إشارات الآيات للإنبات في النبات

نحن الآن نعيش لدقائق في رحاب قول الله تعالى: “أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ{60}” [سورة النمل]، وهى آية أنزلها الله سبحانه دليلا على تفرّده بالخلق والإيجاد، ومن المناسب أن نبدأ بجولة في أشهر كتب التفسير.
دليل الخلق:
قال أبو جعفر الطبري (ت 310 هـ) في تفسيره “جامع البيان في تفسير القرآن” ما موجزه: يقول الله تعالـى للـمشركين به من قُرَيش: أعبـادة ما تعبدون من أوثانكم التـي لا تضرّ ولا تنفع خير، أم عبـادة من خـلق السموات والأرض؟.

“وأنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء” يعنـي مطراً، وقد يجوز أن يكون مريداً به العيون التـي فجَّرها فـي الأرض، لأن كل ذلك من خـلقه. “فَأنْبَتْنا بِهِ” يعنـي بـالـماء الذي أنزل من السماء “حَدَائِقَ”، وهي جمع حديقة، والـحديقة: البستان علـيه حائط مـحوّط، وإن لـم يكن علـيه حائط لـم يكن حديقة. وقوله: “ذَاتَ بَهْجَةٍ” يقول: ذات منظر حسن… وموجز ما ورد في تفسير “مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير” للفخر الرازي (ت 606 هـ): في قوله تعالى: “أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ”... المسألة الثانية: بيّن الله تعالى أنه الذي اختص بخلق السموات والأرض، وجعل السماء مكاناً للماء، والأرض للنبات، وذكر أعظم النعم، وهى الحدائق ذات البهجة، ونبه تعالى على أن هذا الإنبات في الحدائق لا يقدر عليه إلا الله تعالى، لأن أحدنا لو قدر عليه لما احتاج إلى غرس ومصابرة على ظهور الثمرة. وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يُخص بالعبادة. ثم قال: “بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ”، وقد اختلفوا (أي المفسرون السابقون) فيه فقيل: يعدلون عن هذا الحق الظاهر، وقيل يعدلون بالله سواه… المسألة الثالثة: يقال ما حكمة الالتفات في قوله: “فَأَنبَتْنَا”؟ جوابه: أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السموات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى، وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان، فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل للمسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة، فلما كان هذا الاحتمال قائماً، لا جرم أزال (الله) هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله: “فَأَنبَتْنَا” وقال: “مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا”، لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلاً بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها، فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا.
ومن أبرز المفسرين المحدثين، نختار محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) الذي استفاض في تفسير الآية “أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ{60}” [سورة النمل] (في تفسيره “التحرير والتنوير”)، وهذا موجز لما عرضه: عدّد الله الخيرات والمنافع من آثار رحمته ومن آثار قدرته. فهو استدلال مشوب بامتنان لأنه ذكّرهم بخلق السموات والأرض فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتوي عليها الأرض من الناس والعجماوات (الحيوانات)، فهو امتنان بنعمة إيجادهم وإيجاد ما به قوام شؤونهم في الحياة، وبسابق رحمته. “أَمَّنْ للاستفهام، وهى مبتدأ، والخبر جملة “خلق السموات.. ” الخ، وهو استفهام تقريري على أن الله إله واحد لا شريك له، ولا تقدير في الكلام… والخطاب بـ “لكم” موجه إلى المشركين للتعريض بأنهم ما شكروا نعمة الله. وذكر الله إنزال الماء لأنه من جملة ما خلقه، ولقطع شبهة أن يقولوا إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء، اغتراراً بالسبب فبودروا بالتذكير بأن الله خلق الأسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما، ولذلك جمع بين قوله “وأنزل” وقوله “فأنبتنا” تنبيهاً على إزالة الشبهة. ونون الجمع في “أنبتنا” إلتفات من الغيبة إلى الحضور. ومن لطائفه هنا التنصيص على أن المقصود إسناد الإنبات إليه لئلا ينصرف ضمير الغائب إلى الماء لأن التذكير بالمنبت الحقيقي الذي خلق الأسباب أليق بمقام التوبيخ على عدم رعايتهم نعمه.
ونقتطف من تفسير “خواطر” لمحمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) ما يلي: … وقوله تعالى: “وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً”: السماء: كلُّ ما علاك فأظلَّك، والماء معروف أنه ينزل من السحاب وهو مما علانا… للماء فوائد كثيرة في حياتنا، بل هو قِوَام الحياة، لذلك اقتصرتْ الآية على ذكْر الحدائق لأنها قوام حياة الإنسان في الأكل والشرب… وقال “ذَاتَ بَهْجَةٍ..”، مع أنك لو نظرتَ إلى القمح مثلاً – وهو عَصَب القوت – لوجدته أقل جمالاً من الورد والياسمين والفُل مثلاً، وكأن ربك يقول لك: لقد تكفلتُ لك بالكماليات وبالجماليات، فمن باب أَوْلَى أوفر لك الضروريات… والحق تبارك وتعالى يريد أن يرتقي بِذوْق عباده وبمشاعرهم، واقرأ مثلاً قوله تعالى:”ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ.. “[الأنعام: 99]، يعني: قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في جمالها ومنظرها البديع، وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صُنْع الله.

