الإعجاز القرآني من خلال لفظ ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾: حين يلتقي الوحي بالعلم

الخميس/أغسطس/2025
جاءت آية النملة في سورة النمل في سياق وصف موكب نبي الله سليمان عليه السلام وجنوده من الإنس والجن والطير، حين مرّوا على وادٍ للنمل، فقالت نملة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: 18].
هذا اللفظ القرآني “لَا يَحْطِمَنَّكُمْ“ أثار اهتمام المفسرين قديماً والباحثين حديثاً، لما يحمله من دقة لغوية وإشارة علمية لم تُكشف إلا في العقود الأخيرة، متعلقة بالهيكل الخارجي للنمل وميكانيكا تحطّمه.
أولا:ً الدقة اللغوية في اختيار لفظ “الحطم“
- المعنى المعجمي
ورد في المعاجم العربية مثل لسان العرب ومختار الصحاح أن “حَطَمَ” يعني كَسَرَ وفتّت، ويُستخدم غالباً لوصف كسر الشيء اليابس الصلب كالعظم أو الزجاج أو النبات الجاف【لسان العرب – مادة حطم】(1)(2) (3).
هذه الدلالة الخاصة تفرّق بين التحطيم وبين ألفاظ مثل:
- يقتل: عام في إزهاق الروح دون وصف طريقة الفعل.
- يدهس/يطأ: يصف الحركة لا النتيجة.
- يسحق: يفيد التفتيت لكنه لا يختص بالأجسام الهشة.
- التفسير عند كبار المفسرين
أدرك المفسرون القدماء هذه الدقة؛ فقال الطبري: “لا يكسرنكم“، (4) وربط القرطبي بين التحطيم وصِغَر النمل وصلابة جسمه، واعتبر أن لو كان ليناً لما تحطّم بالوطء(5).
وهذا يثبت أن العلاقة بين الكلمة والحقيقة الفيزيائية للنمل كانت حاضرة في الوعي التفسيري منذ قرون.
ثانياً: الحقيقة العلمية – هيكل النملة الخارجي
- تركيب الدرع الخارجي (Exoskeleton Structure)
النملة كسائر الحشرات تمتلك هيكلا ًخارجياً (Exoskeleton) يقوم مقام العظام في الفقاريات، لكنه يغلف الجسم من الخارج ويؤدي دوراً مزدوجاً: الحماية الميكانيكية والدعم البنيوي.
ويتكون هذا الدرع من مادة مركبة طبيعية (Natural Composite Material) مذهلة التصميم، تشمل:
- الكيتين (Chitin):
- بوليمر عضوي (Organic Polymer) طويل السلسلة مشتق من سكر معدل يسمى N-acetylglucosamine.
- يشبه في بنيته الكيميائية السليلوز (Cellulose) الموجود في الخشب، لكنه أقوى ميكانيكياً وأكثر مقاومة للتآكل.
- يُشكل الكيتين أليافاً دقيقة (Nanofibers) متناهية الصغر تمنح الدرع مقاومة شد عالية (High Tensile Strength)، أي القدرة على مقاومة قوى السحب والتمزق دون الانكسار.(6)
- البروتين المتصلّب (Sclerotin):
- بروتين هيكلي يخضع لعملية كيميائية تعرف بـ التصلب أو الدباغة (Sclerotization)، وهي عملية ربط متقاطع (Cross-Linking) بين الجزيئات، تحول المصفوفة من مادة لينة إلى مادة صلبة وقاسية مقاومة للماء.
- هذا التصلب يمنح الهيكل الخارجي صلابة عالية (High Hardness) مع قدرة على مقاومة قوى الانضغاط (Compressive Strength).
هذه البنية المزدوجة (ألياف قوية + مصفوفة صلبة) تشبه تماماً ما نراه في المواد المركبة (Composite Materials) التي يصممها الإنسان مثل ألياف الكربون (Carbon Fiber) والفيبرجلاس (Fiberglass)، لكن خلق الله سبقت إلى هذا التصميم بملايين السنين.(7)
- البنية الطبقية (Hierarchical Layered Structure)
الهيكل الخارجي للنملة ليس طبقة واحدة متجانسة، بل هو هيكل هرمي متعدد الطبقات، لكل منها وظيفة ميكانيكية خاصة:
- الجليد الخارجي (Exocuticle):
- طبقة سطحية سميكة تتميز بصلابة عالية ولكنها في المقابل هشّة أي قابلة للكسر المفاجئ عند تجاوز حدود تحملها.
- تعمل كـ “درع وقائي” ضد الخدوش والاختراقات الميكانيكية، لكنها أقل قدرة على امتصاص الصدمات الكبيرة.
- الجليد الداخلي (Endocuticle):
- طبقة أكثر ليونة ومرونة (Flexible & Tough)، تحتوي على ألياف كيتين أقل تصلباً، مما يمنحها قدرة عالية على امتصاص الطاقة (Energy Absorption) وتوزيع الإجهاد (Stress Distribution) أثناء الصدمات.
- هذه الطبقة تمنع انتشار الشقوق (Crack Propagation) من الطبقة الخارجية إلى داخل الجسم، وهي نفس الاستراتيجية التي تستخدمها الهندسة الحديثة في تصميم الدروع الواقية.
