شبهة حول الإعجاز الغيبي في الكتاب المقدس

Missal of a priest with bookmark

بقلم الأستاذ عبد الرحيم الشريف  

دكتوراه في علوم القرآن والتفسير

أولاً: عرض ونقد نصوص الإعجاز الغيبي المزعومة

 نص الشبهة   

لا يخفى أن الكتاب المقدس يشتمل على قسم كبير من النبوات التي تمّ أكثرها،والباقي لا بد من أن يتمّ في حينه، وقد سبق الله فأنبأ بفم أنبيائه الكرام بحصول حوادث متعددة من قيام ملوك وسقوط آخرين،وخراب مدن عظيمة،وانقراض أمم شادت لنفسها عزاً باذخاً،ولم تكن لتحلم بما حل بها من الفناء قبل حصوله،

فناحوم النبي تنبأ بصراحة بخراب نينوى قصبة الأشوريين،المدينة العظيمة التي كان ارتفاع أسوارها مئة قدم،ومحيطها ستين ميلا، وعليها ألف وخمس مئة برج،ارتفاع كل منها مئتا قدم في حالة عظمتها، وقد تم هذا حرفياً، وإشعياء وإرميا تنبأا بخراب بابل قصبة الكلدانيين،وهي في حال سمو مجدها وعظمة اقتدارها وزهوها،فلم يمض مئة وستون سنة من تاريخ النبوة حتى خربت بابل العظيمة حسب النبوءة، وقد ذكر هيرودتس وزنفون المؤرخان كيفية خرابها مما يطابق أشد المطابقة ما أنبأ به النبيان، ومن النبوات الكتابية أيضاً نبؤة [الصواب: نبوءة] حزقيال عن مدينة صور حيث نرى الحقائق التالية التي أثبتها وشهد لها التاريخ، في الأصحاح 26 عدد – 8 – يخرب نبوخذ نصر هذه المدينة، وفي العدد – 3 – يقول النبي تقوم دول كثيرة عليها وفي – 4 – تصبح صخرة عارية وفي – 25 – يبسط الصيادون شباكهم على موقعها و- 12 – تلقى أنقاضها في البحر وفي – 14 – ولن تقوم للأبد و- 21 – تقرير وتأكيد زوالها، وبعد نبوة حزقيال بثلاث سنوات حاصر ملك بابل صور مدة 13 سنة حتى استسلمت له وقبلت شروطه – 585 573 ق،م – ولما اقتحمها اكتشف أن سكانها قد هجروها بالسفن إلى جزيرة جديدة في عرض البحر على بُعد نصف ميل من صور،، فقام بتخريب صور كما أشار النبي حزقيال في 26:8، وجاء الاسكندر الكبير، فحاصر المدينة الجديدة العاصية مستخدماً أنقاض القديمة كممر بحري إلى الجديدة بعد 60 متراً واستولى عليها، كما أشار حزقيال في 26:3 و12 وأضحت صخرة عارية كما تقول النبوة في عددي 4 و5“.

 

 

الجواب:

 

 

 

أولاً: مناقشة النبوءات المزعومة:

 

1. نبوءة ناحوم: ناقضها ما ورد في سفر يونان (يقولون إنه يونس u). 

فقد تحدث سفر يونان عن توبة أهل نينوى، بعد التقام الحوت ليونان. بينما ورد في سفر ناحوم ـ الذي توفي بعد يونان ـ أن نينوى لم تُعرَف إلا بالشرور والكذب.

انظر مثلاً [ناحوم 3/1]: ” ويل لمدينة الدماء كلها ملآنة كذباً وخطفاً “.

و[3/19]: ” جرحك عديم الشفاء. كل الذين يسمعون خبرك يصفقون بأيديهم عليك “.

2. نبوءة إشعيا:

لا يوجد دليل على صحة نسبة الموجود في سفر إشعيا إليه؛ نقل رحمة الله الهندي عن أبرز علماء النصارى قولهم: ” لا يمكن أن يكون  الباب الأربعون وما بعده إلى الباب السادس والستين من كتاب إشعيا من تصنيفه”، فسبعة وعشرون باباً ليس من تصنيف إشعيا “.

