من تجليات اسم الله: القدوس
السبت/ديسمبر/2019
بقلم الداعية التركي بديع الزمان النورسي رحمه الله
يقول الله سبحانه وتعالى:(والأرضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الماهِدُون) (الذاريات: 48)
لقد تجلت لي نكتة من نكات(لفتة أو فكرة) هذه الآية الكريمة وتجلّ من تجليات اسم الله “القدوس” وهو الاسم الأعظم أو أحد أنوراه الستة، وأنا نزيل سجن “أسكي شهر” أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: (الوجود الإلهي) بوضوح تام، وكشف لي: (الوحدانية الربانية) بجلاء، كما يأتي:
لقد تراءى لي هذا الكون وهذه الكرة الأرضية كمعمل عظيم دائب الحركة، وشبيهة بفندق واسع، أو دار ضيافة تُملأ وتُخلى بلا انقطاع علماً أن دار ضيافةٍ بهذه السعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الغادين والرائحين، تمتلئ بالنفايات والأنقاض، ويصيب كل شئ بالتلوث، وتضيق فيها أسبابُ الحياة. فان لم تعمل يد التنظيف والتنسيق فيها عملاً دائماً أدّت تلك الأوساخ إلى اختناق الإنسان واستحالة عيشه..
بيد أننا لا نكاد نرى في معمل الكون العظيم هذا، وفي دار ضيافة الكرة الأرضية هذه أثراً للنفايات، كما أنه لا توجد في أية زاوية من زواياهما مادة غير نافعة، أو غير ضرورية، أو أُلقِيَتْ عبثاً، حتى إنْ ظهرت مادةٌ كهذه سرعان ما تُرمى في مكائن تحويل بمجرد ظهورها، تُحيلها إلى مادة نظيفة..
فهذا الأمر الدائب يدلنا على إن الذي يراقب هذا المعمل إنما يراقبه بكل عناية وإتقان، وإن مالكه يأمر بتنظيفه وتنسيقه وتزيينه على الدوام حتى لا يُرى فيه – رغم ضخامته – أثرٌ للقاذورات والنفايات التي تكون متناسبةً مع كُبر المعمل وضخامته. فالمراعاة بالتطهير إذن مستمرة، والعناية بالتنظيف دائمة ومتناسبة مع ضخامة المعمل وسعته، لأن الإنسان الفرد إن لم يستحم ولم يقم بتنظيف غرفته خلال شهر، لضاقت عليه الحياة.. فكيف بنظافة قصر العالم العظيم؟!
إذن فالطُهر والنقاء والصفاء والبهاء المشاهَد في قصر العالم البديع هذا ما هو إلاّ نابع من تنظيف حكيمٍ مستمر، ومن تطهير دقيق دائم.. فلولا هذه المراقبة المستديمة للنظافة، والعناية المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الأرض – بأجوائها الموبوءة – مئاتُ الآلاف من الأحياء خلال سنة.. ولولا تلك المراقبة الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرّضة للموت والاندثار، لكانت أنقاضُها المتطايرة في الفضاء تحطم رؤوسَنا ورؤوس الأحياء الأخرى، بل رأس الدنيا! ولكانت تمطر علينا كتلاً هائلة بحجم الجبال، وتُرغمنا على الفرار من وطننا الدنيوي! بينما لم تسقط منذ دهور سحيقة من الفضاء الخارجي – نتيجة الاندثار – سوى بضعة نيازك، ولم تُصب أحداً من الناس، بل كانت عبرةً لمن يعتبر! ولولا التنظيف الدائب والتطهير الدائم في سطح الأرض، لكانت الأنقاض والأوساخ والأشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الألوف من أمم الأحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارة تصل إلى حد ينفر كلُّ من له شعور أن ينظر إلى وجه الأرض الدميم، بل كان يسوقه إلى الفرار منها إلى الموت والعدم ناهيك عن حبه وعشقه.