هذا التصميم المزدوج (صلب من الخارج، مرن من الداخل) هو ما يعرف في علم المواد بـ “المواد الطبقية المتدرّجة“ (Functionally Graded Materials)، وهي تقنية متقدمة في تصميم المواد لحماية الهياكل من الانهيار.
ثالثاً: ميكانيكا التحطيم (Fracture Mechanics)
- سلوك المادة تحت الضغط (Material Behavior Under Load)
- المواد الصلبة الهشّة (Brittle Materials) مثل الجليد الخارجي للنملة (Exocuticle) لا تتشوه بمرونة عند تجاوز حد تحملها، بل تنهار فجأة عن طريق التشقق والكسر (Cracking & Brittle Fracture).
- هذا النمط من الانهيار يختلف عن المواد المرنة، التي تمتص الصدمات وتنحني قبل الكسر.(8)
- هذا السلوك هو الوصف الدقيق للكلمة القرآنية ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾، إذ أن التحطيم هنا يعني التهشم والانكسار المفاجئ.
2. الخصائص الميكانيكية للهيكل الخارجي للنملة
أ. الصلادة (Hardness ≈ 0.7 GPa)
- التعريف: مقياس مقاومة السطح للخدش أو الاختراق.
- الوحدة: GPa (جيجا باسكال) = مليار باسكال (قوة/مساحة).
- القيمة في النملة: ≈ 0.7 GPa، ما يجعلها أقسى من الظفر البشري (≈ 0.5 GPa) وأقرب لبعض المواد البلاستيكية القوية.(9)
- للمقارنة:
- الزجاج العادي: ≈ 5.5 GPa.
- الأظافر البشرية: ≈ 0.5 GPa.
- هيكل النملة: ≈ 0.7 GPa.
ب. معامل يونغ (Young’s Modulus ≈ 20 GPa)
- التعريف: مقياس الصلابة البنيوية للمادة وقدرتها على مقاومة التشوه عند تعرضها لقوى شد أو ضغط.
- القيمة في النملة: ≈ 20 GPa، أي أكثر صلابة من الخشب (≈ 10 GPa) وأقل من الألومنيوم (≈ 69 GPa)، لكنها تقترب من المواد الهندسية عالية الأداء.
- للمقارنة:
- المطاط: ≈ 0.01 GPa (مرن جداً).
- الخشب: ≈ 10 GPa.
-
- الألومنيوم: ≈ 69 GPa.
- الاكتشاف الأحدث – الدرع المعدني الحيوي (Biomineral Armor)
- في عام 2020، اكتشف فريق بحثي بقيادة Li et al. أن بعض أنواع النمل مثل Acromyrmex echinatior تمتلك طبقة سطحية معدنية حيوية تتكون من كالسيت المغنيسيوم (CaMg(CO₃)₂).(10)
- الأثر الميكانيكي: تضاعف الصلادة من ≈ 0.7 GPa إلى ≈ 1.55 GPa، لتقترب من صلادة السيراميك.
- نمط الانكسار: يشبه الكسر الهش في المواد الخزفية (Ceramic Brittle Fracture)، حيث يتشظى الدرع فجأة عند تلقي ضربة قوية.
يتبين لنا من خلال التأمل في لفظ ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ [النمل: 18] أن القرآن الكريم استخدم تعبيراً بالغ الدقة، يجمع بين الإعجاز اللغوي الذي يعبّر عن الانكسار المفاجئ للأجسام الهشّة، والإعجاز العلمي الذي كشفته الأبحاث الحديثة حول الطبيعة الميكانيكية للهيكل الخارجي للنملة.
فالهيكل المكوَّن من الكيتين والبروتين المتصلّب، والمصمم ببنية طبقية متدرّجة، يتطابق في سلوكه تحت الضغط مع مفهوم “التحطيم” كما ورد في الآية، بل إن الاكتشافات الأخيرة لوجود طبقة معدنية حيوية في بعض أنواع النمل تضاعف صلادته وتجعله أقرب إلى المواد الخزفية، تؤكد أن هذا الوصف القرآني يعبّر بدقة عن حقيقة فيزيائية لم تُعرف إلا في القرن الحادي والعشرين.
وهكذا، يلتقي الوحي الذي نزل قبل أكثر من أربعة عشر قرناً مع العلم الحديث في نقطة واحدة، ليؤكد أن هذا الكتاب العظيم من عند الله تعالى، القائل:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
المراجع :
- https://www.arabdict.com/ar/%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%AD%D8%B7%D9%85
- https://ontology.birzeit.edu/term/%D8%AD%D8%B7%D9%91%D9%8E%D9%85
- https://www.arabdict.com/ar/%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%AD%D8%B7%D9%85
- https://quran-for-all.com/tafsir/al-tabari/27/18
- https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/qortobi/sura27-aya18.html
- https://en.wikipedia.org/wiki/Chitin
- https://en.wikipedia.org/wiki/Arthropod_exoskeleton
- https://en.wikipedia.org/wiki/Arthropod_exoskeleton
- https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC7686325/
- https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC7686325/