من عجائب جلد الإنسان (الإحساس بألم العذاب: الجزء الثاني)

كشف العلم الحديث عن أن النهايات العصبية المتخصصة للإحساس بالحرارة وآلام الحريق لا توجد بكثافة إلا في الجلد، وما كان بوسع أحد من البشر قبل اختراع المجهر وتقدم علم التشريح الدقيق أن يعرف هذه الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا أو يزيد…
كما تذكر الآية القرآنية محل التعليق في لقائنا الحالي “الجلد” بصيغة الجمع دائما، وليس بصيغة المفرد، وفي هذا إشارة علمية كشف العلم الحديث عنها وخلاصتها: خلايا الجلد أسرع انقساما من غيرها من الخلايا- خلايا الجلد أسرع تغيرا وتبدلا من غيرها من الخلايا، وقد يتغير الجلد في مساحة معينة منه تغيراً كاملا في فترة وجيزة- يتغير تركيب الجلد من مكان لآخر على سطح الجسم الواحد، فجلد جفون العيون يختلف عن جلد قناة الأذن الخارجية، ويختلف عن جلد باطن اليد، ويختلف عن جلد باطن القدم … إلخ – وهكذا تكسو الإنسان مجموعة من الجلود وليس جلد واحد، سواء من حيث المكان (على سطح الجسم)، أم الزمان (التبدل والتغير)، وهكذا تظهر الإشارة العلمية بجلاء.
لقــــد عبــّر الـقرآن العظيم عــن فقـدان الجلد لتوصيل المؤثرات الواقعة عليه بلفظة (النضج)، والنضج علميا هو (تجلط) أو (تخثر) بروتينات الألياف العصبية (في حالة حروق الدرجة الثالثة) نتيجة تعمق المؤثر وتغلغله إلى الطبقة تحت الجلدية، وذلك لشدته العنيفة. ولما كان المقصود هو إذاقة العذاب للكافرين في جهنم، استلزم هذا تجديد طبقات الجلد مرة أخرى ليشعر الإنسان بالأم، فإذا ازداد الإحراق، وتعمق أثره وتجلطت بروتينات الألياف العصبية السفلية، وفَقَدَ الإنسان القدرة على الإحساس بالألم، تكرر تجديد الجلد بكافة طبقاته، ليتكرر شعور الإنسان بالألم … وهكذا، وكما عبرت عنه الآية السادسة والخمسين في سورة النساء بالضبط : ” ... كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا …” والحكمة المقصودة هى “… لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ…”… وهكذا يشير القرآن في هذه الآية إلى حقيقية علمية لم يتوصل العلماء إلى معرفتها إلا حديثا، بعدما تقدمت علوم التشريح والأنسجة، واخترعت أجهزة التكبير والقياس، فالآية تشير إلى مراكز الإحساس في الجلد، وتشير إلى وجود البروتينات التي تتجلط بحرارة النار الشديدة …


