وصفان لفرعون موسى من القرآن الكريم
الخميس/يناير/2020 السلسله : فرعون موسى الدكتور رشدي البدراوي
مسلة فرعونية أمام مبعد الأقصر |
الدكتور رشدي البدراوي
أستاذ بجامعة القاهرة وباحث وكاتب إسلامي
لقد تم تخصيص هذه المقال لوصفين لفرعون موسى في القرآن الكريم، إذ أن شرح هذين الوصفين – وهما مرتبطان بالآثار – سيساعد على تحديد شخصية فرعون موسى أو بمعنى آخر سيكون دليلاً إضافياً على أن رمسيس الثاني هو فرعون موسى هذان الوصفان هما:
1- قوله تعالى:
{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [الأعراف: 137].
2- قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } [ص: 12].
والآن للنظر هل ينطبق هذان الوصفان على رمسيس الثاني أم لا؟
1- الدمار الذي حاق بآثار رمسيس الثاني:
مما لا شك فيه أن الزمن يترك بصمته على المباني وتتهدم بعض أجزائها أو كلها، وقد أدرك قدماء المصريين ذلك فعملوا على أن تبقى آثارهم خالدة على مر الأزمنة والدهور، فها هي الأهرامات – وعددها يبلغ المائة – باقية وإن كان الطلاء الخارجي قد تساقط في معظمها وسقطت حجارة من بنيانها إلا أنها لا تزال قائمة رغم مرور ما يزيد عن أربعة آلاف سنة على بنائها، وكما سبق أن ذكرنا كان رمسيس الثاني أكثر الفراعين رغبة في تخليد اسمه وذكراه.
فأقام هذا العدد الهائل من الآثار من معابد بها مئات الأعمدة، وأقام من المسلات عدداً يفوق ما أقامه الفراعين الآخرين مجتمعين، وصنع لنفسه عدداً كبيراً (حوالي 100) من التماثيل. منها حوالي 30 بالغة الضخامة، ووضع نفسه بين الآلهة في ما لا يقل عن 15 تمثالاً. هذا بخلاف ما تحطم وما لم يستدل عليه. بخلاف مئات بل آلاف الصور والنقوش التي تمثله في عربته وحروبه أو وهو يستعرض الأسرى أو يعاقبهم، أو تمثله في مواقف يتعبد فيها للآلهة، أو يتعبد الموظفون له.
لكننا لو فحصنا هذه الآثار لوجدنا معظمها قد تهدم ولم يبق منه إلا بعض قطع من الحجارة عليها اسم رمسيس الثاني، تدل على أن أثرا ًما كان له في هذا المكان، ولعلها كانت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يبقى عدد قليل من هذه الآثار سليماً بعض الشيء لندرك عِظَم ما شيّد وضخامة التماثيل التي صنعها. إذ لو دمّرت بالكامل لاندثر ذكره ولم يستدل عليه، ومن هنا كان الإبقاء على معابد النوبة سليمة، بل وقيض الله لها من يعمل على إنقاذها من الغرق في بحيرة السد العالي لتظل شاهداً على أعمال هذا الفرعون .
هذا ما تبقى من مبعد الرمسيوم المحطم بفعل زلزال النوبة العنيف الذي ضربها في حياة رمسيس الثاني (صورة مأخوذة من الجو) |
ولئن كان هذا الدمار قد حدث بعد وفاة رمسيس الثاني فقد كانت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يريه – حال حياته – بعض الدمار في آثاره وهو ما لم يحدث لأحد من الفراعين قبله أو بعده، وحدث الدمار في أثرين كان رمسيس الثاني يعتز بهما أيما اعتزام: معبد أبي سمبل الكبير، ومعبد الرمسيوم.