ثم ذكر خطأً تاريخياً فيه ـ عزاه النصارى لخطأ المترجِم ! ـ: ” في الآية الثامنة من الباب السابع من كتاب إشعيا هكذا ترجمة عربية سنة 1671م وسنة 1831م: “وبعد خمسة وستين تفنى أرام أن يكون شعباً ” ترجمة فارسية سنة 1838م (بعد شصت وبنج سأل فرائم شكته خواهدشد) وهذا غلط يقيناً لأن سلطان أسور  تسلط على افرائم في السنة السادسة من جلوس حزقيا كما هو مصرح في الباب السابع عشر والثامن عشر من سفر الملوك الثاني، ففنيت أرام في مدة إحدى وعشرين سنة وقال (وت رنكا) وهو من علماء المسيحية: “وقع الغلط في النقل ههنا، وكان الأصل ست عشرة وخمس وقسم المدة هكذا  من سلطنة أخذ ست عشرة سنة ومن سلطنة حزقيا خمس سنين”، وقوله وإن كان تحكماً صرفاً لكنه معترف بأن العبارة الموجودة الآن في كتاب إشعيا غلط وحرف مترجم الترجمة الهندية المطبوعة سنة 1843م في الآية الثامنة المذكورة هداهم اللّه لا يتركون عادتهم القديمة “.

3. نبوءة أرميا:

ويقول رحمة الله الهندي عن صحة نسبته إليه أيضاَ: ” (وكتاب أرميا) الباب الثاني والخمسون منه ليس من تصنيف أرميا قطعاً، وكذلك الآية الحادية عشرة من الباب العاشر ليست منه، أما الأول فلأن آخر الآية الرابعة والستين من الباب الحادي والخمسين هكذا ترجمة فارسية سنة 1838م: (كلمات يرميا تابدينجا اتمام بدرفت) ترجمة فارسية سنة 1845م (كلام يرميا تابدينجاست) ترجمة عربية سنة 1844م (حتى إلى الآن كلام أرميا) وأما الثاني فلأن الآية المذكورة في اللسان الْكسْدي وسائر الكتاب في اللسان العبراني، ولم يعلم أن أي شخص ألحقهما، والمفسرون المسيحيون يقولون رجْماً بالغيب: لعل فلاناً أو فلاناً ألحقهما، قال جامعو تفسير (هنري واسكات) في حق الباب المذكور: “يعلم أن عزرا أو شخصاً آخر ألحق هذا الباب، لتوضيح أخبار الحوادث الآتية التي تمّت في الباب السابق ولتوضيح مرتبته”، وقال هورن في الصفحة 195 من المجلد الرابع: ” أُلحِقَ هذا الباب بعد وفاة أرميا، وبعد ما أُطلق اليهود من أسر بابل، الذي يوجد ذكره قليلاً في هذا الباب” ثم قال في المجلد المذكور: ” إن جميع ملفوظات هذا الرسول بالعبري إلا الآية الحادية عشرة من الباب العاشر فإنها بلسان الكسدينر، وقال القسيس (ونما) إن هذه الآية إلحاقية “.

في الباب الخامس والعشرين من كتاب أرميا هكذا: ” القول الذي كان لأرميا عن جميع شعب يهوذا في السنة الرابعة ليواقيم بن يوسيا ملك يهوذا، وهي السنة الأولى لبختنصر ملك بابل، (11) ويكون كل هذه الأرض قفراً وتحيراً وتعبد جميع هذه الأمم لملك بابل سبعين سنة، (12) وإذا تمت سبعون سنة افتقد على ملك بابل وعلى تلك الأمة يقول الرب بإثمهم وعلى أرض الكلدانيين وأجعلها قفراً أبدياً “

وفي الباب التاسع والعشرين من الكتاب المذكور هكذا: “وهذه هي أقوال الكتاب الذي أرسل به أرميا النبي من أورشليم إلى بقايا مشيخة الجلاء وإلى الكهنة وإلى الأنبياء وإلى كل الشعب الذي سباه بختنصر من أورشليم إلى بابل(2) من بعد خروج يوخانيا الملك والسيدة والخصيين ورؤساء يهوذا وأورشليم والصناع والحاضر من أورشليم (10) هكذا يقول الرب إذا بدأت تكمل في بابل سبعون سنة أنا أفتقدكم وأقيم عليكم كلمتي الصالحة لأردكم إلى هذا المكان”..