عملية الإنبات.. علميا:
ورد في كتب علم النبات أن البذرة تتألف من ثلاثة مكونات، هى: الجنين، وهو الأساس في عمليّة الإنبات، وينتج الجنين من اندماج الأعراس أو الأمشاج (الجاميتات Gamete) المذكّرة والمؤنثة. وهي خلايا جنسية أحادية، تتكون أثناء الانقسام المُنصِّف. ويمكنها الاتحاد مع خلية جنسية أحادية أخرى لإنتاج بييضة مُخصَّبة ثنائية المجموعة الكروموسومية). وقد يوجد في البذرة أكثر من جنين. ويتكوّن الجنين من ستّة أجزاء، هي: السويقة السفلى، والفلقات، والريشة، والجذير، والسويقة العليا. الأنسجة المخزّنة للغذاء، ويتمّ تخزين الغذاء في الفلقات أو في الإندوسبيرم. غلاف البذرة، ويتكوّن من بقايا غلاف البييضة، ويتصلّب ليصبح داكنا.
ويعرف إنبات البذرة بأنه قدرتها على النمو بعد فترة السكون التي تتوقّف فيها العمليات الحيوية. وتبدأ عمليّة الإنبات عندما تتوفّر الظروف الملائمة للإنبات. ولابد للإنبات من توفر عمليات فيزيائية وعمليات كيميائية. وأهم العمليات الفيزيائية امتصاص الماء، فيؤدّي إلى انتفاخ الخلايا، وتغيّر قوام السيتوبلازم، ويصبح جدار البذرة طرياً وقادراً على إدخال الغازات إلى البذرة، وتنطلق الحرارة كنتيجة لهذه العمليّة… ولمزيد من التوضيح، فقد تظل البذرة (أو الحبة) في التربة لسنوات عدة دون أن تنبت ولا تتحرك إلى أن ينزل عليها الماء فتبدأ العملية العجيبة… تلك هى “عملية الإنبات أو الإنتاش” (Germination) ، وهى العملية التي قد يجريها طفل حين يضع بذورا فوق قطعة قطن مبللة بالماء، ولا يدرى الطفل أنه تسبب بذلك في بدء عملية عجيبة، ذات قوانين رياضياتية دقيقة. هذه العملية تعتمد على غلاف البذرة (أو الحبّة)، فإذا غير منفذ للماء فإن الماء لا يصل إلى الجنين، وبذلك لا تنبت البذور… وبذور بعض النباتات ذات قصره (أيْ غلاف) صلبة (crust) غير منفذة للماء (مثل بذرة الخروع)، ولكي تستمر حياتها فقد زوّدها الله تعالى في مقدمة الحبة بثقب محاط بتركيب إسفنجي يتشرب الماء بسرعة، فينفذ الماء من الثقب ويصل إلى الجنين. والبذرة العادية (كبذور الفول البلدي) لها ثقب يسمى “النقير” (micropyle) يدخل منه الماء إلى داخل البذرة…
وبعد دخول الماء إلى البذرة تحدث فورا تغيرات فيزيائية، فتنتفخ الحبة لتزداد في الحجم، ولذا يتمزق الغلاف (أو القصرة)، وفي نفس الوقت تجري عمليات كيميائية، فيبدأ الجنين في إفراز كميات من الإنزيمات المحللة للمواد الغذائية المدخرة في البذور والحبوب، فتحولها من مواد معقدة التركيب إلى مواد بسيطة التركيب، صغيرة الجزيئات، تنفذ خلال جدران الخلايا. وتقوم هذه الإنزيمات بتحليل بعض المواد الصلبة، كتلك التي توجد في بذرة شجرة الدوم ، وتحولها إلى مواد رخوة لبنية اللون والقوام، حلوة الطعم سهلة الهضم والامتصاص…
ومن الجدير بالذكر القول إن هذه العمليات تتم في درجة الحرارة العادية (وهى تتراوح بين 25-30°م)، ولكن إذا أردنا أن نقوم بنفس هذه العملية في المعمل (المختبر) فإننا نحتاج إلى عشرات من المهندسين والفنيين، وإلى مصانع ذات معدات وأجهزة ضخمة ومعقدة… أما في عالم الشهادة (الطبيعة)، فإن هذه العملية المعقدة تجري في هدوء عجيب بداخل تلك البذرة التي وضعها الطفل فوق قطعة القطن المبللة بالماء… وأثناء ذلك، وبعده، تبدأ عمليات حيوية مثيرة: فيحدث انقسام خلوي، وتتكوّن صبغيّات (كروموسومات)، وتنسج مغازل (Spindles)، وتبنى جدران، وتنبعث حرارة، وتدبّ الحياة، وتتكشف الأعضاء، ويظهر جذر متجها نحو الأرض، وساق متجهة نحو السماء…
ويذكر البعض أنه حين توضع الحبوب والبذور من عدة أصناف نباتية مختلفة في سفن الفضاء لدراستها (وقد أحيطت بكل ما يلزمها من ظروف للإنبات) فإنها تنبت كما تنبت على الأرض، ولكن بصورة مختلفة، فعلى الأرض تنمو البادرة ويتجه الجذر دائما إلى أسفل (بفعل قوة الجاذبية الأرضية)، بينما تنمو الساق إلى الأعلى متجهة نحو الشمس.. وأما في الفضاء – وفي منطقة انعدام الوزن، حيث لا أرض تجذب الجذر، ولا شمس يتجه نحوها الساق- تخرج نموات الجذر بامتداد النمو الساقي، أيا كان الاتجاه!! فكيف تفاهمت خلايا الجذر مع خلايا الساق على هذا الاتجاه، بحيث يكون الجذر والساق على امتداد واحد..؟! ولماذا لم يمتد الجذر مع الساق إلى ناحية واحدة وليس على امتداد واحد؟! لا يمكن أن يتم هذا عبثا أو دون تدبير قوة حاكمة فاعلة قديرة، نعم إنها قدرة إله عظيم ليس من إله غيره، هو الله سبحانه وتعالى …
وتشمل العمليات الكيميائيّة للإنبات التنفّس، وبدء عمل الإنزيمات، وإنتاج إنزيمات مسئولة عن هضم الغذاء، فتحوّل النشا إلى سكر، وتحلّل الدهون إلى الأحماض الدهنية والجليسرول، والبروتينات إلى أحماض أمينية.
ومن ناحية أخرى، فإن بذرة النبات تحتوي من المعلومات ما ينوء بحمله أدق كمبيوتر في العالم بعشرات المرات، بذرة قد لا يزيد حجمها على حجم رأس دبوس، لشجرة ضخمة كشجرة الجميز أو شجرة الكافور، وبالرغم من ذلك تتضمن المعلومات التي أودعها الله فيها، كشروط الإنبات، وطريقة الإنبات، ومتطلبات النبات، ومواقيت خروج الجذيُر، وشروط ظهوره، ومراحل انقسامه، واتجاه سريانه… إلخ. وفيها معلومات عن نوع الغذاء المطلوب وتركيبه ومحللاته ومتطلباته، وفيها الريشة، ويكمن فيها شكل الأوراق وألوانها وحجم الشجرة الخارجي، ومتى تزهر الشجرة، وما لون أزهارها؟ ومتى تثمر، وطعم ثمارها؟ ومتى تسقط الأوراق، ومتى تنبت البراعم؟ وكيف تواجه برودة الشتاء وهواء الخريف، وحرارة الصيف… إلى غير هذا وذك من عشرات المليارات من المعلومات!!

