات كبيرة جدا ولكنها محسوبة بشكل بالغ الدقة.
وللقارئ أن يتخيل منظر آلاف الأنزيمات وهي تفتح الشريط الرئيسي في مواقع مختلفة عليه ومنظر الأشرطة المراسلة وهي تقوم بنسخ تعليمات التصنيع من هذه المواقع ثم تتجه صوب الرايبسومات لتسلمها هذه التعليمات ومنظر الأشرطة الناقلة وهي تتجمع حول الرايبسوم لتزودها بالأحماض الأمينية اللازمة لها. وعلى الرغم من هذا التشابك المعقد الناتج عن حركة ملايين الجزيئات من الأشرطة المراسلة والناقلة والرايبوسومات ومزودات الطاقة في داخل الخلية التي لا ترى بالعين المجردة إلا أنها تتم بشكل بالغ الانتظام بحيث لا يمكن لأي جزئ أن يخطأ الهدف الذي صنع من أجله فسبحان القائل “قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” طه 50.
المراجع
1. بداية الخلق في القرآن الكريم، د. منصور العبادي، دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 2006م. 2. طبيعة الحياة، تأليف فرانسيس كريك، ترجمة أحمد مستجير، عالم المعرفة، أيار 1988م، الكويت. 3. الجينوم (السيرة الذاتية للنوع البشري)، تأليف مات ريدلي، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، عالم المعرفة، تشرين ثاني 2001م، الكويت. 4. مشكلة طي البروتين، فريدرك ريتشارد، مجلة العلوم الأمريكية، كانون ثاني 1991م. 5. مجلة العلوم الأمريكية-إكتشاف جزيئات الحياة- عدد خاص (العلوم في القرن العشرين) 1991.
يستقبل الدكتور منصور العبادي تعليقاتكم على المقالة على الإيميل:
لمزيد من المقالات للكاتب:
http://mansourabbadi.maktoobblog.com/