يا بني: هذا نبيك يأمرك بإتقان لسانهم
الأربعاء/ديسمبر/2019
بقلم أ.د./ ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي من مصر
روى الترمذي في سننه، عن “زيد بن ثابت” قال: أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود”، قال لي: “والله ما آمن يهود على كتابي”، فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال: “فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا له قرأت له كتابهم”[1ٍ]. وفي رواية: لما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة، قال لي: “تعلم كتاب اليهود؛ فإني والله ما آمن اليهود على كتابي”، فتعلمته في أقل من نصف شهر. قال الترمذي: وقد روي من غير هذا الوجه، عن زيد بن ثابت، قال: “أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أتعلم السريانية” [2]. وفي رواية عنه قال: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: إنه يأتيني كتب من ناس لا أحب أن يقرأها أحد، فهل تستطيع أن تعلم كتاب العبرانية، أو قال: السريانية؟، فقلت: نعم، فتعلمتها في سبع عشرة ليلة.
وقال ابن الاثير:”كانت ترد على النبي صلى الله عليه وسلم كتب بالسريانية، فأمر زيداً، فتعلمها. وقال الذهبي:” قدم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ و”زيد” صبي ذكي نجيب، عمره إحدى عشرة سنة، فأسلم، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم: “أن يتعلم خط اليهود، فجوّد الكتابة”، فكان “يكتب بالعربية والعبرانية والسريانية”.
ولما استحرّ القتل في حفظة القرآن، إبان حروب الردة، ومعركة اليمامة، فزع الفاروق “عمر بن الخطاب” إلى الخليفة “أبي بكر الصديق” راغباً منه أن يُجمع القرآن قبل أن يدرك الموت أو الشهادة بقية القراء والحفاظ. وخشية أن يُقدم على عملٍ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، استخار الخليفة ربه، وشاور صحبه، ثم دعا “زيداً” وقال: “إنك شاب عاقل لا نتهمك”، وأمره أن يبدأ جمع القرآن. فنهض “زيد” في جمعه، وأبلى فيه بلاءً عظيماً.. فراح يقابل ويعارض ويتحرى حتى جمع القرآن مرتباً منسقاً، يقول: “فكنتُ أتبع القرآن أجمعه من الرّقاع والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال”[3].
وفي عظم تلك المسؤولية قال “زيد”:”والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون عليَّ مما أمروني به من جمع القرآن”. وفي خلافة “عثمان بن عفان” كان الإسلام يستقبل كل يوم أناس جدد، وبدأ يلوح خطر اختلاف الألسنة على القرآن، فقرر “عثمان” والصحابة الكرام وعلى رأسهم “حذيفة بن اليمان” ضرورة توحيد المصحف، فقال عثمان: “مَنْ أكتب الناس؟”، قالوا: كاتب رسول الله:”زيد بن ثابت”، قال: “فأي الناس أعربُ؟”، قالوا:”سعيد بن العاص”، وكان “سعيد” أشبه لهجة برسول الإسلام، فقال عثمان: “فليُملِ سعيد، وليكتب زيدٌ”. واستنجدوا بـ”زيـد”، فجمع “زيد” أصحابه وأعوانه وجاءوا بالمصاحف من بيت أم المؤمنين “حفصة بنت عمر” رضي الله عنها، وباشروا مهمتهم الجليلة، وكانوا يجعلون كلمة “زيد” هي الحجة والفيصل. هذا ومن مناقبه ـ رضي الله عنه ـ أنه غلب الناس بخصلتين:”القرآن والفرائض”، كما ذكر “ابن سيرين”.
يا بني: لقد أدرك رسولك الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ “شأن اللغات”، وأهميتها في إبلاغ دعوته للعالم، وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها، و”الأمن” من شر الناطقين، بها فأمر “زيداً” بالإضطلاع بتعلمها، فنهض “زيد” بما كُـلـّف به، في إخلاص لله، وحُسن نية، وطاعة لرسوله، وخدمة لدينه، وعلو همة، وعن ذكاء ونجابة، فتعلم بعض اللغات في وقت وجيز. ولقد كان “زيد” يتابع القرآن حفظاً ودراية، ويكتب الوحي لرسوله كتابة، ويتفوق في العلم والحكمة نجابة. وهاهو ـ رسولك يأمرك بإتقان لسانهم.
