هل خلق اللهُ الكونَ لأجل الإنسان فقط ؟
الأربعاء/أغسطس/2020
كتبه : د. هشام عزمي
من الاعتراضات التي ترد على مفهوم الضبط الدقيق، والعناية الإلهية عمومًا، عدم ظهور غاية واضحة من خلق كل هذا الكون الفسيح والمجرات الضخمة والنجوم البعيدة لأجل كائن ضئيل على كوكب صغير لا يمثل ذرة غبار بالنسبة لهذا العالم العظيم، كما يقول البيولوجي الملحد جيري كوين Jerry Coyne في كتابه الأخير: ((وبعد هذا كله، لم يكن الله بحاجة إلا لمجموعة شمسية واحدة ليأوي المخلوقات التي تعبده، فما الداعي إلى البلايين الكثيرة من الكواكب غير المأهولة؟)) * ، ويقول عن هذه الكواكب: ((معظمها غير مأهولة. فإذا كان البشر هم الغاية من خلق الله، فلماذا كل هذا التبذير؟)) ، كبخيل يخاطب كريمًا ويعترض عليه: لماذا كل هذه النفقة على عيالك؟ يكفيهم رغيف خبر واحد في اليوم كله! {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا} ( الإسراء: 100 ).
وفي تفسير قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} ( النساء: 53 ) ، نقل الطبري عن ابن جريج: ((ولو كان لهم نصيب وحظ من الملك، لم يكونوا إذًا يعطون الناس نقيرًا، من بُخْلهم)).
فتصور هذا الملحد تصورٌ يدل على عطن النفس وخبث الروح، فهو لما شاهد ضخامة خلق الله وعظمته، لم يثر هذا كله في نفسه من المشاعر والأحاسيس إلا السخط والاعتراض. والله جل وعلا كريمٌ يداه مبسوطتان لا ينقص عطاؤه من ملكه شيئًا، وفي الحديث: ((يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحّاءُ اللَّيْلَ والنَّهارَ، أرَأَيْتُمْ ما أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّماءَ والأرْضَ، فإنَّه لَمْ يَغِضْ ما في يَدِهِ)) ( رواه البخاري ومسلم ) ، تبارك وتعالى الكريم الرزاق!
لكن الواقع أنه بخلاف العطن والفساد الراسخ في نفوس القوم الذي حجب عن فطرتهم التأثر بعظمة الكون وهول ضخامته، فإن هذا الاعتراض قائمٌ على افتراض ليس له أساس، وهو ظنهم أننا نعتقد أن الكون كله مخلوق لأجل الإنسان حصريًا، وأن كل ما فيه هو لأجل الإنسان فقط، أو لأجل المخلوقات الحية على أكبر تقدير، وهذا تصور خاطئ موغل في الفساد والبطلان. فإن السماوات السبع كلها كحلقة في فلاة بالنسبة للكرسي، والكرسي نفسه كحلقة في فلاة بالنسبة للعرش، وهذا كله من مخلوقات الله التي تعبده وتسبح بحمده، فليس هناك مخلوق في هذا العالم كله، سواء عالمنا هذا الذي تبلغه عيوننا ومراصدنا وتليسكوباتنا، أو في ما وراء هذا العالم، إلا يتوجه لله بالعبادة ويسبح بحمده، حيًا كان أو جمادًا، ولو كان ذرةً في قلب ثقب أسود في أقصى الكون! قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ( الإسراء : 44) ، فكل هذه المخلوقات تعبد الله وتسبح له وتحمده، ولهذا خلقها، لتعبده، كما خلق الجن والإنس ليتوجهوا له بالعبادة. فالله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويسبحوا بحمده ويسجدوا له، قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ( الرحمن :6 ) . فليست الغاية الوحيدة من خلق الكون هي الإنسان، بل كل ما في العالم مخلوقات تعبد الله وتسبح بحمده وتسجد له بكيفيات لا نعلمها ولا نستوعبها. لكن هذا لا يعني أن الإنسان مخلوق عادي كسائر المخلوقات، بل هو مخلوقٌ مميزٌ مكرمٌ رفيع الشأن، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} ( الإسراء : 70 )، وقد سخر الله له كل ما حوله من موارد الكون، من النجوم البعيدة التي ترشده في ظلمات البر والبحر حتى الباكتيريا النافعة داخل جهازه الهضمي. فهذا هو القول الوسط الذي عليه اعتقادنا، فلا نقول إن كل ذرة وكل جسيم في الكون مخلوقٌ لأجل الإنسان، ولا نقول إن الإنسان كائنٌ هامشيٌ على أطراف مجرة درب التبانة، بل هو مخلوقٌ مكرمٌ مميزٌ سخر له الله ما يخدمه من موارد الكون، نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته بقدر ما أكرمنا وكرّمنا ورزقنا وفضّلنا على كثيرٍ من خلقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* After all, God needed only one solar system to house the creatures who worship him, so why the superfluous billions of uninhabited planets? (Jerry A. Coyne, Faith Versus Fact: Why Science and Religion Are Incompatible, p. 162)
Most of these are uninhabitable. If humans are the goal of God’s creation, why the excess? (Opt. cit.)[/caption]