نعم، مثلما ينظف الطيرُ أجنحته بسهولة تامة أو يطهِّر الكاتب صحائف كتابه بيُسر كامل، فان أجنحة هذه الأرض الطائرة – مع الطيور السماوية في الفضاء – وصحائف هذا الكتاب العظيم – أعني الكون – ينظَّفان ويطهَّران ويجمَّلان ويزيّنان بمثل تلك السهولة واليسر، بل إن تطهير سطح الأرض هذا وتنظيفه وتنسيقه وتزيينه هو من كمال الإتقان ما يجعل الذين لا يرون – بإيمانهم – جمال الآخرة يعشقون هذا الجمال وهذه النظافة لهذا العالم الدنيوي بل قد يعبدونه!
إذن فقصر العالم الباذخ هذا، ومعمل الكون الهائل هذا، قد حَظَيا بتجلٍ من تجليات اسم الله “القدوس” عليهما، حتى إنه عندما تصدر الأوامر الإلهية المقدسة الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، المؤدية وظيفة التنظيف والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها أيضاً أنواع الديدان والنمل التي تجمع الجنائز وتقوم بمهمة موظفي الصحة العامة الراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الأوامر التنظيفية حتى الكريات الحمراء والبيضاء الجارية في الدم فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الأجفان الرقيقة تستمع لها فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف أجنحته دائماً..
ومثلما يستمع كل ما ذكرناه لتلك الأوامر القدسية بالتنظيف، تستمع لها أيضاً الرياح الهوج والسحاب الثقال، فتلك تطهِّر وجهَ الأرض من النفايات، والأخرى ترشّ روضَتها بالماء الطاهر فتسكّن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملة أدواتها ليعود الجمالُ الساطع إلى وجه السماء صافياً متلألئاً.
ومثلما تستمع لتلك الأوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف النجوم، والعناصر، والمعادن، والنباتات بأشكالها وأنواعها، تستمع لها الذراتُ جميعاً، حتى إنها تراعي النقاوة والصفاء في دوامات تحولاتها المحيرة للألباب، فلا تجتمع في زاوية دون فائدة، ولا تزدحم في ركن دون نفع، بل لو تلوثت تُنظَّف فوراً وتُساق سوقاً من لدن قدرة حكيمة إلى أخذ أطهر الأوضاع وأنظفها وأسطعها وأصفاها، وأخذ أجمل الصور وأنقاها وألطفها.
وهكذا فان فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبِّر عن حقيقة واحدة هو تجلٍّ أعظم من تجليات اسم “القدوس” الأعظم، يُرى ذلك التجلي الأعظم حتى في أعظم دوائر الكون وأوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية مع أسمائها الحسنى ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيون النافذة النظر.
وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب أجزاء (رسائل النور): أن فعل التنظيم والنظام الذي هو تجلٍ من تجليات اسم الحَكَم والحكيم، وأن فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم العدل والعادل، وأن فعل التزيين والإحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الجميل والكريم، وأن فعل التربية والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الرب الرحيم.. كل فعل من هذه الافعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوح في آفاق الكون كله، فكل منها يشير إلى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء.
كذلك فعلُ التنظيف والتطهير الذي هو تجلٍ من تجليات اسم “القدوس” يدل على وجود ذلك الواجب، كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار..
وكما أن الأفعال المذكورة من تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وأمثالها من الأفعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في أوسع الآفاق الكونية، كذلك أكثر الأسماء الحسنى، بل كل اسم من ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في أوسع دائرة من دوائر الكون كهذا. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الأحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه.
نعم، إن الحكمة العامة التي تُخضع كل شئ إلى قانونها ونظامها، والعناية الشاملة التي تجمّل كل شئ وتزيّنه، والرحمة الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة على كل شئ وتجعله في حمدٍ دائم، والرزق العام الذي يعتاش عليه كلُ ذي حياة ويتمتع بلذائذه، والحياة والإحياء التي تربط كل شيء بالأشياء الأخرى، وتجعل الشيء ينتفع من كل شيء كأنه مالك للأشياء..
هذه الحقائق وأمثالها، المشهودة بالبداهة، والمتسمة بالوحدة، والجاعلة وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهل بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي، كما يدل الضوءُ على الشمس. ولله المثل الأعلى.