يا بني: اقتداءً برسولك: “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا”(الأحزاب:21) سار على هذا الدرب أسلافك، فقام “حكيم آل مروان” الأمير”خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان” بجهود مقدرة، وأنشأ لجنة لترجمة الكتب الكيميائية والطبية والفلكية من اليونانية، والقبطية إلى اللغة العربية. كما عني بهذا الشأن الخليفة العباسي “أبا جعفر المنصور”، وعندما كثرت أعداد العلماء والمترجمين ببغداد أنشأ لهم الخليفة “هارون الرشيد” “بيت الحكمة”، ليمثل أول “مجمع للغة العربية”، وأول “أكاديمية علمية” وفق ـ ما تعرف ـ من مصطلحات معاصرة.
يابني: أذكرك بالعناية الفائقة للخليفة “المأمون” بـ”بيت الحكمة”، وتوسعته لنشاطه، وإرسالة البعوث للروم وفارس والهند لاستحضار شتى المؤلفات والآثار اليونانية والسريانية والفهلوية (لغة فارس) والهندية، ومن ثم نقلها إلى العربية. كما زاد من أعداد مترجميها وعلمائها، وضاعف العطاء لهم.. ذهباً (ولعل ذلك العطاء ما قد يشغل بالك، وبال أقرانك كثيراً؟!). ولقد سعى سعيا حثيثاً لننهل ممن سبق ـ فما من ثقافة تقوم بمعزل عن غيرها من الثقافات ـ هضماً وتطويعاً ونقداً، ومن ثم ملاحقة وإضافة ومشاركة، بل وريادة في مسيرة العلم والحضارة. فقام ـ أمثالك ـ بجهود كبيرة ترجمت وعربت كتب “أبقراط وجالينوس” في الطب اليوناني، إلى كتاب “كليلة ودمنة”، مروراً بعلوم الحساب والفلك والأدب.
يا بني: رسالة دينك الخاتم ـ الإسلام ـ كانت بدايتها ومدارها وديمومتها حول:”إقرأ”. كما إن شهودنا الحضاري يتجلي في بسط المعرفة الحقة بشرائع وشعائر الإسلام السمحة والوسطية والواقعية، تزامنا مع بسط الجناح الآخر للشهود الحضاري: العلوم والتقنية. ومساهمتنا في “صناعة المعرفة” ـ التي من فقدها فقد أسباب الحياة فضلاً عن تجديدها ـ يتأتى بالعمل المؤسسي الجاد، وتنمية القدرات وتعلم الحرف والخبرات، وإعادة الاعتبار ” لفروض الكفاية”.. خدمة لأوطاننا، وزيادة لأعمالنا بعد مماتنا، فبالموت تموت كل الفروق بين الناس في المال والجاه والقوة، وتبقى فروق الأعمال التي يستمر عطاؤها لتضيف حياة جديدة لأصحابها: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو لد صالح يدعو له”[4].
يا بني: ثمة دورات حضارية بين الأمم، فعندما تنازلت أمتنا عن دورها الرسالي الريادي الحضاري اضطلع به آخرون، فخسرنا وخسر العالم. لكن في تسنمهم لتبؤ دورتهم الحضارية، وتحقيق نهضتهم الثقافية والعلمية، سعوا جاهدين لنقل العلوم والمعارف إلى لغاتهم، وتنوعت ـ مظاهر عنايتهم بأمر الترجمة. فنقلوا عنا، وترجموا الكثير عبر مناطق ونقاط “الإحتكاك الحضاري” في الأندلس (حيث دانت ثمانية قرون لحضارة الإسلام)، وصقلية (مكثت تحت الملسمين من 902-1091م)، وخلال نحو قرنين علي مدار الحروب الصليبية الخ.
