مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً معجزة قرآنية
الثلاثاء/ديسمبر/2019
تحور الساق بعملية البناء الضوئي |
أ.د نظمي خليل أبوالعطا موسى
أستاذ علوم النبات في الجامعات المصرية
في معرض التحدي بين الكفر والإيمان يأتي الكافر بقطعة عظم بالية مستنكرا أن تحيا بعد موتها كما بين تعالى في قوله: “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ” يس (78) : وهو مثل لا ينبغي لأحد أن يضربه، وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق وان الأمر المستبعد على قدرة المخلوق مستبعد على قدرة الخالق، فسر هذا المثل بقوله: (قَالَ) ذلك الإنسان ( منْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) يس (78)، أي: هل أحد يحييها؟ استفهام إنكار، أي: لا أحد يحييها بعدما بليت وتلاشت، هذا وجه الشبه والمثل، وهو أن هذا الأمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر، وهذا القول الذي صدر من هذا الإنسان غفلة منه (وجهلا) ونسيانا لابتداء خلقه، فلو فطن لخلقه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، فوجد عيانا لم يضرب هذا المثل.فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد بجواب شاف كاف فقال: “قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ” يس (79) وهذا بمجرد تصوره يعلم به علما يقينيا لا شبهة فيه أن الذي أنشأها أول مرة (من العدم) قادر على الإعادة ثاني مرة وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور.
(وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يس (79)هذا أيضا دليل ثان من صفات الله تعالى، وهو أن علمه تعالى محيط بجميع مخلوقاته من جميع أحوالها في جميع الأوقات، ويعلم ما تنقص الأرض من أجساد الأموات وما يبقى، ويعلم الغيب والشهادة فإذا اقر العبد بهذا العلم العظيم، علم انه أعظم وأجل من إحياء الله الموتى من قبورهم، ثم ذكر دليلا ثالثا (معجزا) فقال: “ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ” يس (80)فإذا اخرج النار من الشجر الأخضر الذي هو في غاية الرطوبة مع تضادهما وشدة تخالفهما، فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان عبدالرحمن بن ناصر السعدي) (مع وضع الكلمات بين الأقواس).
وفي التفسير العلمي وبيان الإعجاز في الآيات نقول وبالله التوفيق: في الآيات السابقات من الإعجاز العلمي والدليل المنطقي ما يأخذ بالألباب:
فالسؤال المطروح: من يحيي العظام وهي رميم؟
وقد تدرجت الإجابة من المجرد إلى المحسوس، ومن الغائب إلى الحاضر، فالذي خلقها أول مرة على غير مثال سابق من خاماتها الأولية قادر على إنشائها من جديد، وقد خلقها سبحانه وتعالى بقدرة وعلم “ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ” ثم يأتي الله تعالى بالمحسوس والمشاهد والمعجز الدال دلالة قطعية على المقدرة والعلم والإتقان والإعجاز فقال: “ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ” (يس/80)، فالذي خلق النبات الأخضر وانشأ به النار قادر على كل شيء. فالربط بين الشجر الأخضر والنار معجزة علمية، والربط بين الشجر والخضر معجزة كبرى، فإن غاب الشجر غابت النار والطاقة من على الأرض، وان غاب الخضر والاخضرار من النبات هلك النبات واختفى المصدر الرئيس للطاقة الحيوية على الأرض.
فالطاقة الحيوية مصدرها الأصلي الشمس والمثبت الرئيس للطاقة على الأرض هو النبات (الشجر) حيث تسقط أشعة الشمس بضوئها وحرارتها على الأرض فترتفع درجة حرارة اليابسة والماء، ثم بعد غياب الشمس تفقد اليابسة ويفقد الماء حرارتيهم.
ولكن عندما تسقط أشعة الشمس على النبات فانه يقوم بأهم وأعجز عملية حيوية على الأرض حيث يحول طاقة الشمس من طاقة ضوئية إلى طاقة كيميائية مخزنة في الروابط الكيميائية لبعض المركبات الحيوية التي أنتجها النبات بما أودع الله تعالى فيه من خصائص حيوية حيث يثبت كربون ثاني أكسيد الكربون الجوي وكربونات الماء، ويستخدم هيدروجين الماء ليكون السكريات الأولية في النبات وينطلق أكسجين الماء إلى الغلاف الجوي لتعيش عليه الكائنات الحية الهوائية التنفس (النبات – الحيوان – الكائنات الحية الدقيقة الهوائية التنفس والإنسان).وتتم هذه العملية المهمة والمعجزة وفق المعادلة التالية: ثاني أكسيد الكربون + الماء في وجود طاقة الشمس الضوئية يعطى سكرا وأكسجين.