وفي الباب الثاني والخمسين من الكتاب المذكور هكذا ” (28) هذا هو الشعب الذي أخلاه بختنصر في السنة السابعة ثلاثة آلاف وثلاثة وعشرين يهوديا (29) في السنة الثامنة والعشرين لبختنصر من أورشليم ثمانمائة وثلاثين نفساً (30) في السنة الثالثة والعشرين لبختنصر أجلى بنور زادن قائد الجيش سبعمائة وخمسة وأربعين نفساً، فجميع النفوس أربعة آلاف وستمائة “.

فعلم من هذه العبارات ثلاثة أمور:

1. أن بختنصر جلس على سرير السلطنة في السنة الرابعة من جلوس يواقيم. وهو الصحيح، وصرح به يوسيفس اليهودي المؤرخ أيضاً في الباب السادس من الكتاب العاشر من تاريخه فقال: ” إن بختنصر صار سلطان بابل في السنة الرابعة من جلوس يواقيم” فإن ادعى أحد غير ما ذكرنا يكون غلطاً ومخالفاً لكلام أرميا u، بل لا بد في اعتبار السنين أن تكون السنة الأولى من جلوس بختنصر مطابقة للسنة الرابعة من جلوس يواقيم.

2.أن أرمياء أرسل الكتاب إلى اليهود بعد خروج يوخانيا الملك ورؤساء يهودا والصناع.

3. أن عدد الأسارى في الإجلاءات الثلاثة كان أربعة آلاف وستمائة وكان الإجلاء الثالث في السنة الثالثة والعشرين. فأقول: ههنا ثلاثة أغلاط:

الغلط الأول: أن جلاء يوخانيا الملك ورؤساء يهودا والصناع كان قبل ميلاد المسيح، على ما صرح المؤرخون بخمسمائة وتسع وتسعين سنة، وصرح صاحب ميزان الحق في الصفحة 60 من النسخة المطبوعة سنة 1849م بأن هذا الإجلاء كان قبل ميلاد المسيح بستمائة سنة، وكان أرميا أرسل كتابه إليهم بعد خروجهم، فلا بد أن يكون إقامة اليهود في بابل سبعين سنة، وهو غلط لأنهم أطلقوا بحكم قورش سلطان إيران قبل ميلاد المسيح بخمسمائة وست وثلاثين سنة، فكان إقامتهم في بابل ثلاثاً وستين سنة، لا سبعين، وأنقل هذه التواريخ من كتاب مرشد الطالبين إلى كتاب المقدس الثمين المطبوع سنة 1853م في بيروت، وهذه النسخة تخالف النسخة المطبوعة سنة 1840م في أكثر المواضع على العادة الجارية في المسيحيين، فمن شاء تصحيح النقل فعليه أن يقابل النقل بعبارة النسخة المطبوعة سنة 1862م وهذه النسخة موجودة في كتبخانة جامع بايزيد بالأستانة، فأقول: في الفصل العشرين من الجزء الثاني في جدول تاريخي للكتاب المقدس من هذه النسخة المطبوعة سنة 1852 هكذا 

 

السنة قبل المسيح

سنة العالم

599

كتابة أرمية لليهود المأسورين هناك أي في بابل

3405

536

وفاة داريوس المادي خال قوش وخلافة قورش مكانه على مادي وفارس وإطلاقه اليهود وإذنه لهم بالرجوع إلى اليهودية

3468

 

الغلط الثاني: أن عدد الأسرى في الإجلاءات الثلاثة أربعة آلاف وستمائة، وقد صرح في الآية الرابعة عشرة من الباب الرابع والعشرين من سفر الملوك الثاني أن عشرة آلاف من الأشراف والأبطال كانوا في الإجلاء الواحد، والصناعون كانوا زائدين عليهم.

والغلط الثالث: أنه يُعلم منه أن الإجلاء الثالث كان في السنة الثالثة والعشرين من جلوس بختنصر، ويعلم من الباب الخامس والعشرين من سفر الملوك أنه كان في السنة التاسعة عشرة من جلوسه “.