يا بني: كل من أراد الأرتواء من فيض علوم حضارتنا وثقافتنا قصد مراكز إشعاعها وإشراقها، فـ “سطعت شمس الإسلام على الغرب” واستبان نورها..هداية وهدى. فهاهو ـ في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي ـ “روبرت الشستري” (ت1144) يترجم معاني القرآن الكريم لأول مرة إلى اللاتينية، كما قام بترجمة الخوارزمي في الرياضيات، وكتب أخرى في الكيمياء والفلك. كما إن من هؤلاء الذين قصدوا الأندلس في القرن الثاني عشر الميلادي: “أديلارد” الإنجليزي، و”هرمان” من كارنيثيا (شمال البندقية)، وزعيم حركة الترجمة عن العربية “جيرارد الكريموني” (1114- 1187م)، عدا أهل الأندلس من مستعربين ويهود اختصوا بالترجمة عن العربية ونقل علومها ومعارفها. ولعلك تعلم ـ بُني ـ أن نحو 17% من مفردات اللغة الإسبانية والبرتغالية من أصل عربي، فضلاً عن عشرات الآلف من المفردات الإنجليزية.
يا بني: بعد طول سبات.. بدأت تعود إلينا يقظتنا وصحوتنا لنعاود النهوض من جديد. وبدأ احتكاكنا الجديد بمن تولى دفة الحضارة، وبعلومهم ولغاتهم، خاصة الفرنسية والإنجليزية والألمانية. وأضحت هناك رغبة جامحة في نقل علومهم إلينا، ولعلك تعلم أن “كلية الألسن” ـ التي تدرس وأترابك فيهاـ كانت بسبب بعثة الشيخ “رفاعة الطهطاوي”(1801- 1873م) إلى باريس، وريادته ـ وأقرانه ـ لحركة الترجمة والتحديث، في القرن التاسع عشر فكان كتابة الشهير: “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.
يا بني: أُمتك المسلمة بحاجة إلى كفاءات، وقدرات مخلصة، وجهود متجردة لله تعالى، تساهم بجدٍ وإجتهاد في رفعة وإزدهار تلك المهنة الغالية العسيرة، مهنة “من، وإلى”، أو ـ كما يقول عنها الإنجليزـ “المهنة غير المشكورة”، لكن إبغِ المثوبة أولاً وأخيراً من الله تعالى، كما فعل جدك “زيد” رضي الله عنه أول مرة. وعليك بتجديد أهدافك، وترتيب أولوياتك في الحياة، ضمن رسالتنا العامة.. تحقيقاً لكينونة ورسالة أمتنا المسلمة، وتوحدها ووحدتها لتحقيق خلافة الله تعالى في أرضه:” إني جاعل في الأرض خليفة”(البقرة:30). فبذلك نحقق سعادتنا.. بحسن أعمالنا وتجارتنا، فمن أقوال الإمام علي رضي الله عنه:”ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها”. نحن بحاجة لجهود تساهم في تقريب معاني كتاب الله تعالى، وتقديم سيرة رسوله العطرة، وشمائله المثلى بلغات متعددة ـ ومنها ما تدرس من لغة ألمانية يتحدث بها ملايين البشر.
يا بني: إن تملّكك من لغتك العربية فضلاً عن لسانك الأجنبي بهما تستطيع به أن تُعبر عن معتقداتك الإسلامية، وأفكارك، ومشاعرك إزاء ما يحدث وما يستجد من أمور عالمية تمس أمتك المسلمة. أراك به تذود عن حياض دينك وشريعتك، وتنافح عنهما، وعن رسولك محمد ـ صى الله عليه وسلم ـ مُعلم الناس الخير وهاديهم إلى سواء السبيل، ضد من يُعاديهم ويسخر منهم، أو من يقلل من شأنهم، ويدعو للعيش بمعزل عن هديهم وصراطهم القويم، وهذا جدك الخليفة الراشد “أبو بكر الصديق” رضي الله عنه يقول:” إذا فاتك خير فأدركه، وإذا أدركك شر فأسبقه”.
يا بني: أرجو وأدعو الله تعالي أن أراك بارعاً مجيداً متقناً في ترجمة معاني القرآن الكريم للألمانية (فالألمان كانوا من أوائل الغربيين إقبالاً على ترجمة معاني القرآن الكريم.. دراسة واستشراقاً، بيد أن كثيراً من أعمالهم بحاجة للتنقيح والرد، وإعادة النظر، وتصحيح الصياغة… إلخ)، وتنقل إليهم وإلى لغتهم هدي الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، وترد الشبهات، وتدحض المزاعم، وتفند الأضاليل، وتصول وتجول كي يستبين الحق، وتصل دعوة الله تعالى للناس كافة بالحكمة والموعظة الحسنة :”قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ”(يوسف: 108). ويصف تعالى شأنه خيرية هذه الأمة:” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”(آل عمران:110).
