يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
السبت/ديسمبر/2019
قال الله تعالى :{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [ سورة البقرة الآية :146]، تدل الآية على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يعرفون محمداً – صلى الله عليه وسلم -كما يعرفون أبناءهم ، والقول بعودة الهاء في قوله تعالى : (يعرفونه ) على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – مروي عن ابن عباس – رضي الله عنه – [الإمام ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير1/158 ]،وقال به مجاهد وقتادة وغيرهما [الإمام القرطبي في تفسيره 2/162]، وهذه المعرفة لم تكن بسيطة ، بل كانت في أعلى مستويات المعرفة ، بدلالة هذه الآية الكريمة .
ويبين قوة هذه المعرفة جواب عبد الله بن سلام – رضي الله عنه- وكان عالم اليهود وسيدهم ، أسلم بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ممن بشر بالجنة – لسؤال عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وهو من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وثاني الخلفاء الراشدين – ، حين سأله قائلا له : أتعرف محمدا -صلى الله عليه وسلم -كما تعرف ابنك ؟ قال : نعم ، وأكثر . بعث الله أمينه في السماء إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته ، وابني لا أدري ما كان من أمه .[ أورد الرواية عن عمر القرطبي في تفسيره 2/163 ] .
فأهل الكتاب يجدون ذكر نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – في كتبهم التوراة والإنجيل ، قال الله – تعالى- في القرآن الكريم :{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [سورة الأعراف الآية: 157 ].
وهذا الذكر ، هل هو بالصفة فقط دون الاسم ، أو بالاسم والصفة ؟
أمّا على فرض أنه بالصفة دون الاسم فقد ذهب ابن القيم – رحمه الله – بوجاهة ذلك وحصول الحجية به ، فقال : إن الإخبار عن صفته ، ومخرجه ، أبلغ من ذكره بمجرد اسمه ، فإن الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز .[ انظر هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى للإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق رضوان جامع رضوان ، ص 60 ] .
ومن تأمل قصة قيصر الروم هرقل ، وما جعله يعترف بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – من مطابقة صفاته لما يعرفه من البشارات التي جاءت بوصفه في التوراة ، والإنجيل خاصة ، فإنه يعلم ما لذكر الصفة من أثر في التعرف عليه ، فحين وصلت رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل يدعوه فيها إلى الإسلام ، جعل يبحث في مملكته عن من يأتيه بخبر وصفة هذا النبي الذي يدعوه للإسلام ، فظفر جنده بأبي سفيان بن حرب زعيم قريش وسيدها قبل أن يسلم ، وكان قد خرج في تجارة لقريش إلى الشام ، وذلك بعد صلح الحديبية ، فأدخل هو ومن معه على هرقل في قصره ، فأجلسهم بين يديه ،فقال :أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا .فأجلسوه بين يديه ،وأجلسوا أصحابه خلفه ،ثم دعا بترجمانه فقال :قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ،فإن كذبَني فكذِّبوه .قال أبو سفيان :وأيم الله ، لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت، ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قلت :هو فينا ذو حسب .قال :فهل كان من آبائه ملك ؟ قلت : لا .
قال :فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا . قال : أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم . قال : يزيدون أو ينقصون؟ قلت : لا ، بل يزيدون . قال : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قلت : لا . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت: نعم .قال :فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه .قال : فهل يغدر ؟قلت : لا ، ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها ، ووالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها غير هذه .قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت : لا . ثم قال لترجمانه : قل له إني سألتك عن حسبه ؟ فزعمت أنه ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها . وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه . وسألتك عن أتباعه من الناس أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟فقلت بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل . وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله . وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب . وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم . وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ،فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة . وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان قال هذا القول أحد قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله . ثم قال : بم يأمركم ؟ قلت: يأمرنا بالصلاة ،والزكاة ،والصلة ،والعفاف .قال :إن يك ما تقول فيه حقا ،فإنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ! ولم أك أظنه منكم ! ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ! ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ! وليبلغن ملكه ما تحت قدمي !!
ثم دعا بكتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقرأه فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى .
أما بعد :
فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ( و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) .
فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده ، وكثر اللغط ،وأمر بنا فأخرجنا.[رواه الإمام البخاري ح/4278 ]، فهذا دليل بين بأنهم كانوا يعرفون وقت خروجه ومكانه وأوصافه ، لكن حب الدنيا وحب الملك وخوف القتل صدت هرقل عن قبول الحق ، والإيمان به ، فأعلن رفضه له ، ولم يقف موقف الثبات الذي وقفه الأسقف الأكبر في مملكته – معنى الأسقف : رئيس دين النصارى – والذي أقر هرقل بأنه صاحب أمرهم .
فقد أرسل هرقل بالكتاب إلى الأسقف واسمه ( ضغاطر ) ، فقال الأسقف: هذا الذي كنا ننتظر ، وبشرنا به عيسى ، أما أنا فمصدقه ومتبعه . فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي . ثم قال الأسقف لرسول النبي صلى الله عليه وسلم دحية رضي الله عنه : خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فأقرئ عليه السلام ،وأخبره أني أشهد أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله ، وأني قد آمنت به وصدقته ،وأنهم قد أنكروا على ذلك .ثم خرج إليهم فقتلوه . فلما رجع دحية إلى هرقل قال له :قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا ، فضغاطر كان أعظم عندهم مني .[ الإمام ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/42-43 ]، فدعا هرقل عظماء الروم ، فجمعهم في دار له فقال : يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد ،وأن يثبت لكم ملككم ،فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فقال :علي بهم .فدعا بهم فقال :إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم ،فقد رأيت منكم الذي أحببت .فسجدوا له ورضوا عنه [رواه الإمام البخاري ح/4278 ].
ومن هذا الحديث نقف على أمرين مهمين :
أولا : أن بعث نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -بكتاب إلى قيصر دليل على عموم رسالته لجميع الناس ، عربهم وعجمهم ، أبيضهم وأسودهم ، قال تعالى :{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [سورة الأعراف الآية: 158] ، وقال تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }[ سورة الفرقان الآية: 1 ]، وحياته – صلى الله عليه وسلم – منذ بعثته ، وحتى وفاته شاهدة على عموم رسالته لجميع الناس ، فقد دعا اليهود في المدينة للإسلام ، وجاهدهم فأخرج بعضهم منها ، وقتل بعضهم ، وفي ذلك دليل على عموم رسالته ، ثم إنه دعا النصارى ، فناظر نصارى نجران ، ودعاهم للمباهلة ، وخرج لقتال النصارى في تبوك ، وبعث الكتب لكسرى ، وقيصر ، والمقوقس ، وغيرهم .
إنه لم يفعل ذلك كله إلا لأنه رسول لكل الشعوب على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، بل وللجن أيضا ، قال ابن تيمية – رحمه الله – مدللا على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم ، وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب ، وغير أهل الكتاب ، بل إلى الثقلين الإنس والجن : إنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه ، كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك ، وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم .[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/10 ] .
أما الأمر الثاني :أن هرقل فقه مسألة مهمة ، وهي مسألة يتخذها المعاندون من أهل الكتاب ذريعة لصد الناس عن إتباع الحق ، وهي أن وصول كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه هو بلاغ لرسالته وإن كان بلغة العرب، فلم يرده ، ولم يرفضه ، بل بادر بترجمته ، وفهم معانيه ، وتحري الحق بحواره مع أبي سفيان ، وعرضه على علماء النصارى في مملكته ، وكذلك كان موقف ضغاطر أكبر علماء بلاده ، فلم يرفض الدعوة بحجة أن النبي عربي اللسان ، وهو للعرب خاصة دون غيرهم .
وإن المتأمل اليوم لكثرة المسلمين في شتى بقاع الأرض ، ومن كل اللغات ، ومن كل الأجناس ليعلم أن هذه الرسالة عامة لكل العالمين ، وأن من يقول بخصوصيتها لأهل اللسان العربي ليعارض النصوص من الكتب السماوية الصريحة ، ويغمض عينيه عن ما يشهد به الواقع البشري اليوم ومن قبل ، منذ بعثة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا .
يقول ابن تيمية رحمه الله :أنزل عليه القرآن باللسان العربي ، كما أنزلت التوراة باللسان العبري وحده ، وموسى -عليه السلام – لم يكن يتكلم إلا بالعبرية ، وكذلك المسيح – عليه السلام – لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية ، وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد ، بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا ، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم : إما بأن يترجملمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب ، كما حدث في قصة الكتاب لهرقل وغيره من الملوك ، وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتابفيعرفون معانيه ، وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني ما أرسل بهالرسول إليه بلسانه ، وإن لم يعرف سائر ما أرسل به .
فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بمن ينقل عن الرسول تارة المعنى ، وتارة اللفظ، ولهذا يجوز نقل حديثه بالمعنى ، والقرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء ، وأبناء فارس المسلمون لما اعتنوا بأمر الإسلام ، ترجموا مصاحف كثيرة ، فيكتبونها بالعربي ، ويكتبون الترجمة بالفارسية، وكانوا قبل الإسلام أبعد عن المسلمين من الروم والنصارى ، فإذا كان الفرس المجوس قد وصل إليهم معاني القرآن بالعربي وترجمته ، فكيف لا يصل إلى أهل الكتاب وهم أقرب إلى المسلمين منهم ؟! وعامة الأصول التي يذكرها القرآن عندهم شواهدها ، ونظائرها في التوراة والإنجيل والزبور ، وغير ذلك من النبوات، بل كل من تدبر نبوات الأنبياء ، وتدبر القرآن ، جزم يقينا بأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – رسول الله حقا ، وأن موسى – عليه السلام – رسول الله صدقا ، لما يرى من تصادق الكتابين التوراة والقرآن ، مع العلم بأن موسى – عليه السلام – لم يأخذ عن محمد – صلى الله عليه وسلم – ، وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم -لم يأخذ عن موسى – عليه السلام – ، فإن محمدا – صلى الله عليه وسلم – باتفاق أهل المعرفة بحاله ،كان أُمّيِّاً ، قال تعالى : {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[ سورة العنكبوت الآية : 48 ]، ومن قوم أميين ،قال تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }[ سورة الجمعة الآية : 2 ]، ولم يكن عندهم من يحفظ التوراة والإنجيل ولا الزبور ، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم – مقيما بمكة لم يخرج من بين ظهرانيهم ، ولم يسافر قط إلا سفرتين إلى الشام ، خرج مرة مع عمه أبي طالب قبل الاحتلام ، ولم يكن يفارقه ، ومرة أخرى مع ميسرة في تجارته ، وكان ابن بضع وعشرين سنة ، مع رفقة كانوا يعرفون جميع أحواله ، ولم يجتمع قط بعالم أخذ عنه شيئا لا من علماء اليهود ولا النصارى ولا من غيرهم ، لا بحيرى ولا غيره ، ولكن كان بحيرى الراهب لما رآه عرفه ، لما كان عنده من ذكره ونعته ، فأخبر أهله بذلك ، وأمرهم بحفظه من اليهود ، ولم يتعلم لا من بحيرى ، ولا من غيره كلمة واحدة ، وقد دافع الله تعالى عن نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – في كتابه رداً على من يزعم تعليم البشر له بقوله : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[ سورة النحل الآية :103].ففي الآية تكذيب لهم ، لأن لسان الذي نسبوا إليه تعليم النبي – صلى الله عليه وسلم- أعجمي لا يفصح، والقرآن عربي غاية في الوضوح والبيان .
هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوهمثل : دعواهم أن المسيح – عليه السلام – صلب ، وقول بعضهم أنه إله ، وقول بعضهم أنه ساحر ، وطعنهم على سليمان – عليه السلام -وقولهم أنه كان ساحراً ، وأمثال ذلك ما يبين أنه لم يأخذ عنهم ، وفي القرآن من قصص الأنبياء – عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام – ما لا يوجد في التوراة والإنجيل ، مثل :قصة هود ، وصالح ، وشعيب وغير ذلك ، وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله ، وصفة الجنة والنار ، والنعيم والعذاب ، ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل .[ انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/52، 54 ، 74 ، 78 ].