أما عن صحة نسبة أسفار الأنبياء إليهم، فهي قضية شائكة عند علماء اللاهوت. وقد عقد د. منقذ السقار فصلاً بعنوان: ” إبطال نسبة أسفار الأنبياء إليهم ” ومما جاء فيه:

” – سفر إشعيا:

وينسب السفر للنبي إشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد، فقد عاصر الملك عزيا ثم يوثام ثم أحاز ثم حزقيا، ولكن السفر يتحدث عن الفترة الممتدة بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد مما يؤكد أن ثمة كاتباً أو كاتبين قد كتبوا ذلك بعد إشعيا، ومن أمثلة ذلك حديثه عن بابل الدولة العظيمة وتنبؤه بانهيارها.

وأيضاً حديثه عن كورش الفارسي الذي ردّ اليهود من السبي (انظر 44/28 – 45/1).

 كما يتحدث عن رجوع المسبيين والشروع في بناء الهيكل في الإصحاحات 56 – 66، لذا يقول العالم الألماني أستاهلن: ” لا يمكن أن يكون الباب الأربعون وما بعده حتى الباب السادس والستين من تصنيف إشعيا”.

– سفر إرمياء:

أما سفر إرمياء فإن تقاليد الكنيسة تنسبه للنبي إرمياء، ولا تصح هذه النسبة، إذ هو من عمل عدة مؤلفين، بدليل تناقضه في ذكر الحادثة الواحدة، ومن ذلك تناقضه في طريقة القبض على إرمياء وسجنه (انظر: إرمياء 37/11 – 15 و38/6 – 13).

كما يحمل السفر اعترافاً بزيادة لغير إرمياء ففيه [36/33] ” فأخذ إرمياء درجاً آخر، ودفعه لباروخ بن نيريا الكاتب، فكتب فيه عن فم إرميا، كل كلام السفر الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا بالنار، وزيد عليه أيضاً كلام كثير مثله “.

وفي موضع آخر [51/64] ” إلى هنا كلام إرمياء “، ومع ذلك يستمر السِّـفر، فمن الذي أكمله؟ “.

فبنقض نسبة الأسفار إلى الأنبياء، لا يكون للإعجاز التاريخي فيها أي معنى.. فما المانع من أن تكون نصوصه كتبت بعد حصول تلك الحوادث ؟!

4. نبوءة حزقيال:

ما نسب إلى حزقيال من نبوءة صادقة فهو كلام مغلوط، بحسب التفصيل التالي:

ملخص في الباب السادس والعشرين من كتاب حزقيال هكذا: “وكان في السنة الحادية عشرة في أول الشهر فكان إلى قول الرب: ها أنا ذا أجلب على صور بختنصر ملك بابل، مع خيل ومراكب وفرسان وجيش وشعب عظيم، وبناتك التي في الحفل يقتلهن بالسيف، ويحاصرك ويرتب حولك مواضع للمناجق، ويرفع عليك الترس، ويضرب بالمنجنيق أسوارك وبروجك يهدمها بسلاحه ويدوس جميع شوارعك، ويقتل شعبك بالسيف ومناصبك الشريفة إلى الأرض، وينهبون أموالك ويسلبون تجارتك، ويهدمون أسوارك وبيوتك العالية ويخربونها، وحجارتك وخشبك وغبارك يلقونهن في وسط المياه، وأعطيتك لصخرة صفية وتصير لبسط الشباكات ولن تبنى” اهـ ملخصاً.

وهذا غلط، لأن بختنصر حاصر صور ثلاث عشرة سنة، واجتهد  اجتهاداً بليغاً في فتحها، لكنه ما قدر ورجع خائباً ولما صار هذا الخبر غلطاً احتاج حزقيال إلى العذر، وقال في الباب التاسع والعشرين: “وكان في السنة السابعة والعشرين قول الرب إلى أن بختنصر استعبد جيشه عبودية شديدة في ضد صور، بحيث صار كل رأس محلوقاً، وكل كتف مجرداً وأجره لم يرد عليه، ولا بجيشه من صور، فلهذا أعطيت بختنصر أرض مصر يأخذ جماعتها ويسلب نهبها ويخطف أسلابها ويكون أجراً لجيشه والعمل الذي تعبد به ضدها فأعطيته أرض مصر من أجل أنه عمل لي” انتهى ملخصاً.