يا بني: كما ذكرت لك آنفاً، يقول علماؤنا ثمة “فروض عين” لا تسقط عن المكلف بها، وأخرى تجري مجرى “الكفاية” إذا قام بها فرد سقطت عن الآخرين. لكن فروض الكفاية تلك تصبح شأنها شأن فروض العين فيمن اضطلع بها. لذا باتت براعة تعلم لسان قوم آخرين عندك “كفرض عين”. فأريدك ـ ياولدي ـ خبيراً في التعامل مع الآخرين الذين لا يتكلمون العربية ـ مسلمين وغير مسلمين ـ فتوضح لهم أمور الدين الصحيحة، وفق مصدريه الخالدين..القرآن والسنة المطهرة، وتبين لهم شريعة الإسلام الحقة، وتعاليمه المثلى، وأخلاقه السمحة، يقول تعالى شانه: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (إبراهيم:4). كما إن أفاق الترجمة مجالاتها متعددة، فإحياء تراثنا، ونشر روائع آدابنا وفنوننا وعلومنا وصناعاتنا، لن يتم إلا من خلال مترجمين محترفين، ومن يسلك دربهم ـ مثلك ـ من المترجمين الواعدين.
يابني: إحرص على أداء الحقوق لأصحابها، ومنها حقوق عامة للناس كافة، يقول تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم”(الحجرات:13). فالمتحدون في أصل بشري واحد ..المختلفون أجناساً وألواناً ولغاتاً، المتفرقون شعوباً وقبائل.. عليهم ألا يتفرقوا ولا يتخاصموا ولا يذهبوا بدداً، فالغاية من جعلهم هكذا ليست التنازع والتناحر، بل التعارف والتآلف، والتعاون والتكامل وفق معيار: التقوى والعمل الصالح، وتصالح على عرف حسن، ومعرفة رشيدة..أعمال كسبية (ليست وراثية /عنصرية) يتسابق فيها الناس جميعاً مرضاة لربهم، خدمة لمجتمعاتهم وإنسانيتهم[5].
يابني: الأمر يتوقف على قدراتك، واستعدادك، فلو توافرت لديك العزيمة الأكيدة لتعلم لغة ثانية وثالثة ـ كما توافرت لجدك “زيد بن ثابت”، فتستطيع إنجاز ذلك، وبسرعة كبيرة. فعلم الألسنيات Linguistics، وفن الترجمة Translationيتم إتقانهما وحذقهما بالممارسة. فكلما مارستها، ودراست قواعدها وأصولها، ثم طبقت ذلك على النصوص المراد ترجمتها، إزدادت درايتك وخبرتك بهذا الفن والذي خطا الآن خطوات واسعة نحو حوسبته Computational linguistics .
كذلك كلما درست نصوصاً مترجمة فقارنت فيما بينها ولتعرف كيف تمت ترجمتها بين اللغتين، كلما زادت خبراتك فيها، وزاد احترافك لهذا الفن، يقول لك الجاحظ: “ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة. وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقول منها والمنقولة إليها، حتى يكون منهما على سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضاً قد تكلم بلسانين علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما لأن كل واحدة منهما تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها. وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة؟. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق والعلماء به أقل كان أشد على المترجم, أجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتة مترجماً يفي بواحد من هؤلاء العلماء؟.
يا بني: الترجمة الجيدة ـ ذلك الفن العسيرـ ولا يمكن أن يكون إلا بصعوبة كي”تفي بنفس الغرض في اللغة الجديدة مثلما فعل النص الأصلي الفريد في لغته التي كُتب بها”. ولعلها بذلك تتطلب جهداً أشق من الجهد المبذول ابتداءً في التأليف. فهي تصاغ بتعبير طبيعي وسلس، كما إنها “الروح والجوهر الصادق ـ وليس المعنى الحرفي ـ التي يسعى المترجم لتجسيدها في ترجمته الخاصة”. فيجب أن تخرج ترجماتك لترسل في قارئها ذات السمات والمواقف والانعكاسات الذي كانت عليه في ذهن مؤلفها ووجدانه. لذا يطالبك المختصون بالاهتمام بالمعنى، وليس بمفردات لغوية، فبرأيهم لا تبرر الترجمة وجودها إذا لم تقم بوظيفتها الإيصالية/ التواصلية. ذلك أن المعنى الحرفي، والبحث عن عبارات جامدة مرادفة، يقتل الترجمة، ولكن روح المعنى يُحيها. وعليك أن تتذكر: أن “أفضل التراجم ليست تلك التي تسعى دوماً لتأكيد أن هذا العمل ما هو إلا ترجمة، وإنما تلك التي تُنسي القارئ أنها ترجمة، فتجعله يشعر/ يستمتع أنه ينعم النظر في ذهن مؤلفها (شأن استجابة المتلقين الأصليين) مثلما يمعن النظر في ذهن مترجمها.