كما أن اللسان العربي من أفصح لغات الآدميين ، وأوضحها ، والناس متفقون على أن القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة ، والفصاحة ، وفي القرآن من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول – صلى الله عليه وسلم – التي يذكر فيها أن الله – تعالى – أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم مالا يحصى إلا بكلفة ..[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/371 ].
وأما القول بأن ذكره بالاسم ورد في الكتب السماوية فيشهد له عدة أمور:
أولا: تصريح القرآن الكريم بذلك،قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُفَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }[ سورة الصف الآية :6].
ثانيا :تصريح بعض أهل الكتاب باسمه فيما كانوا يبشرون بهمن خروج نبي آخر الزمان ، فقد كان بعض العرب قد سمى ابنه محمدا طمعا في أن يكون النبي المنتظر لما سمعوه من التبشير بخروجه ، فقد خرج أربعة من بني تميم يريدون الشام وهم : عدي بن ربيعة ، وسفيان بن مجاشع ، وأسامة بن مالك ، ويزيد بن ربيعة ، فلما وصلوا الشام نزلوا على غدير ، فسمع حديثهم ديراني في صومعة له ، فأشرف عليهم الديراني فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة أهل البلد .فقالوا :نعم ،نحن قوم من مضر .قال : من أي مضر ؟ قالوا : من خندف .قال :أما إنه سيبعث منكم وشيكا نبي ،فسارعوا وخذوا بحظكم منه ترشدوا ، فإنه خاتم النبيين .فقالوا :ما اسمه ؟ فقال :محمد .فلما انصرفوا من عنده ولد لكل واحد منهم غلاما فسماه محمد. [ المعجم الكبير للإمام الطبراني ح/273- ج 17/111 ].
ولما سمع أكثم بن صيفي التميمي بخروج النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث إليه ابنه ليأتيه بخبره ، فلما رجع ابنه ، قال له أكثم : ماذا رأيت ؟ قال :رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ،وينهى عن ملائمها .فجمع أكثم قومه ، ودعاهم إلى اتباعه ،وقال لهم : إن سفيان بن مجاشع سمى ابنه محمدا حبا في هذا الرجل ، وإن أسقف نجران كان يخبر بأمره وبعثه ، فكونوا في أمره أولا ولا تكونوا أخرا. [ الإصابة في تمييز الصحابة للإمام ابن حجر 1/211 ].
ثالثا : التصريح باسمه في النبوءات والبشارات في الكتب السابقة ، ومن ذلك :
ما رواه برنابا عن عيسى – عليه السلام – من أنه صرح باسم محمد – صلى الله عليه وسلم – فمن كلامه عليه السلام : ( أن الله يعاقب على كل خطيئة مهما كانت طفيفة عقابا عظيما ، لأن الله يغضب من الخطيئة . فلذلك لما كانت أمي وتلاميذي الأمناء الذين كانوا معي أحبوني قليلا حبا عالميا ، أراد الله البر أن يعاقب على هذا الحب بالحزن الحاضر، حتى لا يعاقب عليه بلهب الجحيم . فلما كان الناس قد دعوني الله وابن الله ، على أني كنت بريئا في العالم ، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا ، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي يوم الدينونه . وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله . الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله ) [برنابا .22 – انظر البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل لـ أحمد حجازي السقا 1/145 ].
وجاء في مزامير داود عليه السلام قول داود – عليه السلام – : ( إن ربنا عظم محموداً )، وفي مكان آخر : ( إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا )[ المزامير (48، 67 ، 111 ، 118 )- انظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ، تحقيق رضوان جامع رضوان ،ص95 ]، وهذا تصريح من داود – عليه السلام – باسمه ، وجاء في سفر أشعياء ، قول أشعياء معلنا باسم محمد صلى الله عليه مسلم : ( إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد يا قدوس الرب ، اسمك موجود قبل الشمس ) [سفر أشعياء الإصحاح (21)، انظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ، تحقيق رضوان جامع رضوان ،ص 98 ].
وهذه الشواهد تجعلنا نعطي لمحة مختصرة عن التوراة والإنجيل :
يقول اليهود العبرانيون والسامريون والنصارى أيضا : إن التوراة عبارة عن خمسة أسفار هي: 1- التكوين 2- الخروج 3- اللاويين ( الأحبار ) 4- العدد 5- التثنية .
ويقول العبرانيون والنصارى بكتب تسمى التوراة مجازا لأنبياء أتوا من بعد موسى – عليه السلام – ويسمونها ( كتب الأنبياء ) [ انظر البشارة بنبي الإسلام 1/54 ].
وقد ترجمت من العبرانية إلى اللغة اليونانية عام 285 – 247 قبل الميلاد ، وقد قام بها اثنين وسبعين عالما من علماء اليهود ، ومن الزمان الذي ترجمت فيه التوراة إلى اليونانية ، انتشرت في العالم ، وظهرت ترجمات أخرى لها ، فصعب على اليهود تحريفها ، وزاد من صعوبة التحريف ظهور النصرانية ، وتمسك النصارى بالتوراة ، وتفرقهم بها في جميع البلاد ، وذلك لأنهم كانوا يكتبونها ويضعونها مع كتب الأناجيل الأربعة : 1- متى 2- يوحنا 3- لوقا 4- مرقس في كتاب واحد .
ويسمون مجموع كتب التوراة والإنجيل ( بيبل ) باللغة اليونانية ، أو الكتاب المقدس ،
أو كتب العهد القديم ( التوراة ) ، وكتب العهد الجديد ( الإنجيل ) .[ البشارة بنبي الإسلام 1/58-59 ].
وحديثنا عن النبوءات عند أهل الكتاب ، يجعلنا نتساءل عن موقفنا منها ؟
ويبين ذلك الدكتور سفر الحوالي بقوله : وموقفنا من نبوءات أهل الكتاب هو نفس الموقف من عامة أحاديثهم وأخبارهم ، فهي ثلاثة أنواع :
أولاً: ما هو باطل قطعاً :
وهو ما اختلقوه من عند أنفسهم أو حرفوه عن مواضعه، كدعوى أن نبي آخر الزمان سيكون من نسل داود – عليه السلام -، وأن المسيح الموعود يهودي ، وطمسهم للبشارة بالإسلام ورسوله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ-، وعموماً هو كل ما ورد الوحي المحفوظ (الكتاب والسنة الصحيحة) بخلافه.
ثانياً: ما هو حق قطعاً، وهو نوعان:
أ ) ما صدقه الوحي المحفوظ نصاً، ومن ذلك إخبارهم بختم النبوة، وإخبارهم بنـزول المسيح – عليه السلام- ، وخروج المسيح الدجال، وإخبارهم بالملاحم الكبرى في آخر الزمان بين أهل الكفر وأهل الإيمان، ومن هذا النوع ما قد يكون الخلاف معهم في تفصيله أو تفسيره.
ب) ما صدقه الواقع ، كما في صحيح البخاري عن جرير بن عبد الله – رضي الله تعالى عنه – قال: كُنت بـاليمن ، فلقيت رجلين من أهل اليمن :ذا كلاع و ذا عمرو فجعلت أحدثهم عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال ذو عمرو : لئن كان الذي تذكره من أمر صاحبك؛ فقد مرَّ على أجله منذ ثلاث.- قال ذلك عمرو ، لأنه كان على إطلاع بكتب اليهود باليمن – قال جرير: وأقبلا معي حتى إذا كنا في بعض الطريق رُفِع لنا ركب من قبل المدينة ، فسألناهم، فقالوا: قُبِضَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستُخلف أبو بكر والناس صالحون.
فقالا: أخبر صاحبك أنا قد جئنا ولعلنا سنعود إن شاء الله، ورجعا إلى اليمن ، فحدثت أبا بكر بحديثهم ، فقال: أفلا جئت بهم . فلما كان بعدُ قال لي ذو عمرو : يا جرير ! إن بك عليَّ كرامة، وإني مخبرك خبراً، إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمَّرتم في آخر، فإذا كان بالسيف كانوا ملوكاً، يغضبون غضبَ الملوك ويرضون رضا الملوك .[ رواه الإمام البخاري ح/4101 ، وانظر فتح الباري 8/76].
ثالثاً: ما لا نصدقه ولا نكذبه:
وهو ما عدا هذين النوعين، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ).[ رواه الإمام البخاري ح/ 4215].
ومن ذلك إخبارهم عن الآشوري ورجسة الخراب وأمثالها، وكوننا لا نصدقه ولا نكذبه يعني: خروجه عن دائرة الاعتقاد والوحي إلى دائرة الرأي والرواية التاريخية التي تقبل الخطأ والصواب والتعديل والإضافة ، أي أن النهي لا يعني عدم البحث فيه مطلقاً، ولكنه بحث مشروط، وضمن دائرة الظن والاحتمال.[ انظر يوم الغضب هل بدأ بانتفاضة رجب؟ للدكتور: سفر الحوالي ] .
والحديث عن البشارات والنبوءات التي جاءت في التورات والإنجيل ، هو حديث عن علامة من علامات نبوة محمد– صلى الله عليه وسلم – ، وفيه أداءٌ لحق البلاغ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسله – قال : ( بلغوا عني ولو آية ).[ رواه الإمام البخاري ح/ 3274 ]، فالله – تعالى – جعل سعادة البشرية في الدنيا ، وهدايتهم لكل خير في طاعته واتباعه ، قال تعالى : {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواوَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }[ سورة النور الآية :54 ]، وجعل نجاتهم في الآخرة متوقفة على اتباعه .قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا دخل النار ). [رواه الإمام مسلم ح/153] .
ولقد كان يُعجب النبيَّ – صلى الله عليه وسله – أن يسمع أصحابه قصص أهل الكتاب الدالة على نبوته ، كما ثبت ذلك في قصة إسلام سلمان الفارسي – رضي الله عنه – فبعد أن قص سلمان قصته على النبي – صلى الله عليه وسله – قال :فأعجب رسول الله – صلى الله عليه وسله – أن يسمع ذلك أصحابه رضي الله عنهم .[ أخرجه الإمام أحمد ( 5/441-444 )،قال شعيب الأرنؤوط ،و حسين الأسد في تحقيق سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي( 1/511 ) :رجاله ثقات وإسناده قوي ].
والناظر في أسباب دخول الناس إلى دين الله أفواجا ، وإيمانهم بمحمد – صلى الله عليه وسلم -، وخاصة أكثر العرب الذين لم يكن لديهم علم بتلك البشارات ، يجد أنهم آمنوا لما تبين لهم من آيات وعلامات دلت على صدق نبوته – صلى الله عليه وسلم – بل إن أتباعه عليه الصلاة والسلام من العرب وغيرهم كانوا أكثر بعد موته ، مع عدم إطلاع غالبيتهم على البشارات والنبوءات ، وهم في تزايد مستمر ،وذلك لما رأوا من عدل ورحمة ويسر الشريعة التي جاء بها ، ولما وجدوا من حسن أثر دعوته في أتباعه على مر الأزمان ، ومن ذلك حسن أخلاقهم ،
وما جاء به من علامات تدل على صدق نبوته ، والتي منها :
أولا: القرآن الكريم ،وهو أعظم الآيات والدلائل ، وسائر العلامات له تبع ، والقرآن آية بينة معجزة من وجوه متعددة : من جهة اللفظ ،ومن جهة النظم ، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله -تعالى -وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك ، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي وعن الغيب المستقبل ، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية ، التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }[سورةالإسراء الآية: 89 ]، وانظرالجواب الصحيح 5/428].