أ- الدمار في معبد أبي سمبل الكبير:
يقول عالم الآثار سليم حسن عن معبد أبي سمبل الكبير بأنه أعظم بناء أقامه إنسان في ذلك العصر، وكان رمسيس الثاني قد بدأ في إقامته في السنة العاشرة من حكمه، واحتفل بافتتاحه رسمياً في السنة 24 من حكمه، وتمر الأعوام ويحتفل رمسيس الثاني بالعيد الثلاثيني الأول، وأقيمت احتفالات ضخمة في المعبد بهذه المناسبة، ولم تمر بعد ذلك بضعة أشهر حتى حدث زلزال شديد ضرب منطقة النوبة واهتزت المنطقة، وما حدث بمعبد أبي سمبل الكبير كان مأساة مفجعة كما يقول العلام كتشن Kitchen(فرعون المنتصر ص 135)، إذ تشققت الأعمدة الضخمة وتكسر بعضها وأنهار، وكذلك انهار العمود الثاني والتمثال الملكي في الجانب الشمالي من الحجرة الأولى وتحول إلى حطام، وكذلك أصاب الدمار الواجهة ذاتها، إذ انهارت الدعامة الشمالية لباب المدخل الرئيسي وسقطت ذراع التمثال الأول من الناحية الشمالية والمجاور للباب. ولكن الخسارة الكبيرة كانت في سقوط النصف العلوي بأكمله للتمثال الجنوبي: الرأس والذراعين والأكتاف، وتكسرت اللوحات على الحوائط، وكان المنظر فظيعاً والموقف حرجاً بالنسبة لنائب الملك على منطقة النوبة (باسر)، ولم يكن في وسعه أن يقف مكتوف اليدين أمام هذا الدمار، وبدأ على الفور خطوات الإصلاح التي كللت بالنجاح إلى حد كبير، وأعيد بناء الأعمدة التي سقطت أو تصدعت. وتم تدعيم أعمدة القاعة الكبرى بمباني، وهذه أتاحت مساحة إضافية لنقش مباركة من الإله (بتاح) مؤرخة بالعام 23 من حكم رمسيس الثاني، وأعيدت ذراع التمثال التي سقطت وتم سندها بقطعة من الحجر كتب عليها اسم رمسيس الثاني وأعيد بناء دعامة الباب ولكنها تركت خالية من النقوش. وكان هذا أقصى ما أمكن للوزير (باسر) عمله، ولعل ذلك الترميم لم يلق قبولاً تاماً لدى رمسيس الثاني فعين بدله نائباً آخر للنوبة، وكان هذا النائب الجديد هو المبعوث الحيثي هوى huyالذي كان مرافقاً للأميرية الحثية عند حضورها إلى مصر للتزوج من رمسيس الثاني. وقد عينه نائباً له على النوبة لمدة 4 سنوات ( 24-28)، ولكنه لم يفعل الكثير في ترميم معبد أبي سمبيل، ثم تولى بعده هذا المنصب (سيتاو) Setauوظل فيه لمدة ربع قرن تقريباً (من 28 إلى 63)، كان سيتاو نشطا ًومثابراً وكتب على لوحة: لقد عينت نائباً للملك على النوبة، وقد وجهت الفلاحين بالآلاف وعشرات الآلاف ومن النوبيين مئات الآلاف، وقد أُوكلت إلي مهمة بناء معبد رمسيس الثاني في الضفة الغربية ( وهو معبد أبي سمبل )، وقد أعدت بناء معابد النوبة كلها تقريباً والتي كانت قد سقطت إلى حطام، وقد أعيدت كأنها جديدة باسم جلالته العظيم. ودوّن ذلك تذكاراً ليبقى إلى الأبد، وبالرغم من ذلك لم يستطع إعادة الرأس إلى مكانه؛ فبقي ملقى على الأرض، وحتى لما قامت منظمة اليونسكو برفع المعبد إلى مكان أعلى من مكانه الأصلي حتى لا تغرقه مياه بحيرة السد العالي، فإنها حافظت على حاله وتركت أجزاء التمثال المهشمة كما كانت.
صورة لواجهة معبد أبي سنبل لا يزال رأس أحد التماثيل الضخمة محطماً أمام المعبد بفعل زلزال النوبة |
وفي العام 44 قام النائب (مستاو) ببناء باقي المعابد التي في الضفة الغربية: وهي معبد السبوعة ومعبد جرف حسين، وسخّر في بنائها أسرى ليبيين، إذ وجدت لوحة كتبها ضابط اسمه (راموس) يقول فيها: في السنة 44 أمر جلالته نائبه في النوبة، المخلص (ستاو) بالإضافة إلى وحدة من جيش رمسيس الثاني – يحميه والده آمون – بأن يؤخذ أسرى من أرض الليبيين لبناء معبد رمسيس الثاني، وقد أمر جلالة الملك الضابط راموس بتجريد حملة من الجنود لهذا الغرض.. وهكذا أغارت فرقة الجيش على جنوب ليبيا في الصحراء الغربية وقامت بتسخير هؤلاء الأسرى في ترميم ما تهدم، وفي بناء معبد السبوعة وجرف حسين ( كتشن – فرعون المنتصر ص 138).
