الفرق بين القرية والمدينة


الثلاثاء/ديسمبر/2019
   

 

 

الفرق بين القرية والمدينة

بسم الله الرحمن الرحيم

 أشكركم كثيرًا على هذا الموقع الرائع، جعله الله في ميزان حسناتكم، إن شاء الله !

ولى سؤال أتمنى أن أعرف إجابته.. في سورة الكهف قال الله تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ(الكهف:77).

ثم قال سبحانه:

﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ(الكهف:82).

لماذا اختلفت التسمية: ( قرية )، ثم  ( مدينه  ) ؟

وشكرًا لكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د/ماهر الزمزمي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا سؤال وردنا من الأخ الدكتور ماهر الزمزمي، وأحلناه إلى الأستاذ محمد إسماعيل عتوك الباحث في أسرار الإعجاز البياني للقرآن، فوافانا مشكورًا بهذا الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على سيد المرسلين.. أما بعد:

جوابًا عن سؤال الأخ الدكتور ماهر أقول وبالله المستعان:

أولاً- لفظ ( القرية ) مشتق من ( القاف والراء والحرف المعتل )، وهو أصل صحيح يدل على جمع واجتماع. وسمِّيت القرية قرية لاجتماع الناس بها. ومنه: قريت الماء في الحوض. أي: جمعته. والنسبة إلى القَرْية: قَرَويٌّ بفتح القاف، وتجمع على ( قُرًى ) بضم القاف، وهي لغة أهل الحجاز، وبها نزل القرآن. قال تعالى:﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً (الكهف:59). ولغة أهل اليمن: قِرْيَة، بكسر القاف، ويجمعونها على ( قِرى ) بكسر القاف.

أما لفظ ( المدينة ) فهو مشتق من ( الميم والدال والنون )، وليس فيه إلا ( مدينة )، على وزن: فعيلة. ومنهم من يجعل الميم زائدة، فيكون وزنها: مَفْعِلة، من قولهم: دِينَ. أَي: مُلِكَ. ويقال: مَدَنَ الرجل ؛ إذا أتى المدينة. وهذا يدل على أن الميم أصلية. وقيل: مَدَنَ بالمكان: أقام به ؛ ومنه سمِّيت المَدينَةُ.

وقيل: المدينة هي الحصن، وكل أرض يُبنَى بها حِصْنٌ في وسطها فهو مدينتها، وتجمع على: ( مُدُن ) بضمتين، و ( مُدْن ) بضم فسكون. وتجمع أيضًا على: ( مَدائن )، وأصلها: ( مداين )، همزت الياء ؛ لأنها زائدة، ومنها قوله تعالى:﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (الشعراء:53).

ثانيًا- إذا عرفت ذلك فاعلم أن اسم ( القرية ) يطلق في اللغة، ويراد به ( المدينة )، كما يطلق اسم ( المدينة ) ويراد به ( القرية ) , والدليل على ذلك قوله تعالى:﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ، فسمَّاها: قرية، ثم قال:﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ، فسمَّاها: مدينة بعد أن سمَّاها: قرية.

ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (يس:13)، ثم قال:﴿ وَجاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى (يس:20)، فسمَّاها: مدينة، بعد أن سمَّاها قرية، فدل ذلك على جواز تسمية إحداهما بالأخرى.  

ومن ذلك إطلاق اسم ( أم القرى ) على مكة المكرمة، وإطلاق اسم ( القريتين ) على مكة والطائف، ومن الأول قوله تعالى:﴿ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ، ومن الثاني:﴿ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾. وقيل: سمِّيت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة خاصة، وغلبت عليها هذه التسمية تفخيمًا لها، شرَّفها الله.

ثالثًا- ومن الفروق بين ( القرية )، و( المدينة ):

1- أن عدد من يسكن ( القرية ) أقل من عدد من يسكن ( المدينة ). ومن هنا قيل: إن قلُّوا قيل لها: قرية، وإن كثروا قيل لها: مدينة. وقيل: أقل العدد الذي تسمَّى به قرية ثلاثة فما فوقها. فالمدينة أوسع من القرية، وأكبر.

2- أن لفظ ( القرية ) يطلق على السكان تارة، وعلى المسكن تارة ؛ وذلك لكثرة استعمالهم لهذا اللفظ ودورانه في كلامهم. قال الراغب: القرية اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وللناس جميعًا، ويستعمل في كل واحد منهما. قال تعالى:﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ (يوسف:82) قال كثير من المفسرين معناه: أهل القرية. وقال بعضهم: بل القرية ههنا القوم أنفسهم. وعلى هذا قوله:﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً ﴾ وقال:﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ (محمد:13). وقوله:﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (هود:117)، فإنها اسم للمدينة.

وحُكِي أن بعض القضاة دخل على علي ابن الحسين رضي الله عنهما، فقال: أخبرني عن قول الله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً (سبأ:18)، ما يقول فيه علماؤكم ؟ قال: يقولون: إنها مكة، فقال: وهل رأيت ؟ فقلت: ما هي ؟ قال: إنما عنى الرجال، فقال: فقلت: فأين ذلك في كتاب الله ؟ فقال: ألم تسمع قوله تعالى:﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ.. (الطلاق:8).

رابعًا- بقي أن تعلم أن الله تعالى عبَّر في قوله:﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ عن ( المدينة )  بلفظ ( القرية ) ؛ لأنه أدلُّ على الذم ؛ لأن معناه يدور على الجمع الذي يلزمه الإمساك، فكان أليق بالذم في ترك الضيافة. ففيه إشعار ببخلهم حالة الاجتماع، وبمحبتهم للجمع والإمساك. ثم وصف القرية بقوله:﴿ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ﴾ ؛ ليبين أن لها مدخلاً في لؤم أهلها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:« كانوا أهل قرية لئامًا ».

وأظهر في قوله:﴿ أَهْلَهَا ﴾، ولم يضمر، فيقول: ( استطعماهم ) ؛ لأنهما استطعما بعض أهلها الذين أتياهم، فجيء بلفظ ( أهلها ) ؛ ليعم جميعهم، وأنهم يتبعونهم واحدًا واحدًا بالاستطعام. ولو كان التركيب ( استطعماهم )، لكان عائدًا على البعض المأتي.

ثم قال تعالى:﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ، فعبَّر عنها بلفظ ( المدينة ) ؛ لإظهار نوع اعتداد بها، باعتداد ما فيها من اليتيمين، وأبيهما الصالح. وفي الحديث « إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته ». ولما كان سوق الكلام السابق على غير هذا المساق عبَّر بلفظ ( القرية ) فيه، دون لفظ ( المدينة ).

وقيل: لما كانت ( المدينة ) بمعنى: الإقامة، كان التعبير بها هنا أليق ؛ للإشارة به إلى أن الناس يقيمون فيها، فينهدم الجدار وهم مقيمون، فيأخذون الكنز ؛ ولهذا قال:( في المدينة ).  

وأما التعبير عن ( القرية ) بـ( المدينة ) في قوله تعالى:﴿ وَجاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى (يس:20)، بعد قوله:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (يس:13)، فللإشارة إلى السعة ؛ إذ كانت قرية واسعة ممتدة الأطراف، بدليل أن الرجل جاء يسعى من أقصاها. أي: من أبعد مواضعها ؛ ولذلك عبَّر عنها هنا بلفظ ( المدينة ) بعد التعبير عنها بلفظ ( القَرْيَة )..  والله تعالى أعلم !

 

بقلم: محمد إسماعيل عتوك

 

 


الوسوم:

مقالات ذات صلة