التدبر في آيات الكتاب المسطور والتفكر في آيات الكتاب المنظور:
نأتي الآن آية قرآنية نزلت من عند الله منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، آية تشير إلى المعاني العملية التي عرضنا لبعض منها… آية يقول الله سبحانه فيها: “أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ{60}” [سورة النمل]… فإن الله سبحانه يسوق دليلا على وحدانيته، ويلفت نظر الناس إليه، ذلك هو دليل الخلق، خلق السماوات وخلق الأرض وإنزال المطر على الأرض، وإنبات النبات به، وخروج النباتات المتنوعة والحدائق والبساتين المختلفة بهذا الماء الواحد… إن هذه الأشكال المتنوعة لهى آثار لقدرة الله، ودليل واضح على إحكام تدبيره… وهي، أيضا، دليل على أن هناك قوة وقدرة عليا واحدة فقط هى التي تستطيع أن تتكفل بكل أنواع الخلق، وتنجز كل أنماط الجمال الذي ينتشر في أرجاء الكون، وليس هناك من قدرات أخرى تنازعها هذه الهيمنة المطلقة على الكائنات.. وكذلك، فقد احتوت الآية القرآنية إشارة إلى أن عملية الإنبات، تبدأ بوصول الماء إلى البذرة، فتنتفخ ويجري إذ ذاك العديد من العمليات الفيزيائية والكيميائية والحيوية، فيظهر الجنين، ثم يظهر الجذر ويتجه لأسفل، ثم تظهر الريشة إلى أعلى لتعطي الساق والمجموع الخضري …إلخ .. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.. إنك أنت العليم الحكيم…
***


الوسوم:

مقالات ذات صلة