ب- تصدع الرمسيوم:
كان معبد الرمسيوم أسوأ حظاً، إذ لما أصابه الزلزال لم يمكن إعادته إلى حالته الأصلية كما حدث في أبي سمبل.
قلنا إن الرمسيوم وهو المعبد الجنازي – بناه رمسيس الثاني ليكون مكاناً فاخراً لحياة أخرى له حيث تقام الشعائر لتبجيله وتعظيمه إلى الأبد وكان يسمى في المصرية القديمة ( بيت ملايين السنين المتحدة مع طيبة )، ولكن الأمور لم تسر كما كان يهوى فرعون، فقد أصاب الزلزال معبد الرمسيوم هو الآخر بضرر بالغ، فقد سقط النصف العلوي من التمثال البالغ الضخامة الذي كان مقاماً في الردهة الأولى. سقط الرأس والأذرع والكتفين والصدر كتلة واحدة وتهدمت البوابة تماماً، ولا يزال نصف التمثال هذا ملقى على الأرض منذ سقوطه.
إذ يبدو أنه كانت هناك صعوبات فنية تحول دون إعادته إلى مكانه فوق الرجلين. وسقطت كذلك رؤوس التماثيل الأصغر حجماً التي كانت مقامة في الردهة الثانية، ولا شك أنها قد رممت وأعيدت إلى مكانها، إذ هي الرؤوس والتيجان فقط، ولكنها بمضي الوقت سقطت ثانية، وقد رأى الرحالة الإنجليزي شيلي (التمثال المحطم ) فقال فيه الشعر التالي:
ساقان ضخمان من الحجارة بلا جسد…. تقفان في الصحراء.
وعلى مقربة منهما جسم مهشم يرقد….. نصف مطمور في الرمال..
اسمي أوزيمندياس ( رمسيس الثاني باليونانية)… ملك الملوك..
انظر إلى أعمالي العظيمة وتحسّر… لا شيء يبقى أو يصمد للبلى..
حطام تمثال ضخم وأمامه الصحراء لا محدودة..
برمالها المستوية تمتد إلى البعيد البعيد..
رأس التمثال الضخم الذي كان مقاماً في نهاية الردهة الأولى في معبد الرمسيوم وقد سقط بفعل الزلزال |
أربعة من التماثيل الأوزيرية لرمسيس الثاني التي كانت مقامة في الردهة الثانية لمعبد الرمسيوم وقد سقطت الرؤوس والتيجان. أما الأربعة المقابلة لها فقد تحطمت تماماً. |
2- فرعون ذو الأوتاد:
(ذو الأوتاد) صفة وردت في القرآن الكريم عن فرعون موسى. ويهمنا أن نعرف ما هو المقصود بالأوتاد لنعرف على مَنْ مِنَ الفراعين ينطبق هذا الوصف.
وقد جاء وصف فرعون موسى بذي الأوتاد في آيتين:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } [ص: 12].
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ } [الفجر: 10-11].
وأوتاد جمع وتد، وهو ما رُزَّ في الأرض أو الحائط من خشب (المعجم الوسيط جـ 2 ص 1020) فالوتد كما هو معروف (شكل 201) قطعة من الخشب يبلغ طولها 50 سنتيمتراً تقريباً، ويبلغ عرضها عند القاعدة 5-7 سم ويقل هذا العرض تدريجياً حتى يبلغ 3-4 سم ثم ينتهي بطرف مدبب ليُسهّل اختراقه للتربة عند دقه في الأرض بالمِرزيّة، وقد يكون له في أعلاه جزء أكثر عرضاً حتى يمنع الحبل المربوط عليه من الإنزلاق (ب)، ويستعمل الوتد عند الفلاحين لربط البهائم، أما البدو فيستعملونه لتثبيت الخيام. وكما قال الأعشى:
والبيت لا يبنى إلا على عمد…. ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
قال الألوسي: ( تفسير الألوسي جـ 23 ص 170) إن القرآن الكريم شبه هنا فرعون في ثبات ملكه ورسوخ سلطته ببيت ثابت أقيم عماده وتثبتت أوتاده، على سبيل الاستعارة.
وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: الأوتاد الجنود يقوون مُلكه أي فرعون ذو الجنود. مجاز للزوم الأوتاد لخيام الجند، وعن ابن عباس في رواية أخرى وقتادة: كان لفرعون أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها. وفي رأينا أنها لو كانت بهذا المعنى الأخير فهي ليست بالأهمية التي تسجّل في القرآن الكريم، كما أن لعبة الشطرنج كانت معروفة لدى قدماء المصريين وهي أكثر فناً في صنعها وأكثر حرفة في لعبها. وقالوا أيضاً كان يشد المعذّب بضرب وتد في كل من أطرافه الأربعة في الأرض ويتركه حتى يموت، وعن الحسن ومجاهد يدقها في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل ترفع صخرة فتلقى عليه فيموت ( تفسير ابن كثير جـ 4 ص 508). ولم يؤثر عن المصريين القدماء – في أعصر من عصورهم – أن كانت هذه إحدى وسائل التعذيب لديهم وكان الضرب بالعصا هو وسيلة التعذيب البسيط ( شكل 212 ص 794 ) أما القتل فكان يتم ببلطة الحرب. وفي الصورة يرى رمسيس الثاني ممسكاً بنواصي ثلاث من الأسرى الأعداء تمهيداً لقتلهم بالبلطة الممسوكة في يده اليسرى.
رمسيس الثاني ممسكاً بنواصي ثلاث من الأسرى الأعداء تمهيداً لقتلهم بالبلطة الممسوكة في يده اليسرى. |
أما القول بأن ذي الأوتاد وصف لكثرة الجند، ولا يستتبع كثرة الجند إلا كثرة الحروب واتساع المملكة، وذلك غير ثابت في حق رمسيس الثاني الذي كانت آخر حروبه الكبيرة هي معركة قادش في السنة الخامسة من حكمه، ولم يكن النصر حليفه فيها بالرغم مما طنطن به من كتابات عن هذه المعركة على جدران المعابد – كما أن اتساع مملكته يقل كثيراً عن الإمبراطورية التي بناها تحتمس الثالث، كما أنه بعد معركة قادش وعلى مدى 62 عاماً من حكمه لم يقم رمسيس الثاني بضم أي أراضي جديدة، بل كانت حروبه كلها مجرد حملات لصد هجمات الليبيين في الغرب والنوبيين في الجنوب، وأرجو ألا يسارع أحد فيستنتج من هذا أن رمسيس الثاني ليس هو فرعون موسى لعدم انطباق هذا الوصف ( ذي الأوتاد ) عليه فنحن لم نصل بعد إلى حقيقة معنى هذا الوصف.
في رأي بعض أساتذة كلية الآثار ( اتصال شخصي ) أن الأوتاد معناها الأعمدة، إلا أننا نرى أن هناك اختلافاً كبيراً بين شكل العمود وشكل الوتد، فالعمود يتساوى قطره العلوي مع قطره من أسفل إلا من حلقة عريضة على شكل زهرة اللوتس أو البردى تُحلّى الطرف العلوي وأما الوتد فهو عريض في أعلاه ويقل عرضه كلما اتجهنا إلى أسفل ولعلهم استندوا في رأيهم هذا إلى قوله تعالى: { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [الأعراف: 137].
فكلمة يعرشون تعني أعمدة عليها عريشة، والعريش ما يُستظل به، ولو أن العريشة تطلق غالباً على ما هو مصنوع من خشب، وعريش الكرم ما يدعم به الكرم من خشب ليقوم عليه ويرتفع وتسترسل أغصانه ( المعجم الوسيط جـ 2 ص 599)، إلا أنه بشيء من التجاوز – يمكن قبول هذا التفسير وهو أن الأوتاد تعني الأعمدة.
في هذه الحالة نجد أن رمسيس الثاني كان أكثر الفراعين إقامة للأعمدة ونضرب هنا بعض الأمثلة:
1- معبد سيتي الأول في أبيدوس:
والذي أشرف عليه رمسيس الثاني على بنائه، وقد وصفه علماء الآثار بأنه لا يتفق مع أي طراز موجود، بل أقرب ما يكون إلى مجموعة من أبنية مقدسة جمعت دون وحدة في التخطيط أو التناسق المعماري، وهو أقرب إلى معمار يقيمه طفل ( جيمس بيكي، الآثار المصرية مترجم – جـ 2 ص 164) وفعلاً كان رمسيس الثاني قد بدأ بناءه في صباه عندما أوكل إليه والده إقامة المنشآت والمباني وهو في سن العاشرة، ثم أكمل بناءه بعد أن تولى الحكم منفرداً، في المعبد نرى أن المعبد فيه ما لا يقل عن 112 عموداً.