والقرآن معجز بمعارفه وعلومه ، ولم يقدر أحد من العرب وغيرهم – مع قوة عداوتهم وحرصهم على إبطال أمره بكل طريق ، وقدرتهم على أنواع الكلام – أن يأتوا بمثله ، قال تعالى :{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }[ سورة الإسراء الآية :88 ]، وانظر الجواب الصحيح 1/427 ].وقال تعالى :{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[ سورة النساء الآية : 82].قال الإمام الطبري – رحمه الله – في تفسير هذه الآية الكريمة : إن الذي أتيتهم به – يا محمد – من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه ، وائتلاف أحكامه ، وتأييد بعضه بعضا بالتصديق ، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق ، فإن ذلك لو كان من غير الله – تعالى – لاختلفت أحكامه ،وتناقضت معانيه ، وأبان بعضه عن فساد بعض.[تفسير الطبري 5/179].
وقال تعالى : {وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }[ سورة يونس الآية :37].
وتأمل أثر القرآن على ملك الحبشة النجاشي ، وبطارقته وكانوا نصارى ، ثم إقرار النجاشي أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم -وهو القرآن – يخرج وما جاء به عيسى – عليه السلام – وهو الإنجيل من مشكاة واحدة ، فقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه بالهجرة إليه لما كانوا يلاقونه من تعذيب وتضييق من كفار مكة ، وكان ملكا عادلا لا يظلم عنده أحد ، وبعد أن وصلوا إليه عاشوا في خير جوار عنده ، آمنين على دينهم يعبدون الله لا يؤذون ولا يسمعون شيئا يكرهونه ،فلما بلغ ذلك قريشا أغضبها ما كانوا يسمعونه عن أمن المهاجرين ،فتآمروا ليلاحقوهم هناك !! وقرروا أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين جلدين ليهدوا للنجاشي هدايا مما يحبه من متاع مكة ،وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم – الجلد – فجمعوا له أدما كثيرا ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ، وأمروهما أمرهم ، وقالوا لهما :ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم . ليستميلوهم فيشيروا على النجاشي بما يريدون .
فخرجا فقدما على النجاشي ،فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ،ثم كلماه فقالا له :أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .
فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم ،فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم .
فغضب النجاشي ،ثم قال :لا ها الله ، أيم الله إذاً لا أسلمهم إليهما ، ولا أُكاد قوما جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم ، فاسألهم ما يقول هذان في أمرهم ،فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا غير ذلك ، منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ،ثم قال بعضهم لبعض :ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا :نقول والله ما علمنا ، وما أمرنا به نبينا – صلى الله عليه وسلم – كائن في ذلك ما هو كائن .
فلما جاؤوه ، وقد دعا النجاشي أساقفته ، فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال :ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ، ولا في دين أحد من هذه الأمم ؟
فكلمه جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقال له :أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية :نعبد الأصنام ،ونأكل الميتة ،ونأتي الفواحش ،ونقطع الأرحام ،ونسيء الجوار ، ويأكل القوى منا الضعيف .فكنا على ذلك حتى بعث الله – تعالى – إلينا رسولا منا ،نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ،فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ،ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ،وأمرنا بصدق الحديث ،وأداء الأمانة ،وصلة الرحم ،وحسن الجوار ،والكف عن المحارم والدماء ،ونهانا عن الفواحش ،وقول الزور ،وأكل مال اليتيم ،وقذف المحصنة ،وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .
فعدد عليه أمور الإسلام ،قال :فصدقناه ،وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ،فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا ،وحرمنا ما حرم علينا ،وأحللنا ما أحل لنا ،فعدا علينا قومنا ،فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ،وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ،فلما قهرونا وشقوا علينا ،وحالوا بيننا وبين ديننا ،خرجنا إلى بلدك ،واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ،ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي :هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟
فقال له جعفر :نعم .
فقال له النجاشي: فاقرأه علي .
فقرأ عليه صدرا من (كهيعص).
فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ،وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم !!
ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . انطلقا ،فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أُكاد .
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص :والله لأنبئنَّه غدا عيبهم ، ثم استأصل به خضراءهم .فقال له عبد الله بن أبى ربيعة وكان أتقى الرجلين في قومه : لا تفعل ،فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا .قال :والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ .
ثم غدا عليه ، فقال له : أيها الملك ! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما ،فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه . فأرسل إليهم يسألهم عنه .
فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض:ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ؟ قالوا:نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا – صلى الله عليه وسلم -كائنا في ذلك ما هو كائن .
فلما دخلوا عليه ،قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟
فقال له جعفر بن أبى طالب – رضي الله عنه -:نقول فيه الذي جاء به نبينا – صلى الله عليه وسلم – هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فضرب النجاشي يده إلى الأرض ، فأخذ منها عودا ،ثم قال :ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود .فتناخرت بطارقته حوله ، حين قال ما قال .فقال :وإن نخرتم والله ، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي – والسيوم الآمنون – من سبكم غرم ، من سبكم غرم ،فما أحب أن لي دبرا ذهبا- يعني جبل – وإني آذيت رجلا منكم . ردوا عليهم هداياهما ، فلا حاجة لنا بها ،فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه .
فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقام المهاجرون – رضي الله عنهم- عنده بخير دار مع خير جار.[ حديث روته أم المؤمنين أم سلمه رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجه الإمام أحمد 1/ 202 ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله رجال الصحيح ].
ثانيا : المعجزات الحسية التي جاء بها، وهي كثيرة جداً ، منها : انشقاق القمر ، وتكثير الطعام القليل، ونبع الماء من تحت أصابعه ، وبكاء جذع النخلة ، وسلام الحجارة عليه ، وتقارب الأشجار له ،و ….و…..وغيرها كثير مما جمعه أهل العلم في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : إخباره – صلى الله عليه وسلم – عن المغيباتالماضية ، والحاضرة ، والمستقبلة ، بأمور باهرة لا يوجد مثلها لأحد من النبيين قبله ، فضلا عن غير النبيين ، ففي القرآن من إخباره عن الغيوب شيء كثير ،وكذلك في الأحاديث الصحيحة مما أخبر بوقوعه فكان كما أخبر . [ الجواب الصحيح 6/80 ].
رابعا: انتفاع أهل الدنيا بدعوة النبي محمد– صلى الله عليه وسلم – أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء ، حتى إن المشركين أدركوا هذا الانتفاع الذي حصلّه المسلمون من دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم – في سائر نواحي الحياة ، فعن سلمان – رضي الله عنه – أن المشركين قالوا له : قد علمكم نبيكم – صلى الله عليه وسلم – كل شيء ،حتى الخراءة !! قال : أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول ، أو أن نستنجي باليمين ، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم . [ أخرجه الإمام مسلم ح/262].
وقد كان اليهود يدركون ذلك ، وأن الشريعة التي بعث بها أيسر الشرائع ، وأخفها على الناس ، فعندما زنى رجل من اليهود بامرأة ، قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي ، فإنه نبي بعث بالتخفيف – وهذا هو الشاهد – فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، فقلنا نبي من أنبيائك !!– وهذا إقرار صريح بنبوته – صلى الله عليه وسلم – فأتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ! ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب فقال : ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ! ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ ) . قالوا : نحممه ، ونجبيه ، ونجلده ._ والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما ويطاف بهما – ، وسكت شاب منهم ، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم -ساكتا ، أنشده ؟ فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم .فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ ) .قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا ، فأخر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في أسرة من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه ، وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه .فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإني أحكم بما في التوراة ).، فأمر بهما فرجما ).[ رواه الإمام أبو داود ح/4450 ] .
خامسا : اجتمع للنبي – صلى الله عليه وسلم – عدة أمور لا يجتمع مثلها إلا لنبيمثل : المعجزات ، ومثل صفاته ، فهذا عدي بن حاتم من سادة قبيلة طيء ، وكان نصرانيا ، يخبر بتأثره بأخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم- وذلك في أول لقاء له به ، قال عدي : فانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة كبيرة فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها!!
قال :قلت في نفسي والله ما هذا بملك !.[ إبن إسحاق رحمه الله، انظر السيرة النبوية لابن هشام رحمه الله 5/278].
ومما اجتمع له إضافة لما ذكر ، قرائن أحواله منذ الصغر فلم يكذب ولم يخن ..الخ [ انظر كتاب البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي السقا ، ينقل عن محصل أفكار المتقدمين للرازي . 1/196 ].
ولكن هل من شرط النبي أن يبشر به من تقدمه ؟
يقول ابن تيمية رحمه الله : ليس من شرط النبي أن يبشر به من تقدمه ، كما أن موسى – عليه السلام – كان رسولا إلى فرعون ولم يتقدم لفرعون به بشارة ، وكذلك الخليل – عليه السلام – أرسل إلى نمرود ولم يتقدم به بشارة نبي إليه ، وكذلك نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط – عليهم السلام – لم يتقدم هؤلاء بشارة إلى قومهم بهم ، مع كونهم أنبياء صادقين ، فإن دلائل نبوة النبي – صلى الله عليه وسله – لا تنحصر في إخبار من تقدمه ، بل دلائل النبوة منها المعجزات ومنها غير المعجزات. [ أنظر الجواب الصحيح 2/ 32].
وهذه الآيات والدلائل المبينة لنبوة محمد – صلى الله عليه وسله – من غير البشارات كثيرة جدا ، وهي حجة على أهل الكتاب ، وعلى غيرهم من الأمم ، قال تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[سورةالمائدة الآية: 19 ] ، وقال تعالى :{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } [ سورةآل عمران الآية: 98 ] ، و القرآن أعظم آية جاء بها النبي – صلى الله عليه وسلم – وهوحجة على من بلغه ، قال تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }[ سورةالأنعام الآية: 19 ] ، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض ، قامت عليه الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه ، فإذا اشتبه معنى بعض الآيات وتنازع الناس في تأويل الآية وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ، فإذا اجتهد الناس في فهم ما أراده الرسول فالمصيب له أجران والمخطىء له أجر .[ الجواب الصحيح 2/293 ].
فكيف يكون جوابهم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ؟!
ويأتي الآن السؤال المهم : ما الدلالات على أن محمدا – صلى الله عليه وسله – مذكور في التوراة والإنجيل ، ليوصف أهل الكتاب بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؟
والجواب يتمثل في الدلالات التالية :
أولا : تصريح القرآن بذلك ،قال تعالى :{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [سورةالأعراف الآية: 157 ] ، وقال تعالى : {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}[ سورة البقرة الآية: 89 ] .
ثانيا : تصريح القرآن ببشارة الأنبياء – عليهم السلام – به ،فقد بشر به عيسى – عليه السلام- قال تعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) ، بل أخذ العهد والميثاق على جميع الأنبياء لئن بعث محمد ليؤمنن به ، قال تعالى :{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }[ سورة آل عمران الآية: 81 ] ، قال ابن عباس – رضي الله عنه -وغيره من السلف : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد – صلى الله عليه وسلم -وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد – صلى الله عليه وسلم -وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه .قال ابن تيمية : فدل ذلك على أنه من أدرك محمدا – صلى الله عليه وسلم – من الأنبياء وأتباعهم وإن كان معه كتاب وحكمة فعليه أن يؤمن بمحمد – صلى الله عليه وسلم -وينصره .[ انظر الجواب الصحيح 2/120- 123 ].
ثالثا : شهادة من أسلم من علماء بني إسرائيل،أن ذكره – صلى الله عليه وسلم – جاء في كتبهم ، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ }[ سورة الشعراء الآية: 197 ] ، وقال تعالى:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[سورة آل عمران الآية: 199].وقال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ .وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ .أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }[ سورة القصص الآية :52- 54].
ومن ذلك أن عالم اليهود وابن عالمهم وسيدهم وابن سيدهم عبد الله بن سلام كان فوق نخلة له يجدها ، فسمع رجة فقال: ما هذا ؟ قالوا : هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد قدم .فألقى بنفسه من أعلى النخلة ثم خرج [ مجمع الزوائد 8/243 ].
