السراج الوهاج

 
الأربعاء/فبراير/2022
   

الموجز:
في تفسير قول الله تعالى: ( وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13))[سورة النبأ]، لم يفسر بعض السادة المفسرين القدامى لفظة “سراج”، ولكنهم شُغلوا بلفظة “وهاج”، ولكن بعض المفسرين تنبه لذلك وأورد ما توفر لديه من معلومات في أزمنتهم، كما أن الكثير منهم قدم بعض الحكم من ورود الفعل “جعل” وعدم ورود الفعل “خلق”… وفي هذا اللقاء، عرضنا طرفا مما توصل إليه علماء الفيزياء الفلكية بشأن “الشمس” كنجم من النجوم المشعة، وكيف أنها سراجا وهاجا… ثم عرضنا ما توفر لدينا من معلومات حول وصف رسول اهال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بالسراج المنير، وليس السراج الوهاج، وذلك في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً (46))[سورة الأحزاب]… والآن، ندخل في التفصيلات، واهلّ سبحانه المستعان…
نعيش الدقائق التالية في رحاب قول الله تعالى: ( وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13))[سورة النبأ]، ونبدأ بالتعرّف إلى علم الفلك (Astronomy) ، وهو العلم الذي يعنى بدراسة الأجرام السماوية الموجودة بخارج الغلاف الجوي للكرة الأرضية، وتشمل القمر (التابع للأرض) والكواكب (وأقمارها) التابعة لأقرب نجم لنا وهو الشمس، وكذلك النجوم الأخرى في مجرة “درب اللبانة”، وغيرها من المجرات والسُدُم (Galaxies and Nebulas) والمواد الموجودة فيما بين هذه الأجرام وبعضها (Interstellar objects)… ويشارك في هذه الدراسات والبحوث علماء الفلك والفيزياء والرياضيات والكيمياء والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي وغيرهم…
وأما مهنة التنجيم (Astrology) فتتضمن شق علمي يعتمد على المعرفة بمواعيد ظهور الكواكب والنجوم على مدار السنة، وشق غيبي يختص بالربط فيما بين هذه المواعيد وتوافقها مع تواريخ ميلاد الأشخاص، وبين مجموعة من الأمور المعنوية، كالسعادة والشقاء والحظ والصحة والنصيب والمرض والحياة وغيرها، وهذه أمور حرّمها الشرع الإسلامي الحنيف بنصوص نبوية عديدة…
وأما علم فيزياء الشمس فهو أحد فروع علم الفلك، ويختص بدراسة أحوال الشمس ومحاولة الوقوف على أسرارها. وأقيمت من أجله مئات المعاهد البحثية والمراكز العلمية في العالم، وكذلك أطلقت عشرات الأقمار الصناعية لتدور حول الشمس لهذا الغرض، بالإضافة إلى آلاف المراصد الأرضية والمناظير التي ترصد ظواهر الشمس…
السراج الوهاج في اللغة والقرآن:
في كتاب “العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 173 هـ): السراج: الزاهر الذي يزهر بالليل، والمسرجة التي توضع فيها الفتيلة، والشمس سراج النهار، والهدى سراج المؤمنين…وذكر ابن منظور (ت1311 هـ) (في “لسان العرب”) السراج بأنه المصباح الزاهر الذي يُسرج بالليل، والشمس سراج النهار، والمسرجة (بالفتح) هي التي توضع فيها الفتيلة والدهن (الزيت)، كما أنه بضوء السراج يهتدي الماشي. وقيل السراج: الشمس…
الآية القرآنية التي نعيش في رحابها الآن تحتوي إشارات علمية، من أبرزها وصف الشمس بـ “السراج”، وتأكيد الوصف بـ “الوهاج”. هذا، وقد وردت اثنتي عشرة آية قرآنية تذكر الشمس باسمها، أو تشير إليها بأوصافها، ومنها قول الله تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16))[سورة نوح]، وكذلك ورود صفة السراج لموصوف مفهوم ضمنا من السياق في قول الله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً (61))[سورة الفرقان]…
ولم يفسر الكثير من السادة المفسرين القدامى في لفظة “سراج”، ولكنهم شُغلوا بلفظة “وهاج”، إلا أننا وجدنا من المفسرين المحدثين محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) الذي تنبـّه لها، فقال (في تفسيره “التحرير والتنوير”) :… والسراج: حقيقته المصباح الذي يُستضاء به، وهو إناء يُجعل فيه زيت، وفي الزيت خرقة مفتولة تسمى “الدُّبالة”، تُشعل بنار، فتضيء مادام فيها بلل الزيت. والكلام على التشبيه البليغ، والغرض من التشبيه تقريب صفة المشبه إلى الأذهان (كما أوردنا في سورة نوح). وأما “وهاج” فقال فيه أهل اللغة، كما ورد في كتاب الخليل: الوهج حرّ النار والشمس، وهذا يقتضي أن “الوهاج” هو البالغ في الحرّ… وكما ورد في “مفردات ألفاظ القرآن” للراغب الأصفهاني (ت 502 هـ): الوهج حصول الضوء والحرّ من النار…
وعند المفسرين القدامى، يقول محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 هـ)(في تفسيره “الكشاف”): وهاجا: متلألئا وقادا، وتوهجت النار إذا تلمظت فتوهجت بضوئها وحرّها. ومن المفسرين من قال: إن الوهج مجمع النور والحرارة، فبيّن الله تعالى أن الشمس بالغة إلى أقصى الغايات في هذين الوصفين، وهو المراد بكونها “وهاجا”. وإن كان الكلبي قد روى عن ابن عباس أن الوهاج مبالغة في النور فقط ، يقال للجوهر إذا تلألأ توهج، وهذا يدل على أن “الوهاج” يفيد الكمال في النور (وهو يقصد الضوء)…
وقد التلفت عدد من المفسرين إلى بحث الحكمة من ورود الفعل (جعل) في أول الآية، ولم يرد الفعل (خلق)، ففصّل فيه أبو السعود (ت 951 هـ)، وأوجز ابن عاشور (ت 1393 هـ)، حين قال: … ولذلك أوثر فعل (جعلنا) دون (خلقنا)، لأن كونها سراجا وهاجا حالة من أحوالها، وإنما يتعلق فعل الخلق بالذوات…