وفيه تصريح بأنه لما لم يحصل لبختنصر ولعسكره أجر بمحاصرة صور، وعد اللّه له مصر، وما علمنا أن هذا الوعد كان بمثل السابق، أم حصل له الوفاء، هيهات هيهات!! أيكون وعد اللّه هكذا أيعجز اللّه عن وفاء عهده؟

الفرق بين نبوءة سورة الروم وما نسب إلى حزقيال فرق كبير:

1. فسيدنا محمد rحاضر لتلك النبوءة، بيان النبوءة كان في حياته، وكذلك تأكيدها في حياته أيضاً. فلم يتراجع عنها أو يؤولها وهذا أشد ثباتاً. 

2. نبوءة القرآن الكريم أدق في تحديد موعدها، فالآية الكريمة حددته ببضع سنين، بينما نص سفر حزقيال كان عامَّـاً.

3. درجة الصعوبة أشد لبعد مكان حرب الفرس والروم، وجهل العرب ببيئة كل طرف، وحالته الاقتصادية والعسكرية.

4. لا يوجد ما يقطع بصحة موعد كتابة سفر حزقيال، فلا مانع من كتابتها بعد سقوط صور.

5. كثير من نبوءات سفر حزقيال لم تتحقق.. ومنها:

–   يقول إن الله وعد نبوخذ نصر الوثني وعداً لم ينجز فهو من الأغلاط ولا ريب، فقد وعده أن يملكه على مدينة صور، ثم لم يتحقق له ذلك، فوعده بأرض مصر، ولم يتحقق ذلك أيضاً، فدل ذلك على أن هذا الوعد ليس من الله، لأن الله قادر على إنجاز وعده، فقد جاء في سفر حزقيال [26/7-14] : ” قال السيد الرب: هاأنذا أجلب على صور نبوخذ راصر ملك بابل من الشمال، ملك الملوك، بخيل وبمركبات وبفرسان وجماعة وشعب كثير، فيقتل بناتك في الحقل بالسيف، ويبني عليك معاقل، ويبني عليك برجاً، ويقيم عليك مترسة، ويرفع عليك ترساً، ويجعل مجانق على أسوارك، ويهدم أبراجك بأدوات حربه، ولكثرة خيله يغطيك غبارها، من صوت الفرسان والعجلات والمركبات تتزلزل أسوارك عند دخوله أبوابك كما تدخل مدينة مثغورة، بحوافر خيله يدوس كل شوارعك، يقتل شعبك بالسيف، فتسقط إلى الأرض أنصاب عزك، وينهبون ثروتك، ويغنمون تجارتك، ويهدّون أسوارك، ويهدمون بيوتك البهيجة، ويضعون حجارتك وخشبك وترابك في وسط المياه.. لا تُبنين بعد، لأني أنا الرب تكلمت “. 

لكن هذا الوعد لم يتحقق، إذ استعصت صور على ملك بابل، ولم يدخلها، ولم يغنم منها غنيمة، فوعد بأرض مصر بدلاً عنها، يقول السفر [29/17-20]: ” كلام الرب كان إليّ قائلاً: يا ابن آدم، إن نبوخذ راصر ملك بابل استخدم جيشه خدمة شديدة على صور، كل رأس قرع، وكل كتف تجردت، ولم تكن له ولا لجيشه أجرة من صور لأجل خدمته التي خدم بها عليها، لذلك هكذا قال السيد الرب: هاأنذا أبذل أرض مصر لنبوخذ راصر ملك بابل، فيأخذ ثروتها، ويغنم غنيمتها، وينهب نهبها، فتكون أجرة لجيشه، قد أعطيته أرض مصر لأجل شغله الذي خدم به، لأنهم عملوا لأجلي”.

ولم يتحقق ذلك الوعد إذ لم يملك نبوخذ نصر أرض مصر أبداً، وإن وصلت جيوشه إلى حدود مصر سنة 605 ق.م، حين هزمت قواته المصريين في معركة قرقميش، لكن بقيت مصر تحت حكم الأسرة السادسة عشر من حكام الفراعنة.