فكان فيمن انجفل إليه ، يقول عبد الله بن سلام : فلما تبينت وجهه ، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعته يقوله : ( أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام )[ رواه الإمام أحمد 5/ 451 ].
ثم رجع فقالت له أمه: لله أنت !! لوكان موسى بن عمران – عليه السلام – ما كان بذلك تلقي نفسك من أعلى النخلة . فقال : والله لأنا أشد فرحا بقدوم رسول الله من موسى إذ بعث .[ قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أن حمزة بن يوسف لم يدرك جده عبدالله بن سلام ،مجمع الزوائد 8/243 ].
وفي رواية ابن إسحاق : أنه قال لعمته خالدة : أي عمة ، هو والله أخو موسى بن عمران ، وعلى دينه ، بعث بما بعث به .فقالت : أي ابن أخي ! أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نَفَس الساعة ؟ فقلت لها : نعم . [إبن إسحاق في سيرة ابن هشام 3/50 ].
ثم جاءه بعد ذلك فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبي : فما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (أخبرني بهن جبريل آنفا ). قال : جبريل ؟!!قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : ( نعم ).قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة .
فقرأ هذه الآية : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) ، أما أول أشراط الساعة ؟ فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام أهل الجنة ؟ فزيادة كبد حوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ). فقال ابن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله ، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني .فجاءت اليهود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ ).قالوا : خيرنا ، وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا . قال : ( أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ ).فقالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقالوا :شرنا وابن شرنا ، وانتقصوه . قال ابن سلام : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .[ رواه الإمام البخاري 4210 ، 3699 ]. . وفي رواية قال : يا معشر اليهود ! اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق .[ رواه الإمام البخاري 3621 ].
وكان بعض أهل الكتاب يُذكِّر البعض الآخر ، ويقيم الحجة عليهم ، فهذا مخيريق من أحبار بني النضير وعلمائها وأغنيائها يقيم الحجة على يهود ، وكان يعرف رسول الله – صلى الله عليه وسله – بصفته وما يجد في علمه ، وكان قد غلب عليه إلف دينه ، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد – وكان يوم أحد يوم السبت من شهر ..شوال من السنة الثالثة للهجرة – قال : يا معشر يهود ! والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق .قالوا : إن اليوم يوم السبت . قال : لا سبت لكم . ثم أخذ سلاحه ، فخرج حتى أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد- صلى الله عليه وسلم – يصنع فيها ماشاء .
فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول🙁 مخيريق خير يهود ).[ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/51 ].
و شاهد آخر في موقف (ضغاطر )كبير الأساقفة زمن هرقل ، عندما أرسل إليه هرقل بكتاب النبي – صلى الله عليه وسله – يستشيره فيه ، فقال الأسقف: هذا الذي كنا ننتظر ، وبشرنا به عيسى – عليه السلام – أما أنا فمصدقه ومتبعه . فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي . ثم قال الأسقف لرسول النبي صلى الله عليه وسلم : خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك ، فأقرئ عليه السلام ،وأخبره أني أشهد أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله ، وأني قد آمنت به وصدقته ،وأنهم قد أنكروا على ذلك .ثم خرج إليهم فقتلوه .[ ابن حجر في فتح الباري 1/42-43].
وأورد شيخ الإسلام بن تيمية إقرار وشهادة الحسن بن أيوب ، و كان من أجلاء علماء النصارى ، وأخبرِ الناسِ بأقوالهم ، ومن أخبرِ الناس بمقالاتهم ، فأسلم على بصيرة ، وكتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ، ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام ، قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه ؟ ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه ،والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة !! لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز وجل ، بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم ، وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى ،ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ، ولا تثبت في تقرير ذلك ، وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه بان لي عواره ، ونفرت نفسي من قبوله ، وإذا فكرت في دين الإسلام الذي مَنّ الله علي به وجدت أصوله ثابتة ، وفروعه مستقيمة ، وشرائعه جميلة ، وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم ، وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل ، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين ،….، إلى أن قال : ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،لا نفرق بين أحد منهم ، ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد .
قال :وكان يحملني إلف ديني ، وطول المدة والعهد عليه ، والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات ، والأقارب والإخوان والجيران ،وأهل المودات على التسويف بالعزم والتلبث على إبرام الأمر ، ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر ، والازدياد في البصيرة ، فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء ، والقرآن ، إلا نظرت فيه ،وتصفحته ، ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته ، فلما لم أجد للحق مدفعا ، ولا للشك فيه موضعا ، ولا للأناة والتلبث وجها خرجت مهاجرا إلى الله عز وجل بنفسي ، هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل ، فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة ، وسريرة صادقة ، ويقين ثابت ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.[ الجواب الصحيح 4/88].
رابعا : إخبار علمائهم ، بصفته ، ومكانه ، ووقت خروجه ،وهو ماكان سببا في إسلام سلمان الفارسي – رضي الله عنه – وإليكم قصة سلمان العجيبة ، يرويها بنفسه فيقول: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها جى ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة .
وكانت لأبي ضيعة عظيمة – الضيعة :هي تجارة الرجل ،أو صناعته ، أو زراعته – ، فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي : يا بني !إني قد شُغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي ،فاذهب فاطلعها ،وأمرني ببعض ما يريد فخرجت أريد ضيعته ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدرى ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم ، دخلت عليهم انظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ،ورغبت في أمرهم ، وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ؛ فو الله ما تركتهم حتى غربت الشمس. وتركت ضيعة أبي ولم آتها ، فقلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام . ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : أي بني! أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قلت : يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال :أي بني ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه . قلت :كلا والله إنه لخير من ديننا .قال: فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته .
وبعثت إلى النصارى فقلت لهم :إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم . فقدم عليهم من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم ، فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فأخبروني. فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ،فألقيت الحديد من رجلي ،ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها ،قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا الأسقف في الكنيسة . فجئته ،فقلت : إني قد رغبت في هذا الدين ، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلى معك .قال : فادخل ، فدخلت معه ، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ،فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قِلال من ذهب ووَرِق ، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع .
ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها ،فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا ، قالوا : وما علمك بذلك ، قلت :أنا أدلكم على كنزه ،قالوا: فدلنا عليه ، فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ، فلما رأوها قالوا :والله لا ندفنه أبدا .فصلبوه ، ثم رجموه بالحجارة ،ثم جاؤوا برجل آخر ،فجعلوه مكانه ، فما رأيت رجلا – يعني لا يصلي الخمس – أرى أنه أفضل منه ، أزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ونهارا منه ، فأحببته حبا لم أحبه من قبله ، وأقمت معه زمانا ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه من قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله ، فإلى من توصى بي وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل ، وهو فلان ، فهو على ما كنت عليه ، فالحق به .
فلما مات وغيب ،لحقت بصاحب الموصل ،فقلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن الحق بك ،وأخبرني أنك على أمره . فقال لي : أقم عندي .فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلما حضرته الوفاة قلت له :يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك ،وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى ،فإلى من توصى بي ؟ وما تأمرني ؟ قال : أي بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه ، إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان ، فالحق به .فلما مات وغيب ،لحقت بصاحب نصيبين ، فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي ، قال : فأقم عندي .فأقمت عنده .فوجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حُضر قلت له : يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصى بي ، وما تأمرني . قال : أي بني والله ما نعلم أحدا بقى على أمرنا آمرك أن تأتيه ، إلا رجلا بعمورية ، فإنه بمثل ما نحن عليه ،فإن أحببت فأته ،فإنه على أمرنا . فلما مات وغيب ،لحقت بصاحب عمورية ، وأخبرته خبر ي ، فقال :أقم عندي. فأقمت مع رجل على هدى أصحابه وأمرهم ، واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة ، ثم نزل به أمر الله ، فلما حُضر قلت له : يا فلان إلى من توصى بي ؟وما تأمرني ؟ قال : أي بني ! والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكنه قد أظلك زمان نبي ، هو مبعوث بدين إبراهيم ، يخرج بأرض العرب( وفي رواية :يبعث من أرض الحرم)، مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل ، به علامات لا تخفى : يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ،فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .
ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ،ثم مر بي نفر من تجار العرب من كلب فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه .قالوا: نعم . فأعطيتهم إياها وحملوني ، حتى إذا قدموا بي وادي القرى – هو وادٍ بين المدينة والشام كثير القرى -، ظلموني ، فباعوني عبداً من رجل من يهود ، فكنت عنده ورأيت النخل ، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق لي في نفسي ، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة ، فابتاعني منه ، فاحتملني إلى المدينة ،فوالله ما هو إلا أن رأيتها ، فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها ، وبعث الله رسوله ، فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فوالله إني لفي رأس نخلة لسيدي ، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال :يا فلان ! قاتل الله بنى قيلة _ يعني الأوس والخزرج – والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي .
فلما سمعتها أخذتني العرواء – يعني الرعدة – حتى ظننت سأسقط على سيدي ، ونزلت عن النخلة ،فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ قال: فغضب سيدي ،فلكمني لكمة شديدة ،ثم قال : مالك ولهذا ؟ أقبل على عملك .فقلت :لا شيء إنما أردت أن استثبت عما قال .وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ،ثم ذهبت به إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بقباء ، فدخلت عليه فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء كان عندي للصدقة ،فرأيتكم أحق به من غيركم . فقربته إليه فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه : كلوا .وأمسك يده ، فلم يأكل . فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه ، فجمعت شيئا وتحول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة ، ثم جئت به فقلت :إني رأيتك لا تأكل الصدقة ،وهذه هدية أكرمتك بها . فأكل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منها ،وأمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي :هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو ببقيع الغرقد ، وقد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ،فلما رآني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استدرته ، عرف أني استثبت في شيء وصف لي ، فألقى الرداء عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم ، فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكى .فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تحول ) . فتحولت ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا بن عباس .قال :فأعجب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يسمع ذلك أصحابه .[ أخرجه الإمام أحمد 5/441-444،قال شعيب الأرنؤوط ،و حسين الأسد في تحقيق سير أعلام النبلاء للذهبي 1/511:رجاله ثقات وإسناده قوي ].
وكان لأحبار اليهود الذين عرفوا صفة الأرض التي يهاجر إليها نبي آخر الزمان وهي يثرب ( المدينة ) دورهم في رد تُبّع عنها – تبع أحد ملوك اليمن واسمه : تبان أسعد من أبناء سبأ ، غزا الأنبار والحيرة والترك وغزا الصين حتى هابته الملوك وأهدت له الهدايا ، كان وثنياً ، ثم دخل اليهودية و أدخلها إلى اليمن ، وعن بن عباس قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا تبعا ، فإنه قد أسلم )رواه الطبراني في المعجم الأوسط ح/1419، وقال عنه الألباني في سلسلة الصحيحة : صحيح بشواهده .وانظر تاريخ الطبري 1/331- وذلك عندما غزا الحجاز وأراد الهجوم على المدينة ، فخرج إليه حبران من أحبار اليهود حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له : أيها الملك لا تفعل ، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ، ولم نأمن عليك .فقال لهما : ولم ذلك ؟ فقالا : هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان ، تكون داره وقراره . فتناهى عن ذلك ، ورأى أن لهما علما ، وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/133 ].
ولمعرفتهم بزمان خروجه ومكانه ،كان هناك من يقدم إلى المدينة قبل الإسلام بسنين قلائل ، منهم رجل من أهل الشام يقال له ابن الهيّبان قدم المدينة قبيل الإسلام بسنين ، فسكنها وظهرت عليه علامات الصلاح ، فلما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت ، قال : أيا معشر يهود ! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ فقالوا : إنك أعلم .
قال:فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف – يعني أنتظر – خروج نبى قد أظل زمانه ، وهذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه ، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود.