السراج الوهاج في علوم الفلك:
هذه كانت جولة سريعة في كتب اللغة والتفسير، فماذا عن “السراج”، وعن “الوهاج”، في كتب وموسوعات العلوم المعاصرة، وخصوصا علوم الفلك؟؟… الشمس “سراج” وقوده في باطنه، وهو عبارة عن نواتج حدوث اندماج نووي (Nuclear fusion) لذرات غاز الهيدروجين تحت ظروف بالغة الضغط والكثافة والحرارة. ويصفها العلماء في هذا الشأن بأنها “مفاعل نووي كوني” عملاق، سخّره الله تعالى ليمدّ المخلوقات الأرضية بالحرارة والضوء، وكلاهما أشعة تنبعث من سطح الشمس بعد إنتاجها في باطنها… وتصل درجة الحرارة في قلبها إلى 15 مليون درجة مئوية، ولكنها تقل باتجاه السطح (طبقة الكرة المضيئة Photosphere ) حتى تصل إلى 5500 درجة مئوية تقريبا…
وسطح الشمس دائم الاضطراب، ويزداد هذا الاضطراب خلال فترة الهياج الشمسي، ومن مظاهره اندفاع ألسنة من اللهب، تزيد مساحة قاعدة كل منها على عدة ملايين من الكيلومترات المربعة، وترتفع الألسنة فيتجاوز بعضها مسافة 350 ألف كيلومترا، وتكون سريعة الاندفاع… وقد تنطلق هذه الألسنة النارية على شكل فوّارات عمودية من اللهب، وقد يتخذ بعضها شكل أقواس نارية….
والوهج، أو الشواظ ، الشمسي (Solar prominence) يبدو على شكل كتل غازية ملتهبة مضيئة، وتلاحظ في الطبقة التاجية (Corona) للشمس، وتقذف بها الشمس إلى مسافات تزيد أحيانا على 500 ألف كيلومترا، فيتبدد بعضها في الفضاء، ويرتد البعض الآخر إلى سطح الشمس على هيئة همرات أو كتل من الوهج (Solar flares).
وهناك أنواع من ألسنة اللهب المنبعثة من سطح الشمس، منها ألسنة هادئة (تهبط الغازات فيها ببطء على امتداد خطوط المجال المغناطيسي للشمس)، وألسنة متفجرة (حيث يقذف الغاز بعنف بعيدا عن الشمس)… وهناك “الوميض الشمسي” (Solar flash)، وهو من أعنف مظاهر النشاط الشمسي، ويظهر خلال فترة تتراوح بين الثانية والساعة، وينتج الوميض من عملية تحرر مفاجئ لكمية كبيرة من الطاقة المختزنة في المجال المغناطيسي… وهناك، أيضا، ما يُسمى “الانفجارات الشمسية” (Solar flare storms)، وتحدث نتيجة لانطلاق الطاقة المخزونة في المجالات المغناطيسية، وتبلغ طاقتها أحيانا 10 32 إرج (Erg) خلال دقائق معدودة.
ويشتمل ضوء الشمس على جميع الألوان المرئية في قوس قزح (Rainbow)، ولكنها تندمج مع بعضها البعض فيُرى ضوؤها أبيضا، أيْ أننا نرى قرص الشمس بلون أبيض. وقد يحدث تشتت لبعض ألوان هذا الضوء، فلا يرى الناس (على الأرض) منه إلا ما بقى من ألوان. وعلى سبيل المثال، حين تكون الشمس في وسط السماء (كما يبدو هذا للناظر من فوق سطح الأرض)، فإن الأشعة الزرقاء في ضوئها تتشتت في جو الأرض، فيرى الناس السماء زرقاء اللون ويرون الشمس مائلة إلى اللون الأصفر… وحين تكون الشمس قريبة من الأفق (وقت الشروق أو وقت الغروب)، يخترق ضوؤها مسارا طويلا في جو الأرض، فيفقد بعض الحزم الضوئية، فتبدو الشمس حمراء اللون… وعند بزوغ جزء صغير من الشمس فوق الأفق، يظهر لنا ما نسميه “الوميض الأخضر”، وذلك لاحتجاب الأشعة الحمراء تحت الأفق، وتشتت الأشعة الزرقاء في جو الأرض…
السراج المنير:
إن ما عرضناه أنفا كان معلومات موجزة وتفاصيلها موجودة في كتب وموسوعات الفلك، وهو يوضح بجلاء عظمة هذا السراج الكوني (الشمس)، ويبين كيف هو المصدر الأساسي للوهج والحرارة والضوء على أرضنا الحبيبة التي شاء الله تعالى أن نعيش فوق سطحها…
والآن نود الإشارة إلى وصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصفه به الله تعالى، وهو “السراج”، إلا أنه أتبعه بصفة أخرى هي الإنارة وليست الإضاءة، فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً (46))[سورة الأحزاب].

