وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ 16النحل:5-9.
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ﴾, ﴿لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾, ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾, ﴿وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾.
لمَحَات بَيَانِيَّة وعِلْمِيَّة
قبل أن تُستحدث الوسائل الحديثة للانتقال؛ كانت الإبل خاصة هي وسيلة النقل البعيد وحمل البضائع والأثقال, وفي قوله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾؛ بيان بأهمية الأنعام قديمًا عند العرب؛ وهي الضأن (الغنم) والمعز والإبل والبقر, ونعمة النقل البعيد خصها بالذكر قوله تعالى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾, وهي أخص عُرفًا بقوافل الإبل حتى أنها سميت بسفن الصحراء, وقوله تعالى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾؛ يُصَرِّح بالانتقال وبعد المسافة بحيث يتعذر أو يشق الوصول بالأقدام, والتعقيب: ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾؛ تأكيد لنعمة الأنعام.
وفي سياق النقل نبوءة بوسائل أنفع من الدواب: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾, وفيها استبعاد لعديد منافع الأنعام مثل الإمداد باللحوم واللبن عن الخيل والبغال والحمير؛ والاكتفاء بالركوب والزينة.
وأقل وسيلة نقل اليوم يُمكن أن تحمل ما لا تستطعه دابة؛ وتحمل الوسائل الأكبر ركابًا أكثر وأثقالاً لم تُتَخَيَّل من قبل.
ودواب النقل منافعها مقصورة على الركوب والزينة: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ 16النحل:8, والزينة أخص بالخيل عرفًا؛ بخلاف البغال والحمير الأقل قيمة والأكثر شهرة في النقل مع اشتراكهم في الركوب.
لقد فاقت وسائل النقل الحديثة الدواب في السرعة والكفاءة والرفاهية والأيام حبلى بالمزيد من الوسائل أكثر تطورًا.
وأعاد الخطيب ضمير الجمع المؤنث: (وَمِنْها جائِرٌ) على الدواب المذكورة لا (السبيل)؛ كونه مفرد مذكر, وعبارته: “(وَمِنْها جائِرٌ): إشارة إلى أن من هذه الحيوانات ما هو مُستجيب لحاجة الإنسان قد يسر الله سبحانه وتعالى طبيعته حتى توافق طبيعة الإنسان وتألفه؛ ومنها ما هو جائر؛ أي منحرف عن وجهة الإنسان”, وفعلاً من دواب الركوب الجامح النافر العنيد الذي لا تنفعه عصا, وقد يحيد عن الطريق السوي ويطرحك أرضًا فكان خير مثال للجُمُوح!.


ولم يعد وجها لمقارنة الوسائل الحديثة بالدواب؛ والتي أصبح نصيبها من التربية بالمدن للزينة بحدائق الحيوان أكثر منها للنقل, قال الشعراوي: “حين تكلَّم سبحانه عن وسائل المواصلات؛ قال: (والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ), وقوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) أدخل كُلّ ما اخترعنا نحن البشر من وسائل المواصلات.., وإياك أن تقول: أنا الذي صنعتُ الشراع وأنا الذي صنعتُ المركب..؛ ذلك أنك صنعتَ كل ذلك بقواك المخلوقة لك من الله وبالفكر الموهوب لك من الله ومن المادة الموهوبة لك من الله، فكلُّها أشياء جاءتْ بأمر من الله”, “(و) لما ذكر الحق تبارك وتعالى وسائل النقلِ والمواصلات في زمن نزول القرآن قال.. (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)..؛ وإلاَّ فأين السيارة والطائرة والصاروخ.. إذن نستطيع الآن أنْ نُدخِل كل الوسائل الحديثة تحت (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)“, “(ولزم هذا التذييل) ليجعل في القرآن رصيداً لكل ما يُستجد من وسائل المواصلات والانتقال إلى يوم القيامة”.
وقال المراغي: “(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً): أي وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا لتركبوها وجعلها لكم زينة تتزينون بها.., (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) غير هذه الدواب مما يهدى إليه العلم وتستنبطه العقول كالقطر البرية والبحرية والطائرات التي تحمل أمتعتكم وتركبونها من بلد إلى آخر..، والمطاود الهوائية التي تسير في الجو والغواصات التي تجرى تحت الماء؛ إلى نحو.. ما.. يقوم مقام الخيل والبغال والحمير في الركوب والزينة”, “ونحوها قطر السكك الحديدية والسفن الهوائية من مطاود وطائرات تسير في الجوّ حاملة للناس السلع..؛ ومن جرّاء هذا لم يعين الكتاب الكريم ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود مما هو مخبّأ في صحيفة الغيب؛ وهذا من إعجاز الكتاب الكريم”.