الورقة النباتية المفلطحة لاقتناص الضوء |
وقد هيأ الله سبحانه وتعالى النبات للقيام بذلك حيث خلق له ورقة نباتية مفلطحة تستقبل أكبركمية من الضوء، ورتب تلك الأوراق على النبات ترتيبا معجزا بحيث لا تحول دون سقوط ضوء الشمس على كل ورقة في النبات، وإذا كان النبات في الظل كانت ورقته مفلطحة أكثر وذات تركيب داخلي يعمل على اقتناص اقل كمية من الضوء تسقط عليه، وإذا كان وجود الأوراق يهدد النبات في البيئات الجافة والصحراوية تحولت الأوراق إلى أشواك أو حراشيف وحوت الساق اللون الأخضر للقيام بعملية البناء الضوئي عوضا عن الورقة.
وأودع الله تعالى في الأوراق البلاستيدات الخضراء للقيام بالبناء الضوئي والملونة لحماية البلاستيدات الخضراء من الضوء الشديد وإضفاء البهجة على الأوراق والأزهار والثمار والأوراق الموجودة فيها تلك البلاستيدات.
والبلاستيدات الخضراء تراكيب بيضية الشكل ذات غشاء مزدوج يتكون من الغشاء الخارجي والغشاء الداخلي بداخله سائل يسمى الحشوة، يحيط بالتراكيب الداخلية للبلاستيدة، بداخله تركيب عجيب يسمى بالجرانا يتكون من وحدات قرصية مرصوصة فوق بعضها رصا معجزا تسمى الواحدة منها بالتلاكويدات الجرانية، كما توجد وصلات بين الجرانا بوحدات تسمى ثلاكويدات الحشوة.هذا التركيب البلاستيدتي المعجز يحتوي على صبغ اليخضور أو الكلوروفيل وهو خليط من أربع مواد على الأقل اثنتان منها خضراوان هما كلوروفيل أ وهو أخضر مشوب بزرقة والثاني ب وهو أخضر مشوب بصفرة وكلاهما موجود في البلاستيدات الخضراء بنسبة (3) إلى (1) تقريبا، وصبغتان صفراوان هما الكاروتين والزانثوفيل.
التركيب المعجز للبلاستيدة الخضراء |
والكلوروفيل – خاصة كلوروفيل (أ) هو مادة الاقتناص الرئيسة للضوء، وهو الذي يبدأ تفاعلات البناء الضوئي (انظر كتاب النبات العام احمد مجاهد وآخرون).
ويتكون جزيء الكلوروفيل من حلقة بورفيرين تتكون من أربع حلقات من البيرول يحتوي وسطها على ذرة مغنسيوم وتمتد من إحدى حلقات البيرول الاربع سلسلة كحول الفيتول.
وتقوم الأصباغ الأخرى بحماية جزيء الكلوروفيل من الأكسدة الضوئية والضوء الزائد وبعمليات معجزة وطويلة ومعقدة لا يتسع المقام لبيانها يتم تثبيت ثاني أكسيد الكربون والطاقة الضوئية في السكريات الناتجة من البناء الضوئي، التي تتحول إلى دهون وبروتين وفيتامينات ومنتجات نباتية أخرى داخل النبات، ويتكون اللحاء والفلين والخشب في النبات، وكلها مركبات تحوي الطاقة النباتية الحيوية المخزنة وعندما يتغذى الإنسان والحيوان وتتغذى الكائنات الحية على المنتجات النباتية تتحول إلى طاقة للحياة والى دهون وبروتين حيواني تتغذى عليه الكائنات الحية غير الذاتية التغذية.
المهم في القضية هنا أن النبات الأخضر (الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) هو الذي يحول الطاقة الشمسية الضوئية إلى طاقة كيميائية مخزنة في جذور وجذوع وأوراق وثمار النبات، التي بإشعالها تتحرر تلك الطاقة على هيئة نار يستعملها الإنسان في شتى الاستعمالات المنزلية والصناعية والحياتية، ولذلك ضرب الله تعالى بها المثل المادي العلمي المحسوس المبين لقدرته ومقدرته وعلمه القادر وحده على خلق الإنسان من العدم وإعادة بعثه بعد تحلله.
ملخص عملية البناء الضوئي
|
خلقه من خاماته الأولية، وبعثه من خاماته الأولية، وهو القادر على إنتاج المركبات النباتية وأهمها الطاقة والنار من خاماتها الأولية، والقادر على إطلاقها بما أودع فيها وفي البيئة الأرضية من خصائص معجزة ومركبات معجزة وعمليات لتثبيت وتحرير الطاقة معجزة، وخلق البلاستيدات الخضراء لتثبيت الطاقة وخلق عضيات أخرى كالميتوكوندريا لتحرير تلك الطاقة كما أوضحنا في كتابنا معجزات حيوية علمية ميسرة.
أ.د نظمي خليل أبوالعطا موسى
أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد(11836) – الخميس 19 أغسطس 2010م – 9 رمضان 1431هـ