إشارات علمية في قرائن قرآنية أخرى:
نتناول الآن نصا قرآنيا ورد في سورة الحج، يتحدث عن عذاب الكفار في نار جهنم، أيضا، وفيه إشارة إلى (نضج) الجلود، وإن لم يصرّح بها، ذلك النصّ القرآني هو قول الله تعالى: “هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)”(سورة الحج)… وخلاصة ما شرح به جمهور المفسرين (ومنهم ابن كثير والنيسابوري والنسفي والألوسي والبيضاوي وابن عجيبة والفخر الرازي)، هذا النص القرآني الكريم، هو أن هناك فريقان، أو فوجان، أو طائفــتان، اختــلفوا فــي ديـن الله وصفاته، هما طائفة الكفار(ويشملهم جميعا) وطائفة المؤمنين، كان الفصل هو إنزال العقاب وشديد العذاب بالكفار هكذا “.. قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ..” يعنى أن الله يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع (وتفصل) الثيابُ الملبوسة. وفي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية، وليس هناك تقطيع ولا تفصيل ولا ثياب. والمراد بالثياب هنا إحاطة النار بهم. وجاء الكلام بلفظ الماضي لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع… و( يُصْهَر) أيْ يذاب، والمعنى أن الحميم (وهو الماء الحار العـــنيف الحرارة) ينزل فوق رؤوسهم فيخترقها ويسقط في أجوافهم فيهلك أمعاءهم وأحشاءهم كما يتلف جلـــودهم، وقــرئت “يصــهر” – بفتـح الصاد وتشديد الهاء المفتوحة للمبالغة، وقيل: إن “يُصْهَرُ” بمعنى “ينضج”، وقيل: التقدير هنا هو(ويحرق الجلود)، لأن الجلود لا تذوب… و”الحميم” – على النحو المذكور في هذه الآية- يذيب جميع المحتوى الداخلي للأجسام…
وهذا أشدّ مما ذكر في آية قرآنية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى فيها: “… وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15)” [سورة محمد [، وفيه تهديد للكفار بالعذاب بماء حميم يقطع أمعاءهم، وقد اتضح السر في هذا التهديد في العصر الحالي بعد أن اكتشف العلماء أن الأمعاء لا تتأثر بالحرارة، ولكنها إذا قطعت خرج منها الماء الحميم إلى البريتون الجداري، الذي يغذَّى بأعصاب الجدار التي تغذي الجلد وعضلات الصدر والبطن، وتتأثر هذه الأعصاب باللمس أو الحرارة فيسبب الحميم بعد تقطيع الأمعاء أعلى درجات الألم… فلابد، إذن، من تقطيع الأمعاء أو تثقيبها، لأن الحميم لا يؤلمها إلا إذا ثقبت فيخرج منها ويؤثر في مراكز الإحساس بالحرارة الزائدة، كما أن الحميم لا يؤلم إلا بوجود جلد، لأن فيه توجد مراكز ومستقبلات الإحساس بالحرارة الشديدة، ولذلك جاءت (من وجهة النظر العلمية) لفظة “والجلود” في نهاية الآية (20) من سورة الحج، عُقَيْبَ “بطونهم”…
وهناك علاقة بين حروق الجلود وتلف الأحشاء، ونلاحظ هذا في الآيتين: “.. قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)” (سورة الحج)، فمع صبّ الحميم فوق الرؤوس وإغراقه لجلد الجسم عامة، وإتلافه للجلد، فإن هذا التلف الذي هو في شكل حروق مدمرة تؤدي إلى حدوث اضطرابات وظيفية عنيفة في الجهاز الهضمي، يتبعها حدوث شلل للأمعاء وتمدد حاد لجدار المعدة، ثم ظهور تقرحات عنيفة فيها وفي الإثنى عشر، ثم حدوث ثقوب في القناة الهضمية ونزيف داخلي كالذي يحدث عند ابتلاع مادة كاوية، وكذلك حدوث انتفاخ ضبابي للكبد نتيجة تراكم المواد السامة المتخلفة عن احتراق الأنسجة، وكذلك نقص الأكسجين والدم الواصلين إليه…
وإضـافة إلى هذا، فهناك تأثير لإحراق الجلود في التنفس، ونلاحظ هذا في الآية القــــرآنية: “فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)” ]سورة هود] ، وهــــذا مــا توصــل إلــيه العــلم الحــديث، فلقد اكتشف العلماء تغيرات وظيفية (فسيولوجية) تطرأ على الجهاز التنفسي نتيجة لحروق الجلد العنيفة، مما يؤدي إلى اختـــلال المعادلة الوظيفية التي تحكم نسبة التهوية / التروية .(Ventilation perfusion ratio)
وكذلك، فإن احتراق الجلد يسبب تلف القلب، ونلاحظ هذا في قول الله تعالى: “نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ{6} الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ{7}” [سورة الهمزة]، وفيه يقول الفخر الرازي (في تفسيره “مفاتيح الغيب”): “نَارُ اللَّهِ” الإضافة (أيْ إضافة النار إلى الله، أي نسبتها إليه)، للتفخيم، أيْ هى نار لا كسائر النيران . “الْمُوقَدَةُ”: التي لا تخمد أبدا، أو الْمُوقَدَة بأمره أو بقدرته. ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى ابيضت، ثم ألف سنة حتى اسودت، فهى الآن ســوداء مظلمـة).. وإن كــان فـي هــذا الـنص النبـوي إعجــاز علـمي فـهو فـي باب “الفيزياء” وليس مجاله هنا. ويقول الفخر الرازي: أما قوله “الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ”، فاعلم أنه يقال: طلع الجبل، واطلع عليه، إذا علاه وفي تفسير الآية يقول: إن النار تدخل في أجوافهم، حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، ولا شئ في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد (والفخر الرازي يقصد به القلب العضلي)، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه، فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه !! ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق، إذ لو احترق لمات، وهذا هو المراد (يقصد المعنى) من قوله: “إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74” [سورة طه]، ومعنى الإطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد… واعلم أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى… ويضيف العلم الحديث توضيحا إلى هذا التفسير وما شابهه من تفسيرات للآية القرآنية، فلقد اكتشف العلماء حدوث تغيرات كبيرة في الفؤاد (القلب) والجهاز الدوراني بجسم المحروق، منها:هبوط انقباضية الفؤاد، هبوط في جانبه الأيسر، أو في جانبه الأيمن، أو في كليهما معا، كما تحدث تغيرات ضارة جداً في سوائل الدم وخلاياه .
وبعد، فلنعد إلى الآية الأساسية لموضوعنا الحالي، لنؤكد أن اللفظة القرآنية المعجزة “نضجت” [ في الآية 56 من سورة النساء] ستظل باقية على مرّ الزمان، وشاهدة بالإشارة إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلماء إليها سوى في العصر الحديث فقط ، ألا وهى تجلط (تخثر) بروتينات النهايات العصبية في الطبقة الجلدية السفلي بفعل الحرارة الشديدة … إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا ولا كاتبا، فكيف جاء بهذه الحقيقة العلمية، كيف به يتحدث عن خصائص الأعصاب الحسية ووظائف مراكز الحس بالألم الموجود في الجلد… إنه بلا شك رسول يتلقى الوحي من الله الخالق العظيم، وحي الله الذي ختم به حلقات اتصال السماء بالأرض، ولذلك أودع فيه أسرارا لن تنتهي إلى يوم القيامة… إنه القرآن الكريم…
***


الوسوم:

مقالات ذات صلة