يا بني: ثمة معضلات في مجال الترجمة مثل: طبيعة كل لغة وخصائصها وقواعدها وجمالياتها، التضارب بين المحتوى والشكل (المعنى والأسلوب)، الإغراب والوضوح، التعريب والترجمة، النقص/ التلخيص، والزيادة/ الإسهاب الخ. فلا تنس أن رواداً سبقوك ـ كمصطفى لطفي المنفلوطي وغيره ـ قد حل هذه المعضلات فيما قدم للعربية من تراجم أدبية رائعة، بل ازداد بعضها حسناً بالترجمة، فتحسبها نتاجاً عربياً قحاً. بيد أنك تستشعر في جنباتها روحها غير العربية. إنهم أوجدوا “خليطاً فعالاً ومتماسكاً ومتكاملاً” من “المعنى والأسلوب”. إن تمسكك بمحتوى ما تنقل إلى العربية، دون اعتبار للشكل، عمل مميز وجيد ولكنه يفتقد تألق وسحر النص الأصلي. ومن ناحية أخرى إنك إن قمت بالتضحية بالمعنى بغية الحصول على أسلوب جيد فستعيد إنتاج النص الأصلي بصورة مطبوعة/جامدة تخلو من إيصال ما به من رسائل.
يا بني: لا يخفي عليك أن الترجمة تساهم في إثراء لغتنا العربية، كما تغني علومنا وصناعاتنا، وتنمي فيها جميعاً طاقاتها، وتمدها بمفردات مستجدة، وترفدها بتراكيب جديدة، وبمصطلحات علمية وحضارية حديثة.. نحتاً، وتوليداً، وتعريباً، وترجمةً الخ، فتكثر معاجمنا، وتنمو ثروتنا اللغوية لنواجه حاجات العصر ومتطلباته. كما ستدرك أنها تفيدك وتغني أمتك ووطنك بنتائج علمية وتطبيقية مستحدثة، وأسس وأساليب منهجية تجريبية. فكن عوناً في ذلك، وسر على الدرب، واستعن بالله تعالى، وسد ثغرة في هذا المجال أو ذاك.
يا بني: ثمة جدل كبير يدور بين معسكرين، فانظر أين تضع قدميك؟. فريق اتخذ مما يُلصق بالفصحى من دعاوي “جمود وقعود عن مواكبة التطور وصعوبة فهم قواعدها، وسبل تعلمها من الأجيال الجديدة” وسيلة لتبرير الاقتباس بداعٍ وبدون من اللغات الأجنبية وإدخال الألفاظ الجديدة حسب نطقها بلغتها الأصلية. فاللغة ـ برأيهم ليست “مقدسة”، وأنها ملك للناس يتصرفون بها كيفما يشاءون ويضعون لها قواعدها التي تعتبر غير ثابتة بل تخضع للتطور باستمرار. وعاب هذا الفريق (فريق المحدثين The Moderns) على “الكلاسيكيين” مزجهم اللغة بالدين والقومية وربطها باعتبارات فلسفية، فأوصدوا ـ برأيهم ـ الأبواب أمام تطورها، حيث نادوا “بقدسيتها وثباتها”، لأنها وُجدت هكذا “مثالية” مبرأة من اللحن والشذوذ، فلا يجوز المساس بها باعتبارها “وقفاً كالوحي” وليس إبداعاً بشرياً اجتماعياً.