ولم تتحقق تلك الوعود التي استمرت الأسفار تعرضها في أربعة إصحاحات من سفر حزقيال، ومما جاء فيها [29/8-15] ” لذلك هكذا قال السيد الرب: ها أنذا أجلب عليك سيفاً، واستأصل منك الإنسان والحيوان. وتكون أرض مصر مقفرة وخربة.. وأجعل أرض مصر خِرباً خربة مقفرة، من مجدل إلى أسوان إلى تخم كوش، لا تمر فيها رجل إنسان، ولا تمر فيها رجل بهيمة، ولا تُسكن أربعين سنة. وأجعل أرض مصر مقفرة في وسط الأراضي المقفرة، ومدنها في وسط المدن الخربة تكون مقفرة أربعين سنة، وأشتت المصريين بين الأمم، وأبددهم في الأراضي، لأنه هكذا قال السيد الرب: عند نهاية أربعين سنة أجمع المصريين من الشعوب الذين تشتتوا بينهم، وأرد سبي مصر، وأرجعهم إلى أرض فتروس، إلى أرض ميلادهم، ويكونون هناك مملكة حقيرة، تكون أحقر الممالك، فلا ترتفع بعد على الأمم، وأقللهم لكيلا يتسلطوا على الأمم”.

ويمضي السفر فيقول [30/6 – 10]: ” قال الرب: ويسقط عاضدو مصر وتنحط كبرياء عزتها من مجدل إلى أسوان يسقطون فيها بالسيف. يقول السيد الرب: فتقفر في وسط الأرض المقفرة، وتكون مدنها في وسط المدينة الخربة فيعلمون أني أنا الرب.. قال السيد الرب: إني أبيد ثروة مصر بيد بنوخذ نصر ملك بابل “.

” قال السيد الرب: سيف ملك بابل يأتي عليك، بسيوف الجبابرة أسقط جمهورك، كلهم عتاة الأمم، فيسلبون كبرياء مصر، ويهلك كل جمهورها، وأبيد جميع بهائمها عن المياه الكثيرة، فلا تكدرها من بعد رجل إنسان، ولا تعكرها أظلاف بهيمة، حينئذ أنضب مياههم، وأجري أنهارهم كالزيت.

يقول السيد الرب: حين أجعل أرض مصر خراباً، وتخلو الأرض من ملئها عند ضربي جميع سكانها يعلمون أني أنا الرب ” [حزقيال 32/11 – 15]، وكل من هذه الوعود لم يتحقق، وعدم تحققه يدل على أن هذا من أغلاط الكُتّاب، وهو دليل بطلانه وكذب كاتبيه.

وغيرها كثير…

كان ينبغي لكاتب سفر حزقيال أن يتواضع كما تواضع يسوع الذي أنكر علمه للغيب ـ رغم أنه إله معبود عندهم ـ فقد جاء في إنجيل مرقص [13: 32] أن المسيح بعدما سئل عن موعد الساعة قال: ” وأما ذلكَ اليومُ وتلكَ الساعة فلا يعرفهما أحد، لا الملائكة الذين في السماء ولا الابن، إلا الآبُ “.

ثانياً: نبوءات أخرى لم تتحقق في الكتاب المقدس:

– من هذه الوعود، قول التوراة أن الله قال لإبراهيم: ” وأما أنت فتمضي إلى آبائك بسلام، وتدفن بشيبة صالحة، وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا” (أي فلسطين). (التكوين 15/15-16).

والواقع التاريخي يكذب هذا النص فقد كان الجيل الثالث والرابع من إبراهيم وهم الأسباط وأبناؤهم، كانوا هم الداخلين إلى مصر، لا الخارجين منها، وأما الخارجون منها فهم الجيل السادس من أبناء إبراهيم.

ومن هذه الوعود الزائفة ما زعمه كاتب سفر الأيام، حين قال بأن الله وعد إسرائيل بقوله لناثان النبي: ” وعينت مكاناً لشعبي إسرائيل، وغرسته، فسكن في مكانه، ولا يضطرب بعد، ولا يعود بنو الإثم يذلونه كما في الأول ” (الأيام الأول 17/9).

