العلم الحديث.. ومظاهر الإعجاز الجَمالي، وتجليات الإبداع الإلهي.
الأربعاء/ديسمبر/2019
كاتب وأكاديمي في جامعة القاهرة.
الجمال والإبداع صفتان متلازمتان. ومظاهر الجَمال والإبداع المبثوثة في الكون، بجماداته قبل أحيائه.. للعلم فيها نظرتان: نظرة علمية قديمة، وأخرى حديثة.
بيد أن الوعي الجمالي يرتبط بالوعي الإيماني والعقدي ومحوره كيف تنظر للكون وللحياة والأحياء؟, وكيف يمكن تفعيل الحواس لتتذوق ـ بعد تيقنها من المسلمة الكبرى أنه لابد للخلق من خالق ـ مظاهر الإعجاز الجَمالي، وتجليات الإبداع الإلهي?. ويبقي أن هناك جوانباً من العلم تكشف وتضيء وتوضح الإرتباط الوثيق بين نظام الخلق، ومظاهر الإعجاز الجَمالي، وتجليات الإبداع الإلهي، يقول تعالي: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” فصلت: 53. فماهي تفاصيل بعض هذه الجوانب؟.
لقد تبنت النظرة القديمة ـ ومبناها مادي خالص حيث المادة أساسية، والعقل ثانوي ـ عدم الإعتراف بعنصر الجمال / الإبداع كمبدأ أساس من مبادئ العلوم وفلسفتها. فالجَمال ـ برأيها ـ لا يمكن قياسه أو وزنه أو اختباره, ولذا اعتبرته انعكاساً من الشخص/ المراقب للظاهرة موضوع البحث، وليس صفة من صفات الظاهرة/ الشيء الكامنة فيه.
ويجمع رواد هذه المدرسة أمثال: “ديكارت”، و”بيكون”، و”سبينوزا”، و”دارون”، و”فرويد” علي أن: الجمال ليس صفة “حقيقية” في الشيء المدروس, ولا يدل الجميل، ولا المُبهج على أكثر من موقفنا العقلي، أو تأثرنا الغريزي من الحكم على الشيء ذاته [1]. لذلك فنظرتهم المادية للكون مبانها على إنكار “مبدأ الغائية” فيه. فالكون ليس سوى “مادة”، وأن ” الإحساس” ليس سوى تغير مادي، لذا فليس في الأشياء الطبيعية ثمة “هدف/ غائي” مقصود، بل هو تصرف بضرورات ميكانيكية داخلية ليس إلا. وبالتالي يلزم التفسيرات العلمية الإقتصار على تلك الأسباب المادية والميكانيكية فحسب.
لكن ـ وبعد مباحثها في علوم الفيزياء والدماغ والأعصاب والوراثة وعلم النفس ـ رأت المدرسة الجديدة في العلم وروادها أمثال: “أينشتين”، و”هايزنبيرغ”، و”بور”، و”شرنجتون”، و”أكلس”، و”سبرى” :إن الكون بما يمثله هو وحدة كلية واحدة.. وأن المادة ليست أزلية، والكون في تمدد وتغير مستمرين.. وهنا يبرز الجَمال كوسيلة هادية لاكتشاف الحقيقة العلمية، ومقياس لها [2].
وتخلص النظرة العلمية الجديدة إلى التأكد على أن الكون بمجموعة ـ بما في ذلك المادة والطاقة والزمان والمكان ـ “حدث” قد وقع في وقت واحد، وله بداية محددة، لذلك فلابد له من مُوجد: كما تؤكد أن هناك سماتاً موضوعية وليست من قبيل الصدفة، تكمن وراء هذا الجمال/ الإبداع الكوني المتنوع، وليس “إنعكاساً في عين الناظر/ المراقب له”. فما هي تفاصيل ذلك؟.
النظرة العلمية الجديدة.. والجمال/الإبداع في مجال الفيزياء.
إن كبار علماء الفيزياء قد نشدوا “الجمال/الإبداع ” من خلال نظرياتهم العلمية.. في الذرة والمجرة. فذلك “الجمال العلمي في النظريات” يستوجب الإعجاب ـ حسب “اينشتين”، إذا لبى شروطاً ثلاثة: إذا كانت مقدماتها أبسط، و”البساطة تستلزم كمالاً وأقتصاداً”، وإذا كانت الأشياء التي تربط بينها أشد اختلافاً، ثم إذا كانت صلاحيتها للتطبيق هي أوسع نطاقاً [3].