يا بني: أراك تتسائل بماذا يدافع الفريق الآخر عن نفسه؟. يدافع الفريق الآخر عن نفسه بقوله: ليس ثمة غضاضة من “تطوير اللغة” شريطة الاحتفاظ بسلامتها، ووفق ضوابط قواعدها، وأسس مجامعها اللغوية، كي لا تصبح كلأً مباحاً. فيمكن أن تتوالد فيها ألفاظ وتعبيرات جديدة، تؤدي لإنماء ثروتنا اللفظية، وتمكين لغتنا من القيام بوظيفتها على أكمل وجه، كدخول كلمات مثل “تلفنة “، و”تلفزة ” وغيرها من كلمات لم يسبق للعرب أن عرفوها ليضعوا لها الأسماء الخاصة بها. فـهم يرون أن: “توليد الألفاظ سواء أحصل بطريق الوضع أم الاشتقاق أم نقل الدلالة أم الاقتراض من اللغات الأخرى، فهو مما لا تأباه طبيعة اللغة”، بل يلبي حاجات الإنسان المتجددة في حياتهم الفكرية والمادية، وكي لا تقف اللغة ـ كما يدعي البعض ـ عاجزة أو جامدة عن مواكبة الحركة الدائبة في المجتمع الذي يحتضنها. ويزيدون أن العرب قديماً ولدّوا بالاشتقاق كلمة “دوّن ” من الديوان، وهو فارسي الأصل، واشتقوا “شباك ” من شبّك، ودلوا بها على النافذة تشبك بالحديد أو الخشب. ووضعوا بالنحت والتركيب لفظتي “بسمل ” من قولهم “بسم الله الرحمن الرحيم”، و” تلاشى” من لا شيء. وأخذوا بالاقتراض من اللغات الأخرى ألفاظاً كثيرة وعرّبوها بألسنتهم، وحوّلوها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظهم فصارت عربية مثل:”الإبريق” وهي فارسية، و”القنطار” وهي كلمة لاتينية، وغيرهما.
يا بني: الترجمة إثراء لغوي، وتواصل معرفي. واللغة ناموس حي يتحرك، وإذا لم ترفدها بأسباب الحياة فإن عوامل الفناء قد تتغلب عليها. ولتبقي للفصحى لغة حية مستجيبة لحاجات المتكلمين بها، فمرحباً بالتوليد والتجديد وبسط قواعدها، ولا بأس في الاقتراض من اللغات الأخرى كلما دعت ضرورة لذلك. فالاقتراض من اللغات الأجنبية لألفاظ لا وجود لها بمعناها القائم في اللغة العربية إنما يزيد من حيويتها. وهذا ما جعل اللغة الإنجليزية تتبوأ ـ حالياً ـ الصدارة بين لغات العالم، وتكاد تصبح لغة التفاهم المشتركة بين شعوب العالم. وهي إنما وصلت لهذه المكانة جراء قبولها لما هو جديد واقتباسها من لغات العالم ومواكبتها للتطورات التي تحدث في مختلف الميادين. مكانة وصدارة ينبغي أيضاً للعربية ـ بروعتها وجمالها، وعبر جهود أبنائها ومحبيها والمنافحين عنهاـ الوصول إليها.
يا بني: كما جمع “زيد” القرآن، وأعظم بها من مهمة جليلة، لتجده الآن ـ أنت وأقرانك ـ بين دفتي المصحف، إجمعوه ـ في قلوبكم وعقولكم ليكون لكم هادياً ومرشداً ومعيناً لكم طوال حياتكم، وفي مهنتكم تلك. وأخيراً وليس آخراً لا أجد ـ يابني ـ ما أوصيك به، لتضعه نصب عينيك، خيراً من وصية لقمان لابنه: “وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ” (لقمان:13- 19).
يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل التالي:
بقلم الكاتب: أ.د./ ناصر أحمد سنه .. كاتب وأستاذ في جامعة القاهرة.
المنزل: مصر، القليوبية، شبرا الخيمة، 20 ش شرف الدين. ت: 4605542202،
الرقم البريدي: 13411 شبرا الخيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1]- قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
[2]- سنن الترمذي، كتاب الإستئذان والآداب، برقم2639.
[3]- البخاري، كتاب تفسير القرآن، برقم 4311.
[4]- مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
[5]- راجع تفسير الآية ابن كثير، دار إحياء الكتب العربية، د.ت.، ج/4، ص 217- 218،”في ظلال القرآن” الجزء السادس، ط 16 ، دار الشروق 1410هـ ـ 1990م، ص: 3348.