وكان ممن شهد قصة ابن الهيبان ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، من بني قريظة ، فلما بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحاصر بني قريظة بعد نقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه ، قال هؤلاء الفتية وكانوا شبابا أحداثا : يا بني قريظة ! والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان .قالوا :ليس به .قالوا : بلى ،والله إنه لهو بصفته .فنزلوا وأسلموا وأحرزوا دماءهم و أموالهم وأهليهم [ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/40].
وكان سماع أهل المدينة من الأوس والخزرج للبشائر بخروج النبي -صلى الله عليه وسلم – من اليهود أمراً متكرراً ، فمن ذلك ، ما رواه حسان بن ثابت – رضي الله عنه – قال : والله ، إني لغلام يفعه ابن سبع سنين أو ثمان ، أعقل كل ما سمعت ، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمه – يعني حصنه – :يا معشر يهود ! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له : ويلك ! ما لك ؟ قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .
قال ابن إسحاق : فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقلت : ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة ؟ فقال : ابن ستين . وقدمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين [ عن ابن إسحاق ، انظر السيرة لابن هشام 1/249 ].
ولم تقتصر البشائر على المدينة فحسب ، بل كانت في مكة أيضا ، فكان في مكة يهودي يتجر بها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، قال في مجلس من قريش : يا معشر قريش ! هل الليلة مولود ؟ فقالوا :والله ما نعلمه .قال : الله أكبر ، أما إذا أخطأكم فلا بأس ، فانظروا ، واحفظوا ما أقول لكم ، ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات، كأنهن عرف فرس ، لا يرضع ليلتين ، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعيه في فمه ، فمنعه الرضاع . فتصدع القوم من مجلسهم وهم متعجبون من قوله وحديثه ، فلما صاروا إلى منازلهم ، أخبر كل إنسان منهم أهله ، فقالوا : قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا . فالتقى القوم ، فقالوا : هل سمعتم حديث اليهودي ،وهل بلغكم مولد هذا الغلام ؟ فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي ، فأخبروه الخبر .قال :فاذهبوا معي حتى أنظر إليه . فخرجوا حتى أدخلوه على آمنة ، فقال : أخرجي إلينا ابنك ، فأخرجته ، وكشفوا له عن ظهره ، فرأى تلك الشامة ، فوقع اليهودي مغشيا عليه ، فلما أفاق قالوا: ويلك ! ما لك ؟ قال : ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، فرحتم به يا معشر قريش ،أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب .[ روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجه الحاكم عن ابن إسحاق (ح/4177 ) ، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري 6/583 ].
وكان لمعرفتهم بزمن خروجه أثره في ترقبهم هجرته إلى المدينة ، فهذا رجل من اليهود يصعد فوق حصن له في الأيام التي كان المسلمون في المدينة يترقبون وصول النبي – صلى الله عليه وسلم – إليهم بعدما سمعوا بخروجه مهاجرا إليهم ، فرأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته :يا معاشر العرب – وفي رواية : يابني قيلة .- يعني الأوس والخزرج – هذا جدكم الذي تنتظرون .فثار المسلمون ، فتلقوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بظهر الحرة [رواه الإمام البخاري ح/3964 ].
وكان علماء النصارى يسدون النصائح لأقرباء النبي – صلى الله عليه وسلم – حرصاً على سلامته من كيد الأعداء ، بل ويقومون بدور الحماية لما عرفوه عليه الصلاة والسلام، فهذا بحيرى الراهب ، كان ببصرى من أرض الشام ، وكان من علماء النصارى ، وكان لا ينزل من صومعته ، و لايلتفت إلى قوافل التجار المارة به !!
لكنه في يوم من الأيام رأى ما أدهشه ، وجعله يخرج ويتابع القافلة القادمة من مكة تريد الشام ، إنها علامات رآها دفعته للنزول من صومعته ،والاستعداد للقائهم ، بل وتهيئة الطعام لهم !!
لقد كانت تلك القافلة لأبي طالب عم النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان معه النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو صغير، وكان عمه يحبه حبا شديدا ، ولا يقوى على مفارقته ، فاصطحبه في سفرته تلك .
أما السبب في تغير تعامل بحيرى مع أهل هذه القافلة ، على غير ما كان معتادا منه ، فهو أنه رأى غمامة تظل غلاما صغيرا من بين القوم !!
فلما أقبلوا ، ونزلوا في ظل شجرة قريبا منه ، نظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة ، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيري نزل من صومعته ، وقد أمر بذلك الطعام فصنع ، ثم أرسل إليهم ، فقال :إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم ، وعبدكم وحركم .فقال له رجل منهم : والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ، ما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا نمر بك كثيرا ، فما شأنك اليوم ؟! قال له بحيرى :صدقت ،قد كان ما تقول ،ولكنكم ضيف ،وقد أحببت أن أكرمكم ،وأصنع لكم طعاما ،فتأكلوا منه كلكم ،فاجتمعوا إليه ،وتخلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من بين القوم لحداثة سنة في رحال القوم تحت الشجرة ، فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده .فقال: يا معشر قريش ،لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا له :يا بحيرى ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك ، إلا غلام وهو أحدث القوم سنا ،فتخلف في رحالهم .فقال :لا تفعلوا ، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم . فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا .ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم .
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا ، قام إليه بحيرى ، فقال :يا غلام ،أسألك بحق اللات والعزى ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه .وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : لا تسألن باللات والعزى شيئا ، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما .فقال له بحيرى : فبالله ،إلا ما أخبرتني عما اسألك عنه .فقا له :سلني عما بدا لك .فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ، فجعل رسول – صلى الله عليه وسلم – يخبره ، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ،ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له :ما هذا الغلام منك ؟
قال : ابني .
قال له بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا!!
قال : فإنه ابن أخي .
قال : فما فعل أبوه ؟
قال : مات وأمه حبلى به .
قال :صدقت !! فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه يهود ،فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغُنَّه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم .
فأسرع به إلى بلاده ، ثم إن نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر ، فأرادوه ، فردهم عنه بحيرى ،وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته ، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ، ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال ،فتركوه وانصرفوا عنه [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/119 ، وقال ابن حجر: هذه القصة بإسناد رجاله ثقات ، من حديث أبي موسى الأشعري أخرجها الترمذي وغيره ، ولم يسم فيها الراهب ، وزاد فيها لفظة منكرة وهي قوله :واتبعه أبو بكر بلالا .وسبب نكارتها : أن أبا بكر حينئذ لم يكن متأهلا ، ولا اشترى يومئذ بلالا ، إلا أن يحمل على أن هذه الجملة الأخيرة مقتطعة من حديث آخر أدرجت في هذا الحديث ، وفي الجملة هي وهم من أحد رواته، الإصابة1/352- 122 ].
وكان رهبان النصارى يخبرون من يسألهم عن الدين الحق بزمان ومكان نبي آخر الزمان ،فقد رحل زيد بن عمرو الباحث عن الحقيقة من مكة إلى الشام يطلب دين إبراهيم – عليه السلام – ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل ، ثم أقبل فجال الشام كله حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء – قرية بالشام -،كان ينتهي إليه علم أهل النصرانية في بلاده ، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم ؟فقال :إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ،ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية ، فالحق بها فإنه مبعوث الآن هذا زمانه – وقد كان رفض اليهودية والنصرانية – فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم هجموا عليه فقتلوه [ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/61 ] .
خامسا : مواقف ملوكهم ، وزعمائهم من دعوته ،فقد سبق الإشارة إلى إسلام النجاشي – رضي الله عنه – ، وإقرار هرقل بالنبوة لكنه لم يسلم ، ومثله ما كان من المقوقس ملك مصر وكان نصرانيا ، فقد أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام ، وكان رسوله إليه حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه – قال حاطب : قدمت على المقوقس ( واسمه جريح بن مينا ) بكتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت له :إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فانتقم به ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك . قال : هات . قلت : إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه ، وهو الإسلام الكافي بعد ما سواه ،إن هذا النبي دعا الناس إلى الله فكان أشدهم عليه قريش ، وأعداهم له اليهود ، وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل من أدرك نبيا فهو من أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فأنت ممن أدركت هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به ، ثم ناوله كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما قرأه قال خيرا : قد نظرت في هذا ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ، ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة . ثم جعل الكتاب في حق من عاج ، وختم عليه ، ودفعه إلى خازنه ، وكتب جوابه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : فقد علمت أن نبيا قد بقي ، وقد أكرمت رسولك .
وأهدى للنبي – صلى الله عليه وسلم – جاريتين ، وبغلة تسمى ( الدلدل ) ، فقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – هديته ، واصطفى الجارية الواحدة واسمها مارية القبطية لنفسه ، فولدت منه إبراهيم ، وأعطى الأخرى لحسان بن ثابت ، فولدت منه عبد الرحمن .فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ضن الخبيث بملكه ، ولا بقاء لملكه ). [ الجواب الصحيح 1/293 ].
وممن أسلم من نصارى العرب ، وكان من أشرافهم عامل الروم على من يليهم من العرب فروة بن عمرو الجذامي ، لما رأى من آيات ، وعلامات دلت على صدق نبوته – صلى الله عليه وسلم -، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام ، وبعث إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – بإسلامه ولم ينقل أنه اجتمع به ، وأهدى له بغلة بيضاء ، فبلغ الروم إسلامه ، فطلبوه فحبسوه، ثم قتلوه .
فقال في ذلك أبياتا منها قوله :
أبلغ سراة المسلمين بأنني سلم لربي أعظمي وبناني .
[ابن حجر ، في الإصابة في تمييز الصحابة 5/386 ].
ومن نصارى العرب الذين أسلموا ، الجارود بن عمرو ، وكان سيدا في قومه بني عبد آلاف ورئيسا فيهم ،وكان يسكن البحرين ، وفد على النبي – صلى الله عليه وسلم – سنة تسع من الهجرة ،وفرح النبي – صلى الله عليه وسلم – بمقدمه ، وقد كان صلبا في إسلامه ، فقد ثبت على الإسلام بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن تبعه من قومه ، ولم يرتد مع من ارتدوا . [ابن عبد البر ، في كتاب الاستيعاب 1/263، والإصابة 1-441 ].
سادسا : إخبار من اطلع على كتبهم ، بأنه مذكور فيها ،ويشهد له ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – عن ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – في التوراة حيث قال : وهو موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ،سميتك المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما وقلوبا غلفا . [ أخرجه البخاري حديث رقم 2018 ].
وشاهد آخر حدث في خلافة عمر – رضي الله عنه – ،قال أبو العالية :لما فتح المسلمون تستر ، وجدوا دانيال – عليه السلام – ميتا ، ووجدوا عنده مصحفا ، قال أبو العالية : أنا قرأت ذلك المصحف وفيه : صفتكم ،وأخباركم ، وسيرتكم ، ولحون كلامكم .[ هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص109 ].
سابعا : أن المكذبين والجاحدين لنبوته – صلى الله عليه وسلم- لم يمكنهم إنكار البشارة والإخبار بنبوةنبي عظيم الشأن كمحمد عليه الصلاة والسلام ، جاء ذكره ، وجاءت صفته وصفة أمته ، ومكان وزمن خروجه في كتبهم ، لكنهم جحدوا أن يكون هو المقصود ، وأنه نبي آخر غيره حسدا من عند أنفسهم وكبرا وعلوا ، يبين ذلك ما رواه رجل من الأوس اسمه سلمة بن سلامة ، قائلا : كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل ، قال : فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل ، وأنا يومئذ حدث – يعني صغير – علي بردة لي ، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك في أهل يثرب ، والقوم أصحاب أوثان ، بعثا كائنا بعد الموت .