يقول الفيزيائي“لويس دوبرجلي”:كان الإحساس بالجمال في كل عصر من تاريخ العلوم دليلاً يهدي العلماء في أبحاثهم, ويؤكد الفيزيائي “ريتشارد فينمان”: إن المرء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها، وبساطتها وروعتها.. ففي الطبيعة بساطة ومن ثم جمال عظيم.
لذلك فالنظرة الجديدة في العلم تطرح مبدأ: أن الطبيعة جميلة، فالجمال ـ إذن ـ يُعد معياراً في تناول العلوم وفلسفته ونظرياته، والعالم الذي يعمي عن رؤية هذا الجمال هو قليل الحظ من العلم. وهذا رائد مجال ميكانيكاً الكم Quantum Mechanics “هايزنبيرغ” يقول: النظرية مقنعة بفضل كمالها، وجمالها التجريدي..وأن الفيزياء الذرية المعاصرة قد نأت بالعلم عما كان يتسم به من اتجاه مادي في القرن التاسع عشر [4].
إن “نيوين” قد أدهش العلم والعلم عندما قام بتفسير ظواهر سقوط الأجسام، والمد والجزر، وحركة الكواكب والمذنبات بثلاثة قوانين بسيطة. لكن يبقي السؤال: ماهذا السر الرائع وراء ظاهرة “الجاذبية الأرضية”، وتناسبها وتناسقها مع الكائنات والمخلوقات على ظهرها؟ ومن الذي ثبت الأرض بالجبال فكانت مثل الرواسي للقشرة الأرضية ولولاها لاضطربت هذه القشرة الضعيفة والرقيقة، من الذي سخر الرياح، والمجال المغناطيسي “الرائع” للأرض، وجعل النجوم “علامات مضيئة” نهتدي بها، وهل ثمة تفسير علمي فقط لوجود كل هذا الإعجاز الجمالي وغيره في الطبيعة؟ [5].
إن “أينشتين” يؤكد أنه: لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق وتناغم داخلي في الكون..تناسق الأجزاء مع بعضها البعض ومع الكل الجامع [6]. وبحثاً عن هذا التناسق والتناغم الداخلي في الكون سعى علماء الفيزياء, منذ “اسحق نيوتن” 1642-1727م وحتى سبعينيات القرن الماضي, ليكتشفوا ـ أخيراً ـ جمال التوحد الذي يشمل ظواهر الكون الفيزيائية الأربع: الكهربائية والمغناطيسية والنووية والجاذبية, ومثلوا على ذلك: استقرار الأقمار الصناعية في مداراتها الثابتة حول الأرض إنما هو محصلة تناسق بديع بين قانون الجاذبية الأرضية، وقانون القوة الطاردة المركزية[7].
بينما تتعدد مظاهر الجمال الزاخر والإبداع المبثوث في الكون المادي، فنجد على سبيل المثال:
– أحجار الجيودات Geodes حجر النسر/ حجر البهت ذو التجاويف والمبطن ببلورات أو بمادة معدنية، والأحجار الكريمة البلورات بها جمال وتناسق وألوان وإشراق لا سبيل إلى إنكاره.
– ندف الثلج Flakes/Snow Crystals، الجميل، وتنوعاتها الهائلة والمدهشة والفريدة، المستندة إلى الشكل السداسي. وقد بذل “دبليو.أ. بنتلي” في تصوير نحو ألفي شكل منها، ضمن معرض الطبيعة الدائم للزخرفة، والزخرفة ليست نتاج الصدفة أو الضرورة في جهد كبير استغرق من حياته نحو خمسين عاماً وقد جمعها في كتاب مدهش ورائع[8]. لقد تم الاعتماد علي هذه الأشكال كثيراً من قبل الفنانين، ومصممي الصناعات المتعددة النسيج، الخزف والسيراميك، والحلي والجواهر، الخ.
يقول “هنري ثورو”: أكاد أجزم أن صانع هذا العالم تتجلي براعته في كل ندفة ثلج، أو قطرة ندى. نظن أن الأولى تتماسك بصورة ميكانيكية، والأخرى تسيل فتتهاوى بكل بساطة لكنهما في الحقيقة إنعكاس للجمال من يده [9].