 ولم يتحقق هذا الوعد الذي زعموا أن الله وعده، فقد ذل بنو إسرائيل على يد بختنصر، وأخرجوا من ديارهم، ولم يتحقق ما قيل لناثان: ” متى كملت أيامك، واضطجعت مع آبائك أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك، وأثبت مملكته، هو يبني بيتاً لا سمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد ” (صموئيل الثاني 7/10 – 13).

– وأيضاً من الوعود التي لم تتحقق: حديث إرميا عن نسل داود فيقول: ” كما أن جند السماوات لا يعد، ورمل البحر لا يحصى، هكذا أكثر نسل داود عبدي، واللاويين خادمي ” (إرميا 33/22).

لكن الواقع يكذب ذلك، فاليهود أقل أهل الأرض عدداً، إذ لا يبلغ تعدادهم في الأرض كلها ستة عشر مليوناً، أكثرهم غير ساميي الأصل.

في المقابل: لم يكن احتمال انتصار الروم على الفرس في غضون سنوات قليلة أمراً يتوقعه أي إنسان. وما كان محمد rليعلن هذا صراحة ويتحدى العالم بأنه سيكون بعد بضع سنين، فما الذي ألزمه تلك المغامرة غير معلومة العاقبة، لو لم يكن متأكداً 100% ، وأنى له ذلك التأكد بحسب مقاييس الدنيا، ولكنه الوحي الصادق.. إنها النبوة.  


[1]

[2]المرجع ذاته، 1/ 44. وفيه أيضاً 1/76: ” قال آدم كلارك في المجلد الرابع من تفسيره ذيل الآية الثانية من الباب الرابع والستين من كتاب أشعيا: “المتن العبراني محرف كثيراً ههنا والصحيح أن يكون هكذا: “كما أن الشمع يذوب من النار.. في تفسير هنري واسكات. “الرأي الحسن أن المتن العبري محرف”، وآدم كلارك ذيل عبارة أشعياء نقل أولاً أقوالاً كثيرة وردها وجرحها ثم قال: “إني متحير ماذا أفعل في هذه المشكلات غير أن أضع بين يدي الناظر أحد الأمرين: إما أن يعتقد بأن اليهود حرفوا هذا الموضع في المتن العبراني والترجمة اليونانية تحريفاً قصدياً، كما هو المظنون بالظن القوي في المواضع الأخر المنقولة في العهد الجديد عن العهد العتيق، انظروا كتاب أَوْ وِنْ من الفصل السادس إلى الفصل التاسع في حق الترجمة اليونانية، وإما أن يُعتقد أن بولس ما نقل عن ذلك الكتاب، بل نقل عن كتاب أو كتابين من الكتب الجعلية، أعني مِعْراج أشعياء، ومشاهدات إيلياء اللذين وُجدت هذه الفقرة فيهما، وظن البعض أن الحواري نقل عن الكتب الجعلية، ولعل الناس لا يقبلون الاحتمال الأول بسهولة فأنبه الناظرين تنبيهاً بليغاً على أن جيروم عدّ الاحتمال الثاني أسوء من الإلحاد “.‏

[3]إظهار الحق، رحمة الله الهندي 1/27.

[4]إظهار الحق، رحمة الله الهندي 1/45.

[5]هل العهد القديم كلمة الله ؟، د. منقذ السقار، ص29.

[6]انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي 1/45. وفي الكتاب أدلة كثرة على ذلك التحريف.

[7]ليس توقع زوال أمة من الأمم، أو اندثار حكومة دولة ما ـ فضلاً عن قرية صغيرة ـ، عجيبة من الأعاجيب، فتلك سُنة كونية ثابتة. جاء في مقدمة ابن خلدون، ص170، تحت عنوان: ” الفصل الرابع عشر: في أن الدولة لها أعمار طبيعية، كما للأشخاص “: اعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص ـ على ما زعم الأطباء والمنجمون ـ مائة وعشرون سنة.. الدولة ـ في الغالب ـ لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال.. “.

 

 

إظهار الحق، رحمة الله الهندي 1/ 27.

[8] انظر: هل العهد القديم كلمة الله ؟ د. منقذ السقار، ص99-112.  


الوسوم:

مقالات ذات صلة