والنبأ قد تحقق اليوم مُعاينةً, والشاهد قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾؛ في معرض الحديث عن وسائل نقل, وفعل ﴿َيَخْلُقُ﴾ مضارع يدل على التجدد؛ مما لا يجعل حدًا لما ستكشفه الأيام من وسائل نقل, ولكن عندما تسترخي على كرسيك في سيارة أو قطار أو سفينة فضاء؛ فتذكر أنك تجلس فوق دليل ملموس يشهد للقرآن بالوحي!.
قُطُوف تَفْسِيرِيَّة
قال ابن عاشور: “﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.. وَهَذَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِامْتِنَانِ فَكَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ فِي عَادَتِهِمْ, وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى “مِنَّةِ” الرُّكُوبِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالزِّينَةِ, وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَمْلَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ فِي شَأْنِ الْأَنْعَامِ: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ)؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ عَادَتِهِمْ الْحَمْلُ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَإِنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ تُرْكَبُ لِلْغَزْوِ وَلِلصَّيْدِ، وَالْبِغَالُ تُرْكَبُ لِلْمَشْي وَالْغَزْوِ, وَالْحَمِيرُ تُرْكَبُ لِلتَّنَقُّلِ فِي الْقُرَى وَشِبْهِهَا.., فَلَا يَتَعَلَّقُ الِامْتِنَانُ بِنِعْمَةٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلَةٍ عِنْدَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ..، (باعتبار) جَرَيَانِ الْكَلَامِ عَلَى مُرَاعَاةِ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ.., وَالْخَيْلُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى الْأَصَحِّ.., والْبِغالَ: جَمْعُ بَغْلٍو وَهُوَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.. أُمِّهِ مِنَ الْخَيْلِ وَأَبُوهُ مِنَ الْحَمِيرِ.., وَمِنْ خَصَائِصِ الْبِغَالِ عُقْمُ أُنْثَاهَا بِحَيْثُ لَا تَلِدُ, والْحَمِيرَ: جَمْعُ.. حِمَارٍ.., (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) اعْتِرَاضٌ.., (ويَخْلُقُ) مُضَارِعٌ.. (أي) يَخْلُقُ لَهُمْ خَلَائِقَ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَهَا الْآنَ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أُمَمٍ أُخْرَى كَالْفِيلِ عِنْدَ الْحَبَشَةِ وَالْهُنُودِ؛ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِأَحَدٍ ثُمَّ يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ.., فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْغَيْبِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَنَّهَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُلْهِمُ الْبَشَرَ اخْتِرَاعَ مَرَاكِبَ هِيَ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَتِلْكَ الْعَجَلَاتُ الَّتِي يَرْكَبُهَا الْوَاحِدُ وَيُحَرِّكُهَا بِرِجْلَيْهِ.., وَأَرْتَالُ السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَالسَّيَّارَاتُ.. ثُمَّ الطَّائِرَاتُ..؛ فَكُلُّ هَذِهِ مَخْلُوقَاتٌ نَشَأَتْ فِي عُصُورٍ مُتَتَابِعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا مَنْ كَانُوا قَبْلَ عَصْرِ وُجُودِ كُلٍّ مِنْهَا, وَإِلْهَامُ اللَّهِ النَّاسَ لِاخْتِرَاعِهَا هُوَ مُلْحَقٌ بِخَلْقِ اللَّهِ؛ فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْهَمَ الْمُخْتَرِعِينَ مِنَ الْبَشَرِ بِمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعِلْمِ وَبِمَا تَدَرَّجُوا فِي سُلَّمِ الْحَضَارَةِ وَاقْتِبَاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ إِلَى اخْتِرَاعِهَا، فَهِيَ بِذَلِكَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكُلَّ من نعْمَته, (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ): جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ؛ اقْتَضَتِ اعْتِرَاضَهَا مُنَاسَبَةُ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ تَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ بِالرَّوَاحِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ, فَلَمَّا ذُكِرَتْ نِعْمَةُ تَيْسِيرِ السَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الْجُثْمَانِيَّةِ ارْتَقَى إِلَى التَّذْكِيرِ بِسَبِيلِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الرَّوْحَانِيَّةِ وَهُوَ سَبِيلُ الْهُدَى، فَكَانَ تَعَهُّدُ اللَّهِ بِهَذِهِ السَّبِيلِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ تَيْسِيرِ الْمَسَالِكِ الْجُثْمَانِيَّةِ لِأَنَّ سَبِيلَ الْهُدَى تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَة الأبدية؛ وَهَذِه السَّبِيلُ هِيَ مَوْهِبَةُ الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ، وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى مَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ أَوْ تَصِلُ إِلَيْهِ بِمَشَقَّةٍ عَلَى خَطَرٍ مِنَ التورّط فِي بيّنات الطَّرِيقِ, فَالسَّبِيلُ: مَجَازٌ لِمَا يَأْتِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُوَصِّلَةٌ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ أَوْ دَارِ الْعِقَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ 12يوسف:108.., (و) مِنْ بَيْنِ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ طَرِيقَ ضَلَالٍ وَجَوْرٍ, وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِتَعَهُّدِ اللَّهِ بِتَبْيِينِ سَبِيلِ الْهُدَى حَرْفُ (عَلَى) الْمُسْتَعَارُ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ لِمَعْنَى التَّعَهُّدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ 92الليل:12؛ شَبَّهَ الْتِزَامَ هَذَا الْبَيَانِ وَالتَّعَهُّدِ بِهِ بِالْحَقِّ الْوَاجِب.., وَالْقَصْدُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ, وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِلسَّبِيلِ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: طَرِيقٌ قَاصِدٌ أَي مُسْتَقِيم..، وَذَلِكَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَشَأْنِ الْوَصْفِ بِالْمَصَادِرِ، وَإِضَافَةُ قَصْدُ إِلَى السَّبِيلِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ؛ وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي السَّبِيلِ لِلْجِنْسِ, وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ لِأَنَّ الَّذِي تَعَهَّدَ اللَّهُ بِهِ هُوَ بَيَانُ السَّبِيلِ لَا ذَاتُ السَّبِيلِ, وَضَمِيرُ (وَمِنْها) عَائِدٌ إِلَى السَّبِيلِ.., وَالْجَائِرُ: هُوَ الْحَائِدُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ. وَكُنِّيَ بِهِ عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُوصِّلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ؛ أَيْ إِلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمُفْضِي إِلَى ضُرٍّ، فَهُوَ جَائِرٌ بِسَالِكِهِ, وَوَصْفُهُ بِالْجَائِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ, وَلَمْ يُضَفِ السَّبِيلُ الْجَائِرُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ سَبِيلَ الضَّلَالِ اخْتَرَعَهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ اخْتِرَاعًا لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَقْلُ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ النَّاسَ عَنْ سُلُوكِهَا, وَجُمْلَةُ: (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) تذييل”.
وقال القاسمي: “(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) عطف على (الأنعام), (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً).. أي وتتزينوا بها زينة..، وسر التصريح باللام في المعطوف عليه (لِتَرْكَبُوها) دون المعطوف (وَزِينَةً)؛ هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصليّ.. هو الركوب, وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب, فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل؛ تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين, وتجرد التزين منها؛ تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب”.


وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ 3آل عمران:126؛ قال الرازي: “مَطْلُوبَانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْوَى فِي الْمَطْلُوبِيَّةِ مِنَ الْآخَرِ، فَأَحَدُهُمَا: إِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قُلُوبِهِمْ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (إِلَّا بُشْرى), وَالثَّانِي: حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ عَلَى أَنَّ إِعَانَةَ اللَّهِ وَنُصْرَتَهُ مَعَهُمْ فَلَا يَجْبُنُوا عَنِ الْمُحَارَبَةِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ, فَفَرَّقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْمَطْلُوبِيَّةِ, فَكَوْنُهُ بُشْرَى مَطْلُوبٌ؛ وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ الْأَقْوَى حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ، فَلِهَذَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ عَلَى فِعْلِ الطُّمَأْنِينَةِ فَقَالَ: (وَلِتَطْمَئِنَّ), وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً), وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الرُّكُوبُ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ عَلَيْهَا”, “وَالْأَنْعَامُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؛ قَالَ تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ)؛ إِلَى قَوْلِهِ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ), فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ الْأَنْعَامِ وَبَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ, وَقَالَ تَعَالَى: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) 36يس:71و72, وَقَالَ: (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)؛ إِلَى قَوْلِهِ: (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)؛ وَإِلَى قَوْلِهِ: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) الْأَنْعَامِ:142-144″, و”قَوْلُهُ: (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ)..؛ وَالشِّقُّ الْمَشَقَّةُ وَالشَّقُّ نِصْفُ الشيء، وحمل اللفظ هاهنا عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ جَائِزٌ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى المشقة كان المعنى: لم تكونوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نِصْفِ الشيء كان المعنى: لم تكونوا بَالِغِيهِ إِلَّا عِنْدَ ذَهَابِ النِّصْفِ مِنْ قُوَّتِكُمْ أَوْ مِنْ بَدَنِكُمْ؛ وَيَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى الْمَشَقَّةِ, وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها الْإِبِلُ فَقَطْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَصَفَهَا فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْإِبِلِ, قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ فَبَعْضُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ حَاصِلَةٌ فِي الْكُلِّ وَبَعْضُهَا مُخْتَصٌّ بِالْبَعْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) حَاصِلٌ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِثْلَ حُصُولِهِ فِي الْإِبِلِ.., (و) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَنَافِعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ مَنَافِعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ، فَقَالَ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)..؛ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَصْدُ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ يُقَالُ: طَرِيقٌ قَصْدٌ وَقَاصِدٌ إِذَا أَدَّاكَ إِلَى مَطْلُوبِكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ؛ وَالتَّقْدِيرُ: وَعَلَى اللَّهِ بَيَانُ قَصْدِ السَّبِيلِ، ثم قال: (وَمِنْها جائِرٌ) أَيْ.. مَائِلٌ, وَمَعْنَى الْجَوْرِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ, وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْها جائِرٌ) تَعُودُ عَلَى السَّبِيلِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ؛ يَعْنِي وَمِنَ السَّبِيلِ مَا هُوَ جَائِرٌ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْحَقِّ وَهُوَ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ”.
وقال أبو زهرة: “(وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ): أي يخلق ما نعلم وما لا نعلم؛ وما كان يعلمه العرب وما لَا يعلمونه، ولو أن المتأمل المستبصر تعرف إعجاز القرآن في إخباره بما كان مُغَيَّبًا في زمان نزوله لوجده في مثل هذه الآية، إن مما خلقه اللَّه تعالى مما كان العرب لَا يعلمونه، ولم يكن قط في عصر نزول القرآن: السيارات التي تنهب الأرض نهبا والطائرات التي تقطع أجواء الفضاء قطعا ومما يجري الآن في عصر الفضاء؛ فإن ذلك كله خلقه اللَّه تعالى، ومكن الإنسان في عصره ما لم يكن ليعلمه، وسنرى مما يخلقه اللَّه ويعلمه من بعدنا ولا نعلمه نحن”.
وفي التفسير الوسيط: “(وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ): وكما خلق لكم الأنعام والدواب يهديكم إلى اختراع وسائل أُخرى للتنقل والحمل لم تكن موجودة في عصر نزول القرآن وما تلاه إلى زمن قريب، مثل السيارات والقطارات والطائرات والسفن الضخمة التي تسير بالبخار وغيره إِلى غير ذلك من الوسائل التي لم تعرف حتى الآن، وفي هذا الإِعجاز القرآني ما لا يخفى على الباحثين الدارسين، ولا تزال الكشوف متوالية إِلى ما شاءَ الله بما لم يكن يخطر على بال”.