معبد سيتي الأول في أبيدوس ( أقامه رمسيس الثاني ) |
2- معبد رمسيس الثاني في أبيدوس (شكل 204) وبه 50 عموداً.
3- معبد الأقصر: الذي بدأه أمنحتب الثالث وأضاف إليه رمسيس الثاني فناءين بهما عدد كبير من الأعمدة يصل إلى 90 عموداً ( شكل 205).
4- قاعة الأعمدة بالكرنك: قام رمسيس الثاني بإقامة معظمها، وبها 124 عموداً مرتبة في 16 صفاً وتشغل مساحة 500 متراً مربعاً.
أعمدة معبد آمون رع الكبير بالكرنك |
فإذا أخذنا بهذا التفسير – وهو أن الأوتاد تعني الأعمدة – لكان رمسيس الثاني هو صاحب أكبر عدد من الأعمدة في المباني التي أقامها.
إلا أننا نرى أن لو كان المقصود بالأوتاد أنها الأعمدة لذكرها القرآن بذلك فقد سبق ذكر وصف المدينة التي أقيمت في أرض عاد قوم هود بذات العماد أي ذات الأعمدة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } [الفجر: 6-8]. فلو كان المقصود هو الأعمدة لقيل: وفرعون ذي العماد أو صاحب العماد تمشياً مع وحدة الاسم إذا توحد المعنى.
وفي رأينا أن قوله: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } [ص: 12] تعني فرعون ذو المسلات، فالمسلّة هي الإبرة العظيمة ومَخيط ضخم ( لسان العرب جـ 3-2076 والقاموس المحيط جـ 3 ص 397) وإن كان جمعها في هذين المعجمين هو مَسالّ، إلا أن جمعها مسلات لا بأس به وأسهل في النطق، ولعل العرب عندما فتحو مصر ورأوا هذه القطع الصخرية الرفيعة البالغة الارتفاع في أون ( عين شمس ) أو طيبة، وأرادوا تسميتها اشتقوا لها اسما مما ألفوه في حياتهم فشبهوها بالإبرة الكبيرة التي تخاط بها ركائب الغلال وسموها مِسلّة أو اشتقاقاً من المسلّة وهي جريدة النخل الرطبة وكلاهما – الإبرة العظيمة أو جريدة النخل – تكون أرفع بالقرب من طرفها، ويجدر بنا أن نذكر أنهم لما رأوا معابد طيبة ظنوها قصوراً وسموا مدينة طيبة ( الأقصر) وكانت تسمية خاطئة، ولو علموا وقتها أنها معابد لسموها ( المعابد) بدلاً من (الأقصر) وتبعاً لهذا التصور الخاطئ فإنهم لما رأوا المعبد الكبير شبهوه بقصر النعمان المسمى ( الخورنق) وتطور الاسم على مر الأزمنة إلى (الكرنك).
وفي رأينا أن تسمية هذه الأعمدة الحجرية الرفيعة والمدببة بالمسلات لم تكن كذلك تسمية دقيقة فالمسلة الحقيقية أي الإبرة العظيمة التي شبّهوها بها قد يبلغ طولها 15-20 سم في حين أن قطرها قد لا يزيد عن 3 مم أي أن نسبة الطول إلى القطر تكون من 50-70 مرة في حين تقل هذه النسبة في مسلات قدماء المصريين عن ذلك كثيراً، فالمسلة المقامة في باريس يبلغ ارتفاعها 22.55 متراً بينما يبلغ طول ضلع قاعدتها 2.5 متراً أي أن نسبة القاعدة إلى الارتفاع هي 9 مرات وفي مسلة لندن تبلغ النسبة 7 مرات فقط وهي نسبة تقرب من نسبة أبعاد الوتد الذي غالباً ما يكون طوله 50 سم وعرضه 7 سم عند القاعدة أي أن النسبة 7 مرات. زد على ذلك أن المسلة أي الإبرة مستديرة ولا تكون أبداً مربعة الشكل في حين أن الوتد لمكن صنعه من قطعة من الخشب مربعة الشكل بتهذيب طرفها، وإذا نظرنا إلى صورة إحدى هذه المسلات مقلوبة لوجدناها أقرب ما تكون إلى شكل الوتد، وبالمثل لو نظرنا إلى الوتد مقلوباً لوجدناه يشبه المسلة تماماً.