تتفجر الأنهار وسط الأحجار، وتتشقق فتخرج منها الماء، وتهبط من خشية الله، ياله من جَمال وروعة تنضح به “جمادات” الكون[10] :“.. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” البقرة:74.
ولاشك أنك واجد في زبد البحر، وأمواجه، وما يحمل من جواري منشأت كالأعلام، وأسطح الجليد، والرياح وسيرها، ومرّ الجبال كمرّ السحاب، وجمال غروب الشمس، وتألق ألوان قوس قزح الرائعة مظاهر جمال وإبداع وبهجة, في آن معاً.
إن الجمال في مجال الفيزياء سمة غالبة، فالتجربة قد تخطئ، والجمال قلما يخطئ فهو يثبت الحياة في العلم. والحقيقة أنه ليست هنالك ضرورة إذ يمكنها أن تسير دون ذلك تفرض في المقام الأول أن تشتمل القونين الفيزيائية للطبيعة علي البساطة والتاسق والتناسب والتماثل والتألق والروعة والإبهار. الحق أنه يقف وراء ذلك “إرادة بديع السموات والأرض”[11]، يقول تعالي:”َبدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ”البقرة:117،
النظرة العلمية الجديدة.. والجمال/ الإبداع في مجال الأحياء
في داخل الخلية الحية، وفي الدورة الدموية، والوصلات والإشارات والإنعكاسات العصبية.. جَمال وإبداع. وفي إلتئام الجروح والكسور.. والنفوس جَمال. فلا يخلو كائن حي.. دقيق أو كبير من جَمال وإبداع.
يروي جيمس واطسن في كتابة “اللولب المزدوج” :إن الجَمال هدى إلى اكتشاف التركيب الجزيئي لحامض النووي د.ن.أ، حيث أكد كل منا للآخر أنه لابد من وجود تركيب علي هذا الجانب من الجَمال”[12].
ويشير “أدولف بورتمان”، الحُجة في مجال أشكال الكائنات الحية وعلاماتها المميزة ووظائفها :أن هناك سماتاً كثيرة لا تفسرها الضرورة أو الملائمة للبقاء، فالأوراق ضرورية لإنتاج الشجرة غذائها، ولكن هناك الكثير في شكلها، وخطوطها مما ليس تكيفا مع البيئة، بل هو أمر جمالي تصويري محض. إن عملية التمثيل الضوئي قد تفسر وجود وظيفة الأوراق، لكنها لا تفسر بأي حال تمايز وجمال ورقة البلوط عن ورقة القيقب[13]. إن الزهور، وأوراق النباتات وتصنيفاتها وعروقها وتعرجاتها الماكروسكوبية منها الميكروسكوبية، وألوانها، تعطي تصانيف جمالية لا حصر لها هي غاية في الإبداع والدقة والإنسجام والتناسق المبهر. صفات تبعث علي البهجة”:”..وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ الحج: 5، ويقول تعالى: “وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ” ق: 7. ويقول جل شأنه:” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ”الزمر:21.
إنها دعوة مستمرة لتأمل “دنيا النبات” واليانع من الثمار:” وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”الأنعام:99.
ولا يصيب العلم الحديث مللٌ من التأكد على لفت الإنظار لتأمل بيوت الحشرات “الهندسية الرائعة” كالعنكبوت، وخلايا مستعمرات النحل و”إعجازها الجمالي، وهندستها السداسية البديعة”، وأشربتها مختلفة الألوان”، يقول تعالى:“ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَالنحل: 69.
كما أنك واجد ـ إذا كنت من الغواصين المحترفين ـ في أقصي أعماق البحار والمحيطات، حيث لا ضوء ينفذ، ولا بشر يعتاد المشاهدة..آيات من الإبهار الجمالي والإعجاز اللوني في الشعاب المرجانية، والأسماك والكائنات البحرية.
لقد تجاوز العلم نظرته لدور ريش الطيور في عملية الطيران وتنظيم حرارة الجسم، فالآن له دور آخر جمالي/ زخرفي، مميز للطائر، بل “معبر عن ذاته”. إن الضرورة قد تفسر لماذ يكون صوت العصفور جميلاً في سمع عصفور آخر، لكنها لا تفسر لماذا يكون جميلاً في سمع الإنسان؟.