فقالوا له :ويحك ! أترى هذا كائنا يا فلان ، إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى جنة ونار ، ويجزون فيها بأعمالهم ؟ قال: نعم ، والذي يحلف به . قالوا : يا فلان ويحك ! ما آية ذلك ؟ قال : نبي مبعوث من نحو هذه البلاد .وأشار بيده إلى مكة، قالوا : ومتى نراه ؟ قال :فنظر إلي ، وأنا أصغرهم سنا ، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه .قال سلمة : فوالله ، ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تبارك وتعالى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر بغيا وحسدا ، فقلنا له : ويحك يا فلان ! ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ولكنه ليس به .[ رواه الإمام أحمد ، وابن حبان وصححه ، والحاكم في المستدرك ( ح/ 5764 ) ، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وانظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص 66].
وكان اليهود بالمدينة يتوعدون الأوس والخزرج عندما ينالون منهم ما يكرهون بخروج النبي – صلى الله عليه وسلم – ويقولون لهم: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم .فلما بعث الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – أجابه الأوس والخزرج حين دعاهم إلى الله تعالى ، فآمنوا به وكفر اليهود به . وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين "[ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/37 ].
لذلك كان الصحابة – رضي الله عنهم – يذكرون اليهود بما كانوا يذكرونه لهم قبل مبعثه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب رضي الله عنهم : يا معشر يهود ! اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته .فقال رافع بن حريملة ، ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا قط ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ، ولا نذيرا بعده . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[ سورة المائدة الآية : 19.]، ابن إسحاق انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/101].
وهاهم اليهود تتوالى أسئلتهم للنبي – صلى الله عليه وسلم – رغم رؤيتهم لكثير من علامات النبوة التي يعرفونها من التوراة ، فجاءت مجموعة من اليهود نبي الله – صلى الله عليه وسلم – يوما ،فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سلوني عما شئتم ،ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب عليه السلام على نبيه ، لئن حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام ).
قالوا :فذلك لك . قال : ( فسلوني عما شئتم ) .قالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ، كيف يكون الذكر منه؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ؟ ومن وليه من الملائكة ؟
قال : ( فعليكم عهد الله وميثاقه ، لئن أنا أخبرتكم لتتابعني ).قال : فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا ، وطال سقمه ، فنذر لله نذرا ، لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان : الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها ). قالوا: اللهم نعم .قال : ( اللهم اشهد عليهم ، فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله :إن علا ماء الرجل على ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله ، وإن علا ماء المرأة على ماء الرجل كان أنثى بإذن الله ).قالوا : اللهم نعم . قال: ( اللهم اشهد عليهم ، فأنشدكم بالذي انزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه ).قالوا: اللهم نعم .قال 🙁 اللهم اشهد ). قالوا : وأنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك ، أو نفارقك ! قال : ( فإن ولي جبريل عليه السلام،ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه ). قالوا : فعندها نفارقك ! لو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك . قال : ( فما يمنعكم من أن تصدقوه ) .قالوا : إنه عدونا . فعند ذلك قال الله عز وجل : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله )..إلى قوله عز وجل : (كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعملون ) ،فعند ذلك باؤا بغضب على غضب الآية [رواه الإمام أحمد 1/278 ].
وكان عمر يذهب إلى يهود ، ويأتيهم ، يقول عمر رضي الله عنه : فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان ؟! قال : ومر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به .
فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟؟ قال : فسكتوا !! فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم ، فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ أنشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله!
قلت ويحكم ! – أي هلكتم – قالوا : إنا لم نهلك . قال :قلت كيف ذاك ؟ وأنتم تعلمون أنه رسول الله ، ثم لا تتبعونه ، ولا تصدقونه؟!!
قالوا : إن لنا عدواً من الملائكة وسلما من الملائكة ، وإنه قرن به عدونا من الملائكة. قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل [تفسير الطبري 1/433 ، وانظر فتح الباري 8/661 ].
وهذه شهادة ابن صوريا ، وكان أعلم من بقي من يهود بني قريظة بالتوراة ، فقد جاءهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قصة اليهودي واليهودية الذين زنيا ، فقال : ( يا معشر يهود ! أخرجوا إلي علماءكم ) .فأُخرج له عبد الله بن صوريا ، ومعه أبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا . فسألهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى حصل أمرهم ، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة . فخلا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ، فألظ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المسألة ، يقول له : ( يا بن صوريا أنشدك الله ، وأذكرك بأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟) قال: اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم ! إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ،ولكنهم يحسدونك .
ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، وجحد نبوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله تعالى فيهم : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/103 ].
وكانوا يصرحون بانطباق ما يعرفونه من صفات في كتبهم على النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلا منهم جاء إلى مسجده ، فقال : ( يا فلان ). فقال : لبيك يا رسول الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أتشهد أني رسول الله ). قال : لا . قال : ( أتقرأ التوراة ؟ ) . قال : نعم ، والإنجيل .قال : ( والقرآن ؟ ) .قال : والذي نفسي بيده ، لو أشاء لقرأته . ثم ناشده : ( هل تجدني في التوراة والإنجيل ؟ ). قال : أجد مثلك ، ومثل هيأتك ، ومثل مخرجك !وكنا نرجو أن يكون منا ، فلما خرجت تحيرنا أن يكون أنت هو ، فنظرنا فإذا ليس أنت هو. قال: ( ولم ذاك ؟ ).قال : إن معه من أمته سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير نجاسة ولا عذاب ، ومعك يسير .قال : ( فوالذي نفسي بيده لأنا هو ، وإنهم لأمتي ، إنهم لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا ).[ قال الهيثمي :رواه الطبراني ، ورجاله ثقات من أحد الطريقين ، انظر مجمع الزوائد للهيثمي 8 /242 ].
ثم تأمل هذا المسلك الذي اتخذه اليهود ليحرفوا الكلم عن مواضعه، ولينكروا نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – إذا خرج في الوقت والمكان وبالصفة التي علموها . يقول أحمد حجازي – في كتابه البشارة بنبي الإسلام 1/132- : أن كثيرا من علماء بني إسرائيل يقولون : أن اسم ( محمد ) – صلى الله عليه وسلم – قد ورد في التوراة ، في سياق بركة إسماعيل – عليه السلام – بحساب ( الجمل ). ليعرف الناس أنه بظهوره يبدأ ملك بني إسماعيل .
ثم يورد حجازي شهادة أحد علمائهم الذين أسلموا ، وهو شموئيل بن يهوذا بن أيوب ، الذي سمى نفسه بعد إسلامه : ( السموءل بن يحي ) ، فقد ذكر في كتابه ( بذل المجهود في إفحام اليهود ) تحت عنوان : الإشارة إلى اسمه – صلى الله عليه وسلم :
ما جاء في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة أن الله تعالى خاطب إبراهيم عليه السلام : ( وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك . قد باركت فيه . وأثمره ، وأكثره جدا جدا ) .
ذلك قوله – أي باللغة العبرانية – : ( ولشماعيل . شمعتيخا . هني . بيراختى . أوتو . وهفريتى . أوتو . وهربيتي . أوتو بماد ، ماد ) .
فهذه الكلمة ( بماد ماد ) إذا عددنا حساب حروفها بالجمل . وجدناه اثنين وتسعون . وذلك عدد حساب حروف (محمد ) – صلى الله عليه وسلم – فإنه أيضا اثنان وتسعون . وإنما جعل ذلك في هذا الموضع مُلغّزاً. لأنه لو صرح به لبدلته اليهود وأسقطته من التوراة . يقول حجازي معلقا : ولم لا يقول شموئيل : أن الله تعالى قد صرح به من قبل أن تغير التوراة ، واليهود هم الذين غيروا الاسم الصريح بالرمز في مدينة بابل ، ليعرفوه هم أنفسهم إذا جاء ، ويسهل عليهم جحد نبوته إذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم ؟!
وحساب الجمل عرف في الأمم القديمة ، وهو الحساب بالحروف الأبجدية ، فكل حرف أبجدي يُرمز له برقم . وتكمن أهميته في عدم كشف الخصم للأسرار .[ انظر تفصيل ذلك في كتاب البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي السقا 1/135 ].
وشاهد آخر حينما حضر يعقوب – عليه السلام – الموت جمع أولاده الإثني عشر حوله وباركهم ، وأوصاهم ، وقال لهم في شخص يهوذا ابنه الرابع : ( لا يزول قضيب من يهوذا . ومشترع من بين رجليه . حتى يأتي شيلون . وله يكون خضوع شعوب ) [ سفر لتكوين (49 : 8-12)، انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/154 ].
يقول أحمد حجازي : من تراجم اليهود والنصارى قديما وحديثا يتضح : أن المراد بالقضيب : الملك والصولجان . والمراد بالمشترع : الأنبياء ، والعلماء الذين يعلمون الناس شريعة التوراة ، ويستنبطون الأحكام منها . والمراد بشيلون : النبي المنتظر ، الذي يلقبونه ( مَسِيَّا ) الذي تفسيره المسيح . وهو نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم – الذي تخضع له الشعوب وتطيع .
والمعنى العام : يظل لبني إسرائيل ملك ظاهر في الأرض ، وأنبياء بني إسرائيل وعلماؤهم يعلمون الناس شريعة الله في ظل ملوك من بني إسرائيل . ويظل ذلك قائما حتى يأتي نبي من غير بني إسرائيل ، ليتسلم منهم الملك والشريعة . وهو المعبر عنه بشيلون .[ انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/154 ].
ويرى بعض علماء اليهود أن المقصود بهذه البشارة داود – عليه السلام – لأنه من نسل يهوذا ، وقد احتل مدينة شيلوه في أرض كنعان ، وخضع له جميع أسبط بني إسرائيل . وينقض هذا القول ، كتابة التوراة في بابل من بعد داود ، فكيف تكون النبوءة لداود ؟!. وينقضه أيضا : ترجمة كلمة ( شيلون ) بما يفيد اسم شخص ، لا بما يفيد اسم مدينة . فقد ترجمت بمعنى : ( الذي هو له ) أو ( الذي له الأمر ) أو ( الذي له الحكم ) أو ( سليمان ) أو ( المسيح ) الذي هو المسيا . وفسرت كلمة ( شيلون ) : بأمان وسلام .
أما النصارى فيقولون : المقصود بشيلون المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام – . لكنه لاينطبق على عيسى –عليه السلام- فإنه لم ينسخ التوراة ، قال تعالى في القرآن الكريم على لسان عيسى : ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) [ سورة الصف آية رقم 6] ، وقال عيسى –عليه السلام – في الإنجيل : ( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض ، بل لأكمل ) [ إنجيل متى ( 5:17-18 )، انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/ 70 ] ، ومن وجه آخر لم يزل الملك من اليهود على يديه – عليه السلام – .
لذلك فإن الذي تنطبق عليه لفظة ( شيلون ) هو محمد – عليه الصلاة والسلام – فإن الملك لم يزل من بني إسرائيل إلا على يد بني إسماعيل، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.[انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/173 ].
ثامنا : أن من أهل الكتاب من صرح لخاصته ، وبطانته بأنه هو بعينه ،فهذا ورقة بن نوفل ، وكان قد خرج لَّما كره عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسأل عن الدين ، فأعجبه دين النصرانية فتنصر ، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل ، وتعلم منهم ، فجاءته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم – ومعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعدما أخبرها بنزول الملك عليه ، فقالت خديجة – رضي الله عنها – لورقة : يا بن عم ! اسمع من بن أخيك – تعني النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال له ورقة : يا بن أخي !ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أو مخرجي هم ؟ ) قال: نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم يلبث ورقة أن توفي [البخاري ح/2 ].
أما خبر سيدا بني النضير :حيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، فما أعجبه من خبر ، يدل على معرفتهم به ، ويدل على سبب جحدهم رسالته ، وهذا الخبر عنهما ترويه لنا أم المؤمنين صفية بنت حيي – رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم – بعد إسلامها ، قالت :كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه . فلما قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة ، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى ، فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم ،قالت :وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهو هو ؟؟ قال : نعم ، والله .قال: أتعرفه ،وتثبّتَّه ؟ قال : نعم .قال: فما في نفسك منه ؟قال :عداوته والله!! [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/52 ].