أ ب – وتد جـ- إبرة عظيمة أي مسلّة د- جريدة نخل رطبة أو مسلّة هـ – المسلات الصخرية و- عمود حجري |
ولو كان هناك أحد يعرف الهيروغليفية عند دخول العرب مصر لأخبرهم أن هذه الأعمدة الضخمة ذات الطرف الهرمي – والذي كان يغطي بالذهب أو النحاس فيعكس أشعة الشمس لمسافات بعيدة – كانت رمزاً لعبادة الشمس، ولقرأوا هذه الجملة على قاعدة إحداها مخاطبة إله الشمس:
(أنت تلمع في هذه الأوتاد ( أي الأعمدة ) الصخرية)، إذ أن وتد باللغة الهيروغليفية اسمه بون، ومدينة هيليوبوليس – وهي مركز عبادة إله الشمس – تسمى أون اشتقاقاً من يون فهي مدينة الأوتاد وهي أول مكان أقيمت فيه المسلات في مصر القديمة، كما أن مدينة طيبة (حالياً الأقصر ) كانت ترعف بـ U.astأو Iunu Shemayit أي العمود أو الوتد الجنوبي أو هليوبوليس الجنوب ( مسلات مصر. لبيب حبشي. ص 5-6).
ولو كان العرب عند دخولهم مصر قد سألوا اليونانيين بماذا سمُّوا هذه الإبر الصخرية العظيمة لعلموا أنهم سموها Obeliskos بمعنى وتد وبمعنى عمود مدبب أيضاً، وعن اليونانية أخذت اللاتينية اسم Obltkosثم Obelisqueوفي الإنجليزيةObelisk. وكان القرآن الكريم من الدقة بحيث استعمل اللفظ الصحيح وهو ( فرعون ذو الأوتاد ) بمعنى فرعون ذو المسلات.
وبقي علينا أن نحدد من هو الفرعون المقصود بهذه الصفة، ويمكننا ذلك إذا استعرضنا الفراعين وعدد المسلات التي أقامها كل منهم وخير من كتب في هذا الموضوع هو الدكتور لبيب حبشي، وما يلي مشتق من كتابه (The Obelisks of Egyptمسلات مصر):
– سنوسرت الأول:
مسلتان في هليوبوليس: إحداها لا تزال قائمة للآن وهي من الجرانيت الأحمر وارتفاعها 20.4 متراً، وبقايا الأخرى موجودة في مكانها.
– تحتمس الأول:
أقام أول زوج من المسلات في طيبة، وهما مصنوعتان من الجرانيت الأحمر، إحداهما لا تزال قائمة في معبد الكرنك وارتفاعها 19.5 متراً، بينما أجزاء الثانية ملقاة على الأرض بجوار قاعدها.
– حتشبسوت:
أقامت 4 مسلات في المعبد الكبير في الكرنك، واحدة فقط هي التي لا تزال قائمة في مكانها وارتفاعها 29.5 متراً، وواحدة مكسورة والجزء السفلي قائم على القاعدة، أما المسلتان الأخريان فأجزاؤهما موجودة وملقاة على الأرض، وفي أسوان أمرت بإقامة مسلتين دُمرتا ولم يبق منهما غير أجزاء متناثرة.
– تحتمس الثالث:
أقام 7 مسلات في الكرنك واثنتان في هليوبوليس ومن المسلات التي كانت في الكرنك يوجد النصف العلوي من مسلة في اسطنبول وواحدة في نيويورك وأخرى في لندن وواحدة بدون قاعدة موجودة في روما.
– أمنحتب الثاني:
أقام مسلتين أمام المعبد الذي بناه في هليوبوليس، ومسلتين في جزيرة فيلة ارتفاع الواحدة 2.2 متر فقط، إحداهما نقلت إلى بلدة درهام في إنجلترا، والأخرى موجودة بالمتحف المصري بالقاهرة.
– تحتمس الرابع:
أقام مسلتين في جزيرة فيلة نقلت أجزاء من إحداها إلى المتحف المصري بالقاهرة.
– أمنحتب الثالث:
بالرغم من أن رئيس العمال سجل أنه أشرف على 6 مسلات إلا أنه لم يوجد إلا قاعدة مسلتين وقُدّر ارتفاع كل مسلة بـ 19 متراً.
– أمنحتب الرابع: أختانون:
وكان قد بدأ عقيدته الجديدة وأمر بإزالة أسماء الآلهة من على مسلات أسلافه، ويحتمل أنه أقام مسلة واحدة فقط لنفسه.
– حورمحب:
اقام عدة مسلات صغيرة لم يبق إلا أجزاء منها.
– رمسيس الأول:
نظراً لقصر مدة حكمه فلم يتح له إقامة أي مسلات.
– سيتي الأول:
أقام مسلتين أمام معبده.
– رمسيس الثاني: حظي بنصيب الأسد في عدد المسلات التي أقامها:
– في هليوبوليس: أقام 4 مسلات على الأقل ثلاث نقلت إلى روما والرابعة إلى فلورنسا.
– في حطام أتريب ( بنها ) وجد حطام مسلتين وقاعدتيهما وكانت أجزاء بعض المسلات قد استعلمت في بعض المباني، ونقلت قاعدة إحدى المسلات إلى متحف برلين والثانية موجودة بالمتحف المصري.
– في العاصمة بررعمسيس: توجد أجزاء من 23 مسلة محفور عليها اسم رمسيس الثاني كانت كلها في المعبد الكبير عبارة عن خمسة أزواج (10 مسلات) و13 مسلة فرادى وإحدى هذه المسلات كانت سليمة وهي التي نقلت إلى القاهرة وأقيمت في جزيرة الزمالك بجوار برج القاهرة.
– في طيبة: وبها أطول مسلات لرمسيس الثاني، ففي الجزء الذي أضافه إلى معبد الأقصر أقام مسلتين إحداهما نقلت إلى باريس، والثانية لا تزال باقية في مكانها إلى اليوم ولعلها هي المسلة الوحيدة المقامة في مكانها منذ عهد رمسيس الثاني إلى اليوم، وكل من هاتين المسلتين كان يبلغ ارتفاعها 25 متراً، وهي على ذلك تعتبر من أطول المسلات وتوجد بقايا عدد من المسلات في الكرنك كلها محطمة، وتوجد قاعدة مسلتين عند البوابة الشرقية بالإضافة إلى أجزاء من مسلات أخرى.
مسلة أقامها رمسيس الثاني في الأقصر وتم أخذها إلى ساحة الكونكورد في باريس |
– في أبي سمبل: أقام في المعبد مسلتين الشرقية عليها نقوش تُمثّل رمسيس الثاني بتعبد إلى حوارختى والغربية تصف الملك بأنه (محبوب آمون).
ويمكن تلخيص ما سبق بالآتي:
سنوسرت الأول: 2 مسلة.
تحتمس الأول: 2 مسلة.
حتشبسوت : 6 مسلات.
تحتمس الثالث : 9 مسلات.
أمنحتب الثالث: 2 أو 6 مسلات.
أختانون : واحدة أو لا شيء.
حور محب : مسلات صغير.
رمسيس الأول : لا شيء.
سيتي الأول: 2 مسلة.
رمسيس الثاني: 25 مسلة على الأقل.
وهكذا نجد أن عدد المسلات التي أقيمت قبل عصر رمسيس الثاني تبلغ حوالي 30 مسلة بواقع 3 مسلات في المتوسط لكل فرعون في حين أن رمسيس الثاني وحده أقام ما لا يقل عن 25 مسلة، وكما سبق أن أوضحنا أن الاسم الصحيح الذي كان من الواجب إطلاقه على هذه الأعمدة الصخرية هو لفظ ( وتد ) بدلاً من ( مسلة) ويتضح لنا أن رمسيس الثاني هو صاحب أكبر عدد من الأوتاد وبذلك ينطبق عليه الوصف الذي أطلقه القرآن الكريم على فرعون موسى: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } [ص: 12].. وهذا يضيف برهاناً آخر على أن رمسيس الثاني هو فرعون موسى.
المصدر: كتاب موسى وهارون عليهما السلام من هو فرعون موسى؟ تأليف الدكتور رشدي البدراوي الأستاذ بجامعة القاهرة.