إن الحياة تتجه نحو الأجمل، فالأجمل، وليس نحو “البقاء للأقوي” كما زعم “دارون”. فلماذا يخرج من عائلة ذات الحافر الواحد الحصان وهو ليس في قوة وإحتمال وجلد الحمار؟، ومن عائلة ذاوت الظلفين هناك الغزال الأرهف والأضعف, والاقل جلداً وتحملاً من الوعل.؟. ونجد الحمام والطواويس والعاصافير الملونة أكثر رقة ورهافة من الصقور والنسور. كما إن الفراشات الملونة، بأجنحتها المنقوشة الرقيقة هي أقل ملائمة وتحملاً من الزنبور الطنان القوي الشكل. يقول تعالى:“وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”فاطر:28.
بعد بحوثها المتنوعة والمكثفة تبنت النظرة الجديدة للعلم أن: الإدراك والتفكير وعمليات “العقل” الرائعة ليست من صنع المادة، بل إنها تؤثر تأثيراً مباشراً في العلميات الفسيولوجية/ المادية ذاتها عبر ما سمي بالتأثيرات النفسجسمية Psychosomatic effects.
كما رفض رواد نفسيون بـتفسير السلوك البشري بلغة الغرائز “الحيوانية” والدوافع “البهيمية”، وآمنوا ـ بدلاً من ذلك ـ بالقيم الأخلاقية والجمالية، والجوانب الروحية والفكرية والنفسية. إن ” دارون، ومن سار سيره” لا يستطيع تفسير كل ما سبق فضلاً عما أتى به الإنسان من مواهب معنوية عدة لا تعود بنفع مادي على عاداته اليومية، أو بسبب من “تكيف” مباشر لمواجهة ظروف بيئية.
ليس الأمر متوقفاً عند تلبية الضرورات/ المادية.
إن كل نظرية تفسر نشوء الحياة والأنواع كمادة، ولغرض مادي/ ضروري بحت، دونما تفسير للقيم الجمالية/ الغائية من ورائها هي نظريات ناقصة ومبتسرة بل وخاسرة. ولاشك أن انهيار حلقة واحدة من البناء، يقود لانهياره كله، وهكذا النظريات سواء بسواء.
لقد أكد القرآن الكريم أن الأمر: ليس متوقفاً عند تلبية الضرورات/ المادية من طعام وشراب وتناسل وركوب، بل يُتجاوز ذلك بإبداع الخلق، وتلبية حاسة تذوق الجَمال، والحاجة إلى الزينة: “وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”النحل:5-8، ويقول تعالى: “وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ”النحل:13.
إن في الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ والجمال، والبقر والغنم والماعز والقطط والطيور والأسماك والفراشات.. جَمال. ويبرز سؤال: هل تتذوق هذه الكائنات الجَمال، وتشعر به؟. إن خلقها ـ كما الكون ـ على هذا النحو من الجَمال دال أبلغ دلالة على إتقان صنعة مبدعها وخالقها: “صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ” النمل: 88. ويقول صلي الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطرُ الحق وغمطُ الناس) رواه مسلم.
ليس ثمة ضرورة نفعية/ حياتية تفرض وجود مظاهر الجمالم الإبداع في النبات والحيوان، ومن قبلهما الجماد. فجمال الكون وإبداعه ناشئ عن علة لا تحكمها الضرورة أو الصدفة أو تفسيرات دارون وغيره. إن نكران الإبداع الإلهي المُوجد للحياة والإحياء على هذه الصور المتعددة الجميلة ليصطدم بالمنطق العلمي/ العقلي قبل إصدامه بالدين، يقول تعالى: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” فصلت: 53.
هي أولاً وآخراً إرادته تعالى.. القادرة المدبرة الحكيمة البديعة، في خلقه، وبديع صنعته، وحسن إتقانها: “هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ لقمان: 11. ويقول تعالى: “بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” الأنعام:101.