وهذا كعب بن أسد – سيد بني قريظة – ينصح قومه ، حين حاصرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد نقضهم للعهد الذي بينهم وبينه ، وتحزبهم مع الأحزاب ضد النبي – صلى الله عليه وسلم وأصحابه – فلما أيقنوا بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيها شئتم .قالوا : وما هي ؟ فكان مما عرضه عليهم ، قوله : نتابع هذا الرجل ونصدقه ، فوالله ، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل ،وإنه للذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم . فرفضوا وأبوا [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 4/195 ].
وها هم نصارى نجران يصرحون بنبوته لبعضهم البعض ، فقد بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بكتابه إليهم يدعوهم فيه إلى الإسلام ، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديدا ، ثم دعا أهل الرأي في نجران فأطلعهم على الكتاب ،وتشاوروا فيه ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فاختاروا ستين راكبا ، منهم أربعة عشر من أشرافهم ، يتزعمهم ثلاثة منهم ، وهم : العاقب ، وكان أمين القوم ، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، وكان عالمهم ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وكان أسقفهم وحبرهم ، وإمامهم وصاحب مراميهم .
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم حتى حسن علمه في دينهم ،وكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرفوه وقبلوه وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من اجتهاده في دينهم ،فلما توجهوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من نجران ، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى المدينة ، وإلى جنبه أخ له يقال له :كرز بن علقمة يُسايره في الطريق، فعثرت بغلة أبي حارثة ، فقال كرز : تعس الأبعد . – يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم – فقال له أبو حارثة :بل أنت تعست !
فقال :ولم يا أخ ؟
قال :والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر !!.
قال له كرز : وما يمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه ؟!!
قال : ما صنع بنا هؤلاء القوم :شرفونا وأمرونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلا خلافه ، ولو قد فعلت نزعوا منا كل ما ترى.فأضمر الإسلام أخوه كرز بن علقمة ، وأسلم بعد ذلك [ المعجم الأوسط رواه الطبراني في المعجم الأوسط ح/ 3906 ].
فلما وصلوا المدينة جلسوا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فكلمه منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب عبد المسيح والسيد الأيهم _ وهم من النصرانية على اختلاف في أمرهم :
منهم من يقول عن عيسى هو الله ، ومنهم من يقول هو ولد الله ، ومنهم من يقول هو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، فهم يحتجون في قولهم هو الله :
بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، وذلك كله بأمر الله ، وليجعله الله آية للناس .
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله ، يقولون :
لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله .
ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة ، يقولون :
قال الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ، فيقولون :لو كان واحدا ، ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ، ولكنه هو وعيسى ومريم .تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاهلون علوا كبيرا ،ويقال لهم إن: معنى هذه الكلمات ، ومثلها قوله تعالى "نحن" من المتشابه ، فالواحد المعظم لنفسه يقول: نحن ، والجماعة يقولون : نحن ، وهذا لا يلتبس بكتاب الله؛ لأننا نرده إِلَى المحكم ، وهو قوله: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }[سورة العنكبوت الآية : 46 ]، وقوله تعالى :{ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ }[الأنعام:19] ، وقوله تعالى:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ } [المائدة:73]–
فلما كلمه الحبران العاقب والسيد ، دعاهما النبي – صلى الله عليه وسلم – للإسلام ، فأبيا ، وجادلوه في عيسى عليه السلام ، وقالا :فمن أبوه يا محمد ؟
فأنزل الله عليه الوحي:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [سورةآل عمران الآية: 59].
قال ابن كثير رحمه الله : فالذي خلق آدم من غير أب وأم ، قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ، ولكن الرب -جل جلاله أراد- أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم – عليه السلام – لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق حواء – عليها السلام – من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى – عليه السلام – من أنثى بلا ذكر ،كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ }[سورة مريم الآية :21]، وقال هاهنا : {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ }[ سورة آل عمران الآية :60 ]، أي هذا هو القول الحق في عيسى – عليه السلام – الذي لا محيد عنه ، ولا صحيح سواه ، وماذا بعد الحق إلا الضلال . [تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير 1/368 ، وانظر موقع الدكتور : سفر الحوالي على شبكة الإنتر نت].
ثم أمر الله تعالى رسوله محمدا – صلى الله عليه وسلم – أن يُباهل من عاند الحق في عيسى – عليه السلام – وأكثر الجدال بعد ظهور الحق البين فيه ، فقال الله تعالى:{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }[ سورة آل عمران الآية: 61 ] ، فلما دعاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – للمباهلة والملاعنة قالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه .
ثم انصرفوا عنه ، وخلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم ، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى ! لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل،ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ،ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه الاستئصال منكم إن فعلتم ،فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.[ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/125].
فلما أصبح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج إليهم ومعه الحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه. [قال ابن كثير : أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ، انظر تفسير القرآن العظيم 1/369 ]. فأتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال العاقب والسيد: لا نلاعنك ،ولكنا نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأبعثن رجلا أمينا حق أمين ، حق أمين ) . فاستشرف لها أصحابه -رضي الله عنهم – فقال : ( قم يا أبا عبيدة بن الجراح ). فلما قفا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هذا أمين هذه الأمة ). [رواه الإمام أحمد 1 /414 ، وانظرتفسير القرآن العظيم 1/369] ، فعادوا إلى نجران ،وبقي من وفدهم قيس بن أبي وديعة مرض فأقام بالمدينة نازلا على سعد بن عبادة ، فعرض عليه الإسلام فأسلم و رجع إلى حضرموت وشهد قتال الأسود العنسي ثم انصرف إلى المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم .[الإصابة 5/508 ].
ولم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأسلما ، وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري. [ابن حجر في الإصابة 3/236 ، عن ابن سعد في الطبقات 1/358 ].
أما حنان الأبوة المتمثل في الشفقة على الابن من النار فغلب صفة الحسد والكبر لدى والد ذلك الغلام الذي كان جاراً للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كان غلام يهودي يخدم النبي – صلى الله عليه وسلم – فمرض ، فأتاه النبي – صلى الله عليه وسلم – يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : ( أسلم ) . فنظر إلى أبيه ، وهو عنده ، فقال له: أطع أبا القاسم – صلى الله عليه وسلم – . فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول : ( الحمد لله الذي أنقذه من النار ) . [رواه الإمام البخاري ح/1290 ].
وعكسه ماِفعله والد كعب الأحبار ، حيث خشي أن يعلم ابنه عن النبي الخاتم فيتبعه ، فقد سأل العباس كعب الأحبار : ما منعك أن تسلم في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر ؟
قال إن أبي كان كتب لي كتابا من التوراة ، فقال اعمل بهذا ، وختم على سائر كتبه ،وأخذ عليَّ بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها ، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبي غيب عنى علما ، ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته ، فجئت الآن مسلما .[الإصابة 5/649. ].
وهذه قصة طريفة – وهي شاهد على ما نتحدث عنه – ، حدثت للدكتور أحمد حجازي السقا مؤلف كتاب البشارة بنبي الإسلام ، حيث يروي : أنه التقى بـ ( قمص ) نصراني ، ظن أنه نصراني لأنه كان يقرأ في الكتاب المقدس ، فدار بينهما حوار حول الأحداث التي يشير إليها الإصحاح الثامن من سفر دانيال النبي – عليه السلام- ، وبعد نزولهم من القطار سأله حجازي : أمحمد نبي المسلمين لا يشير إليه الكتاب المقدس ؟
قال : يشير إليه في آيات كثيرة !! ثم سرد له كثيرا من تلك الآيات !!
ثم عرف أن اسمه ( جرجس سلمون فيلمون )، وكان وكيل الدير المحرق في القوصية بأسيوط . وهذا الموقف كان من أسباب كتابة حجازي لكتاب البشارة .[انظر البشارة بنبي الإسلام 1/45 ].
تاسعا : إخبار النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه مذكور في كتبهم ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بتأويل ذلك :أنا دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت ). [ رواه الإمام أحمد (4/128)، والبزار والطبراني ، ومعنى منجدلٌ في طينته :أي مطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد ، قاله الخطابي في الغريب 2/156 ].
وهذا الإخبار منه – صلى الله عليه وسلم – هو من علامات نبوته ، من جهة إخباره بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم ، ولم يكذبوه يوما واحدا في شيء منها ، في الوقت الذي كانوا فيه أحرص ما يمكن على أن يظفروا منه بكذبة واحدة ، أو غلطة أو سهو ، فينادون بها عليه ، ويجدون بها السبيل إلى تنفير الناس عنه ، وهذا من أعظم الأدلة على صدقه .[ انظر هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية ص66 ].
فأخبرأنه دعوة إبراهيم الخليل حين بنى الكعبة بمكة ومعه ابنه إسماعيل عليهما السلام ، قال الله تعالى مبينا دعاءهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }[سورةالبقرة الآية: 128 – 129] .
وهذا يدعونا للحديث عن مباركة الله تعالى لنبيه إبراهيم – عليه السلام – وجعل هذه البركة في ذريته ، قال تعالى :{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[ سورةالبقرة الآية: 124 ] ، والمقصود بالعهد هنا قيل : الإمامة ، وقيل: النبوة ، وقيل غيره ، ومن دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ).
وقد جاء في التوراة ما صدقه القرآن من جعل البركة في إبراهيم – عليه السلام – وفي نسله إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام – وهذا ما ذكره أحمد حجازي في كتابه البشارة بنبي الإسلام ففي سفر التكوين ( 17 : 16 ) : أن الله عز وجل قال لإبراهيم – عليه السلام – عن سارة رضي الله عنها : ( أباركها ، وأعطيك منها ابنا ، أباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها ما يكون ).
فلما سمع إبراهيم – عليه السلام – بتخصيص بركته في إسحاق عليه السلام ( قال إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك )، أي يحيا في طاعتك ، والدعاء إلى دينك ، فرد الله تعالى عليه بقوله : ( وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيرا جدا . اثني عشر رئيسا . واجعله أمة كبيرة ) .[ سفر التكوين 17 : 18- 20 ].
ويواصل أحمد حجازي : ومن هذا النص صارت لإسماعيل بركة كما لإسحاق بركة .
ولما تأكدت سارة من إرث إسماعيل لأبيه في البركة كابنها إسحاق سواء بسواء ، طلبت أن يكون حق الإرث لإسحاق وحده ، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام : ( بإسحاق يدعى لك نسل . وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك ) [ سفر التكوين : 21: 12-13 ] .
ولما ابتعدت هاجر – رضي الله عنها – عن مكان سارة – رضي الله عنها – إلى مكان غير ذي زرع ( نادى ملاك الله هاجر من السماء . وقال لها : مالك يا هاجر . لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو . قومي احملي الغلام ، وشدي يدك به ، لأني سأجعله أمة عظيمة ) [سفر التكوين 21: 17 – 18 ].
وعلماء بني إسرائيل يقولون : إن البركة تعني أمران : الأول : الملك . والثاني : النبوة . ويقولون : إن بركة إسحق – عليه السلام – خصصت في ابنه يعقوب ( إسرائيل ) من بين بنيه ، وقد تحققت من الوقت الذي ظهر فيه موسى – عليه السلام – فقد كان نبيا ورئيسا مطاعا .
ونحن نقول لهم – والكلام لا زال لحجازي – : وكما دل دليل اسحق – عليه السلام – على ملك ونبوة ، وذلك في قوله : ( وأعطيك منها ابنا ، أباركها فتكون أمما وملوك شعوب ..) . فإن دليل إسماعيل – عليه السلام – مثله ، فإنه يدل على ملك ونبوة ، وذلك في قوله : ( ها أنا أباركه ، وأثمره ، وأكثره كثيرا جدا ) ،فإنه لا فرق بين الدليلين في اللفظ والمعنى .[ انظر البشارة بنبي الإسلام 1/100- 103 ].