فكل فعل من هذه الأفعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يُسنَد إلى (الواحد الأحد) سبحانه لنتجت إذاً مئات المحالات بمئات من الأوجه.
فمثلاً: انه ليست الأفعال كلها كالحكمة والعناية والرحمة والإعاشة والإحياء والإماتة التي هي من الحقائق البديهية ومن دلائل التوحيد، بل حتى فعلٌ واحد فقط منها وهو فعل التطهير لو لم يُسند إلى رب العالمين للزم – في طريق الكفر والضلالة – أن يكون كلُّ شئ له علاقةٌ بالتنظيف ابتداءً من الذرات، إلى الحشرات، إلى العناصر، إلى النجوم، على علمٍ ومعرفةٍ بتنظيف هذا الكون العظيم وتزيينه وتجميله وموازنة ما فيه!! وأن يلاحظ الأمور وفقها، ويقدِر على التحرك.
أو يلزم أن يتصف كلٌ منها بالصفات القدسية الجليلة لرب العالمين!!
أو يلزم أن يكون هناك مجلس شورى واسع سعة الكون كله لتنظيم جميع تزيينات الكون وتطهيره وتقدير كل ما يلج فيه وما يخرج منه وموازنته، وان يشكِّل هذا المجلسَ ما لا يحد من الذرات والحشرات والنجوم!!
وهكذا يصل سالكُ طريق الكفر إلى مئات من أمثال هذه الخرافات السخيفة والمحالات السوفسطائية كي يظهر التزيين المحيط والتنظيف الشامل الظاهر في الأرجاء كافة. أي لا ينشأ محال واحد بل مئات الألوف من المحالات.
نعم، إن لم يسند ضوء النهار والشُميسات المتألقة المثالية في كل شيء على سطح الأرض، إلى الشمس الواحدة، ولم تُفسَّر على أنها انعكاساتٌ لتجلي تلك الشمس الواحدة، للزم وجود شمسٍ حقيقية في كل قطرة ماء لماعة، وفي كل قطعة زجاج شفافة، وفي كل بلورة ثلج مشعة، حتى في كل ذرة من ذرات الهواء، كي يظهر ذلك الضوء الذي يعم الوجود!!
وهكذا؛ فالحكمة ضياءٌ، والرحمة الواسعة ضياء، والتزيين والموازنة والتنظيم والتنظيف كلٌ منها ضياء شامل محيط وشعاع من أشعة ذلك النور الأزلي سبحانه.
فانظر الآن بنور هذا الإيمان لترى كيف يسقط أهل الكفر والضلالة في مستنقع آسن لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقة أهل الضلالة وجهالتهم! واحمد الله قائلاً:
(الحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيمان).
نعم، إن هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد الذي يجعل قصر العالم طاهراً نقياً نظيفاً لهو تجلٍ من تجليات اسم “القدوس” ومقتضىً من مقتضياته.
وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعها إلى اسم “القدوس” وترنو إليه، كذلك يستدعي اسم “القدوس” نظافة تلك المخلوقات وطهارتها[1]، حتى عدّ الحديث الشريف (النظافة من الإيمان) الطهور نوراً من أنواره[2] لارتباطه القدسي هذا، وأظهرت الآية الكريمة أن الطُهر مدعاة إلى المحبة الإلهية ومدار لها، في قوله تعالى:
(إنَّ الله يحبّ التوابينَ ويحبّ المتطهرين).
المصدر: كليات رسائل النور، المجلد الثالث (اللمعات). تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي، رحمه الله.
ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. الطبعة الأولى، استانبول 1993 نشر: دار سوزلر للنشر.
عنوان الأستاذ: إحسان قاسم الصالحي:
[email protected]
الهوامش:
[1] يجب ألاّ ننسى: أن الخصال القبيحة، والاعتقادات الباطلة، والذنوب والآثام، والبدع، كلها من الأوساخ المعنوية. _ المؤلف.
[2] وردت في هذا المعنى أحاديث كثيرة منها: (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان). رواه مسلم وأحمد والترمذي عن أبي مالك الأشعري، (عن كشف الخفاء للعجلوني). _ المترجم.