وبـَدع الشيء بَدعاً: اخترعه، وصنعه، وأنشأه علي غير سابق مثال، فهو بديع، وأبدع: أتي بالبديع، والإبداع: إيجاد الشيء من عدم، والـبِِـدع بكسر الباء: الأمر الذي يُفعل أولا، ويقال ما كان فلان في ذلك بٍدعاً، وفي القرآن الكريم:” قل ما كنت بـِدعاً من الرسل”، والبٍدع: الغاية من كل شئ، والبديع: المُبدع، وفي القرآن الكريم: َبدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”[14].
صفوة القول: يبقي الترحال عبر الكون، هو امتثال وطاعة لأمر الله تعالى:” قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”العنكبوت: 20. ثم هو يثري ـ ليس فقط ـ الوعي والذائقة الجمالية, التي هي أيضاً هبة من الله تعالى، بل أيضاً يـُزيد الإيمان بما يثمره ـ ذلك الترحال ـ من معرفة بتجليات اسمه تعالى “البديع”. ومن ثم نعلم تمام العلم أن أصل الكون وبنيته الجميلة تؤكد أن مبدعه، والقيوم عليه هو الله تعالى. وأنه صاحب النعم كلها، المتفضل بها على الإنسان، ليعيش بها أحسن وأجمل وأبهى مايكون:” وما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ”النحل:53. وفي الضر جمال ..يجعلك تعيد الصلة بالله تعالى وتجأر له وحده بالدعاء والإستغاثة. ومن ثم نعبده ـ تعالى شأنه ـ بكل أسمائه الحسنى، وصفاته العُليا، يقول تعالى: “وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه،ِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”الأعراف:180.
إن الجمال عنصرٌ أصيلٌ عند النظر للحياة والكون, فالجمال قيمة معنوية مبثوثة في الكون, جماداته.. وأحيائه، من الذرة إلي المجرة. ففي الوجود الجامد الميت جمال كما الحال في الوجود الحي, ولا ينبغي أن يُرى هذا الجمال المتغلغل فى الكون دون تذوقه, ورؤية مبدعه, ومن ثم حبه, إذ لا يُتصور محبة حقيقية إلا بعد معرفة وإدراك.
يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل التالي:
بقلم الكاتب: أ.د./ ناصر أحمد سنه .. كاتب وأستاذ في جامعة القاهرة.
المنزل: مصر، القليوبية، شبرا الخيمة، 20 ش شرف الدين. ت: 4605542202،
الرقم البريدي: 13411 شبرا الخيمة
ــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] راجع: روبرت م. أغروس، وجورج ن. بستانسيو: “العلم في منظوره الجديد”، ضمن سلسة عالم المعرفة: العدد: 134، فبراير 1989م، ص45-78.
[2] المصدر السابق، ص: 46 وما بعدها.
[3] المصدر السابق ص: 48، وأيضا أنظر المرجع الأصلي:
-Albert Einstein: Autobiographical Notes in Albert Einstein:”philosopher-Scientist”. Ed. Paul Schilpp, New York, 1959 , pp: 33.
[4] العلم في منظوره الجديد، مصدر سابق.ص:45-49.
[5] انظر عدد من المقالات منها م. عبد الدائم الكحيل: التصميم الإلهي الرائع يشهد على قدرة الخالق، مقال منشور علي موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، www:quran-m.com.
[6] المصدر السابق، ص: 49-50..
[7] د. ناصر أحمد سنه:” لكن البقاء للأجمل” مجلة العربي العدد:555، فبراير 2005م، ص 169، الكويت.
5- James Watson: The Double Helix. New York, 1968, pp :131-134.-.
[8] العلم في منظوره الجديد، مصدر سابق. وللمزيد المرجع الأصلي:
-W. A. Bently: Snow Crystals. New York ,1962.
[9] العلم في منظوره الجديد، ص: 77-78، والمرجع الأصلي:
H. David Thoreau: ”On Man and Nature”. ed. Arthur Volkmann. New York. 1960. pp:6.
[10] انظر: د.عماد الدين خليل: مدخل إلي إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1411هـ، ص:27..
[11] راجع سعيد حوي:” الله جل جلاله”، مكتبة وهبة، ص61-63..
[12] العلم في منظوره الجديد، مصدر سابق، ص:46.
[13] المصدر السابق، ص:72. وأنظر أيضاً المرجع الأصليِAdolf Portmann: New pathways in Boiology.
[14] انظر: المعجم الوجيز، مادة بدع، طبعة وزارة التربية والتعليم المصرية، 1993م.