وقال سيد قطب: “(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ): يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة؛ ليظل المجال مفتوحاً في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة وخارج حدود الزمان الذي يظلهم,فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها, ولا يقولوا: إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها؛ وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها!.., ولقد جدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان, وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان.., وفي معرض النقل والحمل والركوب والسير لبلوغ غايات محسوسة في عالم الأرض، يدخل السياق غايات معنوية وسيرا معنوياً وطرقا معنوية. فثمة الطريق إلى الله. وهو طريق قاصد مستقيم لا يلتوي ولا يتجاوز الغاية. وثمة طرق أخرى لا توصل ولا تهدي, فأما الطريق إلى الله فقد كتب على نفسه كشفها وبيانها بآياته في الكون وبرسله إلى الناس: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ)؛ والسبيل القاصد هو الطريق المستقيم الذي لا يلتوي كأنه يقصد قصدا إلى غايته فلا يحيد عنها, والسبيل الجائر هو السبيل المنحرف المجاوز للغاية لا يوصل إليها؛ أو لا يقف عندها, (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ), ولكنه شاء أن يخلق الإنسان مستعداً للهدى والضلال، وأن يدع لإرادته اختيار طريق الهدى أو طريق الضلال, فكان منهم من يسلك السبيل القاصد ومنهم من يسلك السبيل الجائر, وكلاهما لا يخرج على مشيئة الله؛ التي قضت بأن تدع للإنسان حرية الاختيار”.
وقال السعدي: “(وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)؛ مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء، التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم، فإنه لم يذكرها بأعيانها، لأن الله تعالى لا يذكر في كتابه إلا ما يعرفه العباد، أو يعرفون نظيره، وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه، فيذكر أصلا جامعا يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون، كما ذكر نعيم الجنة وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره، كالنخل والأعناب والرمان، وأجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَان), فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب كالخيل والبغال والحمير والإبل والسفن، وأجمل الباقي في قوله: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ), ولما ذكر تعالى الطريق الحسي، وأن الله قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل وغيرها ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)؛ أي الصراط المستقيم، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها موصل إلى الله, وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله وهو كل ما خالف الصراط المستقيم فهو قاطع عن الله”.


وقال الشنقيطي: “(وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ): ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُ الْمُخَاطَبُونَ وَقْتَ نُزُولِهَا وَأَبْهَمَ ذَلِكَ الَّذِي يَخْلُقُهُ..; وَلَكِنْ قَرِينَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِالْمَرْكُوبَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْمَرْكُوبَاتِ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِمَرْكُوبَاتٍ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ؛ كَالطَّائِرَاتِ وَالْقِطَارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ, وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ إِشَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ, قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ», وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا»; فَإِنَّهُ قَسَمٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَتُتْرَكُ الْإِبِلُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَهَذَا مُشَاهَدٌ الْآنَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ رُكُوبِهَا.., وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ عُظْمَى تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُعْجِزَاتُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ”, وَمَقْصُودُنَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ.. أَنَّ ذِكْرَ: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)؛ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِالْمَرْكُوبَاتِ.. (و) قَدْ ظَهَرَتْ صِحَّةُ ذَلِكَ بِالْعِيَانِ”.
وقبل أن يتجلى النبأ واقعًا مُعَايَنًا ويستقر المضمون؛ حارت عقول الجهابذة وظلت الكيفية مجهولة وإن كانت الألفاظ معلومة حتى تحقق النبأ, قال الشوكاني: “(وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ): أَيْ يَخْلُقُ مَا لَا يُحِيطُ عِلْمُكُمْ بِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ غَيْرَ مَا قَدْ عَدَّدَهُ.., وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ فِي أَسَافِلِ الْأَرْضِ وَفِي الْبَحْرِ مِمَّا لَمْ يَرَهُ الْبَشَرُ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِ, وَقِيلَ: هُوَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي الْجَنَّةِ وَفِي النَّارِ مِمَّا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, وَقِيلَ: هُوَ خَلْقُ السُّوسِ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودِ فِي الْفَوَاكِهِ, وَقِيلَ: عَيْنٌ تَحْتَ الْعَرْشِ وَقِيلَ: نَهْرٌ مِنَ النُّورِ وَقِيلَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ، وَلَا وَجْهَ لِلِاقْتِصَارِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ الْعِبَادُ، فَيَشْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُحِيطُ عِلْمُهُمْ بِهِ، وَالتَّعْبِيرُ هُنَا بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ الْعِبَادُ”.


الوسوم:

مقالات ذات صلة