وقد عدّد بعض العلماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين ست صفات، هى: نبي، رسول، شاهد، مبشر ونذير، داعي إلى الله بإذنه، سراج منير. ولكن الفخر الرازي (ت 606 هـ) (في تفسيره “مفاتيح الغيب”) عدّها ثمانية صفات، إذ اعتبر “مبشرا” صفة، و”نذيرا” صفة، كما اعتبر “سراجا” صفة، و”منيرا” صفة… وإن كنا نميل إلى دمج الصفتين “بشيرا” و”نذيرا” معا، والصفتين “سراجا” و”منيرا” معا، على اعتبار أن كلا منهما صفة مركبة… كما أنه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم مبشرا من وجه، ونذيرا من وجه، أيْ مبشرا للمؤمنين بأن لهم الجنة، ونذيرا لمن ضلّ وغوى بأن لهم عذاب شديد في جهنم وبئس المصير… وكذلك في الصفة المركبة “سراجا منيرا”، فهو صلى الله عليه وسلم “سراج”، وهذه صفة جلال، وكذلك “منير”، وهذه صفة جمال، أو هو سراج يشعّ الضوء من ثناياه على العالمين… ولما كان ما يتحدث به صلى الله عليه وسلم ليس من عند ذاته، بل هو وحى يتنزل عليه من الله، فيرسله نورا على الناس من حوله، كان صلى الله عليه وسلم “منيرا” وليس “مضيئا”… وإنما الذي وصفه الله تعالى بالسراج المضيء هو الشمس، ذلك الجرم السماوي الذي يراه الناس، وهو سراج – كما أوضحنا في هذا اللقاء – ووهاج، أيْ يشع ضوءه وحرارته ووهجه الذاتي على ما يحيط به…
وفي المقابل، وصف الله تعالى القمر بصفة الإنارة، فقال: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16))[سورة نوح]، فالقمر ليس محرقا كالشمس، بل ينير للكائنات بدون حرّ أو إحراق، إذ يستقبل أشعة الشمس الضوئية فتنعكس على سطحه نورا يسطع على العالمين… وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهبط الوحى عليه، فيرتدّ نورا ورحمة وهداية وبردا وسلاما على العالمين… ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمد نوره من الله، وليس كالقمر الكوني الذي يستمد نوره من الشمس، ميّزه الله تعالى في الوصف بـ “السراج”، أيْ إنه صلى الله عليه وسلم شمس ولكن بدون إحراق أو أذى، بل رحمة وهداية…
وبعد، فلعلنا نكون قد أصبنا فيما عرضناه، فإن كان غير هذا فإننا ندعو الله بالعفو والمغفرة، وأن يوفقنا مستقبلا للتصويب والمزيد، إنه سميع قريب مجيب…


الوسوم:

مقالات ذات صلة