آية التسخير الكوني: دعوة للتفكر في أسرار الخلق

 
الثلاثاء/سبتمبر/2025
   

قال الله تعالى:

﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ يَتَفَكَّرُونَ﴾
[الجاثية: 13]

القرآن الكريم لا يكتفي بعرض العقائد والتشريعات، بل يدعو الإنسان لرحلة تأمل عميقة في الكون، ومن أبرز محطات هذه الرحلة آية التسخير. إنها ليست مجرد وصفٍ لعلاقة الإنسان بالعالم من حوله، بل إعلان إلهي بأن هذا الكون بمجراته وأرضه وسمائه مُسخّر لخدمة الإنسان، بما يحمله ذلك من دلائل على عظمة الخالق، ومسؤولية المخلوق في الإعمار والاكتشاف.


أولاً: المعنى العام للآية

تحمل الآية دلالة واضحة على أن الله ﷻ أخضع جميع مكونات الكون لخدمة الإنسان، سواء بشكل قهري، كما في حركة الشمس والقمر والنجوم، أو اختياري، كما في استثمار الإنسان لعلوم الطبيعة.

والخاتمة: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، تفتح الباب على مصراعيه أمام العقل البشري ليتدبر هذه الظواهر الكونية لا بعين التلقّي، بل بعين الباحث المتأمل.


ثانياً: دلالات الآية من منظور علمي

1. تسخير السماوات

أ. قوانين الجاذبية الكونية

قانون الجاذبية الذي صاغه نيوتن يُعدّ من أبرز صور التسخير الكوني، إذ يضبط حركة الأجرام السماوية بدقة مذهلة.
توازن هذا القانون دقيق للغاية: فلو زادت الجاذبية قليلاً، لانهار الكون على نفسه، ولو نقصت، لتفككت النجوم والمجرات.
هذا التوازن الحساس يشير إلى نظام مُتقَن لا مجال فيه للعبث (#1).


ب. الغلاف الجوي وطبقة الأوزون

الهواء الذي نتنفسه ليس عشوائيًا في تكوينه، والغلاف الجوي ليس مجرد فراغ بيننا وبين الفضاء.
بل هو درع واقٍ يمنع الأشعة فوق البنفسجية القاتلة، وينظّم حرارة الكوكب ليبقى صالحًا للحياة (#2).


ج. الثوابت الكونية الدقيقة

ما يزيد عن 20 ثابتًا فيزيائيًا، مثل ثابت الجاذبية وثابت بلانك، تم ضبطها بدقة تصل إلى أعشار الألف.
أي تغير طفيف في هذه القيم كان سيجعل وجود الحياة مستحيلاً.
هذا ما يُعرف بـ”الضبط الدقيق” للكون، وهو من أقوى الشواهد العلمية على وجود تصميم ذكي (#3).


2. تسخير الأرض

أ. دورة الماء

من تبخر مياه البحار، إلى تكوّن السحب، ثم نزول المطر، ثم جري الأنهار وارتواء الأرض، كل ذلك يجري في نظام مغلق متقن.
هذه الدورة تحفظ التوازن البيئي وتضمن استمرارية الحياة (#4).


ب. الموارد الطبيعية والطاقة

الحديد، النحاس، الذهب، النفط… كلها موارد أودعها الله في الأرض، فاستخرجها الإنسان وطوّر بها حضاراته.
ومن لم يتأمل في تسخير الطاقة المتجددة -كالشمس والرياح- فإنه يغفل عن هبات لا تُحصى.


ج. التنوع البيولوجي والدواء

من لحاء شجرة الصفصاف استُخرج الأسبرين، ومن دراسة بنكرياس الحيوانات اكتُشف الإنسولين.
النباتات والحيوانات ليست فقط جزءًا من البيئة، بل مخازن دوائية لا تنضب، تسهم في علاج ملايين البشر (#5).


3. التفكر العلمي: مزيج بين الإيمان والاكتشاف

لفتت الآية الانتباه إلى أهمية التفكر لا مجرد العلم، لأن التأمل العميق يفضي إلى الإيمان، بينما قد يكتفي بعض العلماء بالظاهر.

فالعلم الحديث يقوم على الملاحظة والتجريب والتحليل، وكلما تعمّق الإنسان في فهم الكون، اقترب من إدراك عظمة خالقه.

يقول الفيزيائي بول ديفيز:

“القوانين الفيزيائية المعقدة تشير إلى أن الكون يبدو وكأنه مُعدّ مسبقًا لاستقبال الحياة” (#6).


ثالثاً: أمثلة تطبيقية من الواقع الحديث

المجال المثال وجه التسخير
الفضاء مسار الأرض داخل “المنطقة الصالحة للحياة” اعتدال الحرارة، واستمرار الحياة
البيئة الغلاف الجوي وطبقاته حماية الأرض من الإشعاعات الضارة
الطاقة تسخير الرياح والمياه في توليد الكهرباء بدائل نظيفة ومستدامة للطاقة
الطب استخلاص أدوية من النباتات والكائنات الدقيقة إنقاذ الأرواح وعلاج الأمراض
الاتصالات استخدام الموجات الكهرومغناطيسية ابتكار الإنترنت، الهواتف، الشبكات

رابعاً: الخلاصة والتأمل

تأتي هذه الآية بمثابة جرس تنبيه للعقل الإنساني، تدعوه لكسر حاجز العادة والنظر إلى الكون بعين الباحث المتدبر.
ومع كل اكتشاف علمي جديد، يتجدد في القلب الإيمان بأن هذا الكون دقيق في بنائه، عظيم في تصميمه، متناسق في قوانينه.

قال تعالى:

﴿مَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ﴾
[الحجر: 85]

فكلما تعمّقنا في فهم التسخير، زاد إيماننا بالخالق، وتعاظمت مسؤوليتنا في عمارة الأرض.


المراجع

  1. NASA – Universal Gravitation

  2. NOAA – Ozone Layer Protection

  3. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Fine-Tuning

  4. USGS – Water Cycle

  5. WHO – Essential Medicines

  6. Paul Davies – Physics and Fine-Tuning


الوسوم:


مقالات ذات صلة