وقد جاء الإخبار بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم – على لسان موسى – عليه السلام – في التوراة بما نصه : ( وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته . فقال : جاء الرب من سيناء . وأشرق من سعير . وتلألأ من جبل فاران .).[ سفر التثنية ( 33: 1-4 )، البشارة بني الإسلام 1/260 ].
ومعنى مجيء الله من طور سينا : إنزاله التوراة على موسى – عليه السلام – من طور سينا ، ومعنى إشراقه من ساعير: إنزاله الإنجيل على المسيح – عليه السلام – ، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها يسمى من اتبعه نصارى . وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح ، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران ، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم .
وجبال فاران : هي جبال مكة . وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة ، فإن ادعوا أنها غير مكة ، فإن ذلك من تحريفهم الكلم عن مواضعه ، خاصة وأن في التوراة أن إسماعيل سكن في برية فاران ، جاء في التوراة : ( وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية ، وكان ينمو رامي قوس ، وسكن في برية فاران . وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر ) [ سفر التكوين 21: 20-12 ]. والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران ، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه بعد المسيح – عليه السلام – نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ، ولا بعث نبي ، فعلم أنه ليس بالمراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني ، لأنه في مقام الخبر عنها ، فقدم الأسبق فالأسبق ، فذكر إنزال التوراة ، ثم الإنجيل ثم القرآن ، وهذه الكتب نور الله وهداه .
وهذه الأماكن الثلاث أقسم الله بها في القرآن ، في قوله تعالى:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ . لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[سورةالتين الآية: 1 – 4] ، فأقسم بالتين والزيتون : وهو الأرض المقدسة الذي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح – عليه السلام – وأنزل عليه فيها الإنجيل ، وأقسم بطور سينين : وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام ، وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة ، وأقسم بالبلد الأمين : وهي مكة ، وهو البلد الذي أسكن إبراهيم – عليه السلام – ابنه إسماعيل وأمه ، وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم خلقا وأمرا قدرا وشرعا ، فإن إبراهيم – عليه السلام – حرمه ودعا لأهله فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }[سورةإبراهيم الآية: 37 ] ، واختلاف ترتيب القرآن للأماكن الثلاثة عن ترتيبها في التوراة ، يرجع إلى أن لقرآن أقسم بها تعظيما لشأنها ، وذلك تعظيم لقدرته سبحانه ، وآياته وكتبه ورسله ، فأقسم بها على وجه التدريج ، درجة بعد درجة ، فختمها بأعلى الدرجات ، فأقسم أولا بالتين والزيتنون ، ثم بطور سينا ، ثم بمكة ، لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ، ثم التوراة ، ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء ، فأقسم بها على وجه التدريج .[انظر الجواب الصحيح 5/198- 205 ، والبشارة بنبي الإسلام 1/268 ].
ويُلحظ أن الخطاب لبني إسرائيل لأجل أن يقبلوا بنبي الإسلام إذا جاء ، لأنه ليس من بني إسرائيل ، وهذا يحتاج إلى تأكيد الأمر بالتباعه بخطاب خاص لهم ، وليس معناه أنه منهم.[ البشارة بنبي الإسلام 1/275 ].
وجاء في التوراة أن الله تعالى خاطب موسى – عليه السلام – بقوله : ( نبيا أقمت لهم . من جملة إخوتهم . مثلك. وجعلت خطابي بفيه . فيخاطبهم بكل ما أوصيه .ويكون الرجل الذي لا يسمع من خطابه باسمي . أنا أطالبه ) .[سفر الخروج 19 و20 ].
والمقصود بهذه النبوءة نبي الإسلام محمد – صلى الله عليه وسلم – فهو نبي كما في الوصف الأول لمجيئه بما يثبت نبوته ، وهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل وإسحق – عليهما السلام – أخوان ، ففي التوراة أن أبناء إسماعيل إخوة لبني اسحق . ففي سفر التكوين : ( وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلى فتلدين ابنا ، وتدعين اسمه : إسماعيل . لأن الرب قد سمع لمذلتك . وإنه يكون انسانا وحشيا . يده على كل واحد ويد كل واحد عليه ، وأمام إخوته يسكن )[ سفر التكوين 16 : 11-12] ، وأما عيسى -عليه السلام -فلا ينطبق عليه هذا الوصف لأنه من بني إسرائيل ، ولو كان هذا النبي من بني إسرائيل لقال : من أنفسهم ، ولم يقل من إخوتهم .هذا من وجه ، ومن وجه آخر جاء في التوراة : ( أنه لا يقوم نبي من بني إسرائيل كموسى ) ، فالبشارة إذا بنبي من غيرهم هو ( محمد ) صلى الله عليه وسلم، وأيضا نجد الوصف الثالث ينطبق على محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو قوله: ( مثلك ) أي مثل موسى – عيه السلام – فقدجاء في القرآن ما يفيد مثلية نبينا محمد بموسى – عليهما الصلاة والسلام – قال تعالى :{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً }[سورة المزمل الآية: 15 ] ، وانظر البشارة بنبي الإسلام 1/229 ].
ومن جهة أخرى وصف موسى – عيه السلام- في التوراة بثلاث صفات رئيسية : أولا : الآيات والعجائب . ثانيا : اليد الشديدة . ثالثا:المخاوف العظيمة .ومحمد – صلى الله عليه وسلم – كان كموسى –عليه السلام- فيما جاء به من آيات عظيمة تدل على نبوته ، والتي كان لها الأثر الكبير في كثرة أتباعه ، وثانيا : كان في حروبه قويا شديداً كموسى ، وثالثا : نصر بالرعب ، وكانت له الهيبة في قلوب الناس .وأما عيسى – عليه السلام – فقد رفض أن يكون ملكا . ففي انجيل يوحنا : ( وأما يسوع فإذا علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا ، انصرف أيضا إلى الجبل وحده ) .[ يوحنا ( 6:15) ، البشارة بنبي الإسلام 1/206 ].
ومما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذكر الأنبياء له، أنه : ( بشرى عيسى ) . وذلك حين بشر بني إسرائيل بقوله : (ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد ).[ سورة الصف من الآية رقم 6 ].
وجاء في الإنجيل : أن عيسى – عليه السلام – قال للحواريين : ( إن كنتم تحبونني ، فاحفظوا وصاياي . وأنا أطلب من الأب ، فيعطيكم معزيا ) .[ يوحنا 14 / 15 ].ومن عادة بني إسرائيل المبالغة في التعبير ، وتفخيم الساليب ، فمثلا يقولون : إن موسى كان إلها لفرعون . أي سيدا ، وما يرد من ألفاظ الأبوة أو البنوة ، فهو على المجاز لا على الحقيقة . كما يقول شيخ لتلميذه : يا بني ، وكما يقول التلميذ لشيخه : يا أبي .[انظر البشارة بنبي الإسلام 2/260 ].
قال النصارى : أن كلمة ( المعزي ) تعني العوض ، والبديل عن عيسى عليه السلام ، ويقول متى هنري : إن نفس كلمة ( يعزي ) في الأصل اليوناني تعني : يعظ ، أو ينصح .
وقالوا :هي مترجمة عن الكلمة العبرانية ( بارا كليت ) ، وقالوا : إن كلمة ( بيراكليت ) العبرانية تترجم في اللغة العربية ( أحمد )، وجاءت في بعض الكتب ( فيرقليط ) ، وفي هامش كتاب انجيل برنابا تعليقات عربية في النسخة الإيطالية على اسم محمد الذي بشر به عيسى صريحا .وهذه التعليقات هي :
( في لسان عرب : أحمد . في لسان عمران – يعني العبرية – : مسيى . في لسان الاتن _ يعني اللاتيني – : كنسلاتر. في لسان روم : باركل تس .[تعليق على برنابا 44: 19 صفحة 69، انظر البشارة بنبي الإسلام 2/271].
إن المتأمل في هذه الشواهد والحقائق ليتيقن دلالتها القاطعة على أن أهل الكتاب يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وأن الذي يمنع كثيرا من علمائهم من اتباعه هو الحسد والكبر ، نعوذ بالله تعالى من ذلك .
الخاتمة
إلى كل قارئ لهذه الحقائق القاطعة : من القرآن الكريم ، والسنة النبوية والسيرة ، وبشارات الكتب السماوية ، وإقرار الملوك والسادة والزعماء ، وشهادة العلماء ، وإخبار الأحبار والرهبان وغيرهم، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، من العرب ، والعبرانيين ، والسامريين ، والروم ، والفرس ، والهند ، والصين ، وسائر الأمم ، وانتشار الإسلام المستمر رغم جهود المنصرين والصهاينة لإطفاء نور الله تعالى في الأرض ، نقول :
قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ
وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }
[ سورة النساء الآية: 170 ].
ثم أوجه خطابي لكل مؤمن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، بأن يحمد الله تعالى على نعمة الهداية ، وليتذكر أنه باستقامته على دينه وثباته عليه ليقدم أقوى البراهين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا له الأثر الكبير في هداية الناس إلى دين الإسلام ، فهذا عامل فلبيني نصراني كان يعمل بالمملكة العربية السعودية ، شد انتباهه استيقاظ الناس من نومهم قبل طلوع الفجر ، وفي ألذ لحظات منامهم ، وخروجهم ومعهم أطفالهم إلى المساجد ليؤدوا الصلاة ، فكان هؤلاء المحافظين على صلاتهم سببا بتوفيق الله في هداية هذا العامل إلى الإسلام .
والرسالة الثانية أوجهها للعلماء والدعاة خاصة ، ولأهل المال ، ولعامة المسلمين والمسلمات ، أجيبوا داعي الله .
يقول الله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ }
[ سورةالصف الآية: 14 ].
فلننصر ديننا بكل ألوان النصرة الممكنة والمتاحة ، كل بحسب مكانته العلمية ، والاجتماعية ، والمالية ، وكل بالطريقة المناسبة لوضعه الوطني ، والإقليمي ، والعالمي ، انصر دينك بعلمك ، وبدعوتك ، وبجهادك ، وبنهضة أمتك في كل مجالات الحياة ، وبمالك ، وبتشجيعك ، وبفكرك ، ما استطعت لذالك سبيلا .
إن من أعظم خصائص هذا الدين أن لكل عامل قدره عند الله ، وأنه جعل الإنسان المؤمن إيجابيا في حياته ، مهما كان قدره ووضعه ،
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
وتأمل هذا الحديث لتعلم أنه لا يوجد في أمة الإسلام فرد مهمش أو لا قيمة له ، إنك تشعر وأنت تقرأه أنه يصنع منك شيئا عظيما ، سأل رجل من أهل اليمامة أبا ذر – رضي الله عنه – قال : دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة . فقال أبو ذر – رضي الله عنه : سألت عن ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : ( يؤمن بالله). فقلت : يا رسول الله إن مع الإيمان عملا ؟ قال : ( يرضخ مما رزقه الله). قلت : وإن كان معدما ، لا شيء له ؟. قال : ( يقول معروفا بلسانه). قلت : وإن كان عييا، لا يبلغ عنه لسانه ؟ – أي لايحسن الكلام – قال : ( فيعين مغلوبا ).قلت : فإن كان ضعيفا ،لا قدرة له ؟ قال : ( فليصنع لأخرق) – الأخرق الذي لايتقن مايعمله – قلت : وإن كان أخرق ؟ قال : فالتفت إلي ، وقال : ( ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير ؟! فليدع الناس من أذاه). فقلت : يا رسول الله إن هذه كلمة تيسير. فقال صلى الله عليه وسلم:( والذي نفسي بيده ، ما من عبد يعمل بخصلة منها، يريد بها ما عند الله ، إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى تدخله الجنة ).[ أخرجه ابن حبان في صحيحه ح/373].
كتبه : أبو عمر