من دلائل القدرة الإلهية في تكيفات النباتات الأرضية
الثلاثاء/ديسمبر/2019
صورة لنبات صحراوي تحورت أوراقه إلى أشواك للحفاظ على الماء في الصحراء |
الدكتور نظمي خليل أبو العطا موسى
أستاذ علوم النبات في الجامعات المصرية
يدعي الدارونيون أن الحياة خلقت على الأرض بالمصادفة والعشوائية وتطورت بالطفرة والانتخاب الطبيعي وأنه لا خالق للكون ولا مدبر ولا حكمة في الخلق.
والله سبحانه وتعالى أنبئنا أنه الخالق البارئ المصور، خلق المخلوقات بقدرته ومشيئته وعلمه وتقديره وأن كل شيء في الكون خلق بقدر معلوم ومحكوم فقال تعالى: “ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر/49). أي : “خلقهما بقضاء سبق به علمه وجرى به قلمه بوقتها ومقدارها وجميع ما اشتملتا عليه من الأوصاف” (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي). وقال أيضا: “وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلية والسفلية، أن الله وحده خلقها، لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقه“.
وقال سبحانه: “ قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” (طه/50). “أي ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به (الدال) على حسن صنعه من خلقه، من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته، ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهداه الهداية الكاملة المشاهدة في جميع المخلوقات… فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها، هو الرب على الحقيقة” )المرجع السابق/586).
وإذا دققنا في النباتات الأرضية وجدنا هناك توافقا معجزا بينها وبين البيئات الأرضية التي شاء الله سبحانه وتعالى أن تعيش فيها، فالنباتات التي تعيش في الماء تختلف في صفاتها الظاهرية والتشريحية والوظائفية عن نباتات البيئة الجافة والنباتات الوسطية.
ففي النباتات الوسطية (Mesophytes) نجد الجذور الأرضية المتناسبة مع طول المجموع الخضري للنبات، وعدد أوراقه وأزهاره وثماره، ومدة تعميره على قيد الحياة، فهناك الجذور القصيرة الوتدية والقصيرة الليفية، وهناك الجذور الوتدية العميقة والجذور المتشعبة تحت الأرض، والجذر يتجه دائما نحو الأرض بالانتحاء الأرضي والانتحاء المائي.
صورة لاحد النباتات الوسطية |
أما المجموع الخضري فمتلائم تماما مع البيئة الوسطية في مياهها، وحرارتها، وضوئها، فالساق قائمة قوية أو ضعيفة، خشبية أو عشبية، مصمتة أو مجوفة حسبما يجب أن تعيشه على الأرض، وما تحمله من أوراق وأزهار وثمار والأفرع الجانبية في كل مكان تنمو في وسطية وتحمل الأوراق العادية المفلطحة الخضراء في وضع أمثل للقيام بعملية البناء الضوئي وهي دائمة الخضرة، متساقطة أو غير متساقطة والساق ملساء أو عليها أشواك للتسلق أو يتحور بعض أوراقها أو أطرافها إلى معاليق تتعلق بها وتتسلق إن كانت ساقا ضعيفة وهي تزهر وتثمر في ميقات محدد.
وفي نباتات الظل الأرضية نجد الأوراق قد تفلطحت لاستقبال أكبر كمية من الضوء وهي تتجه نحو الضوء في انتحاء ضوئي عجيب، وفقدت الأوراق عادة طبقتها العمادية الداخلية وانتشرت البلاستيدات الخضراء في خلاياها الوسطية الإسفنجية لكي تقتنص الطاقة ولا حاجة إلى الطبقة عمادية الخلايا الحامية للورقة من كميات الضوء الزائدة.
صورة لاحد نباتات الظل حيث تفلطحت أوراقها لاستقبال أكبر كمية من الضوء |
وفي البيئة الصحراوية الجافة القاسية في الحرارة وشدة الرياح هيأ الله سبحانه وتعالى هذه النباتات لمجابهة هذه البيئة القاسية، فتحولت أوراقها الخضراء الرقيقة إلى أشواك أو أوراق حرشفية، وقامت السيقان بالتفلطح واحتواء البلاستيدات الخضراء للقيام بعملية البناء الضوئي. وخلق الله سبحانه وتعالى في سيقانها خلايا برانشمية تحوي مواد مخاطية محبة وممسكة بالماء للاحتفاظ به، وقد غلف الله سبحانه وتعالى تلك السيقان بطبقة كيوتينية شمعية لتحول دون فقدها للماء، وخلق لها جذورا طويلة عميقة لتستطيع الحصول على الماء من تلك البيئة الجافة القاسية.
ولما كان النتح معظمه عن طريق الأوراق لذلك جعل الله سبحانه وتعالى أوراق النباتات الصحراوية متلائمة مع البيئة حيث تتساقط تلك الأوراق بعد مدة قصيرة كما هو الحال في نبات العاقول (Alhagi marurnuw)، وقد تنعدم الأوراق نهائيا وتحل الساق محلها في عملية البناء الضوئي كما في نبات الرتم (Retama raetam) وأحيانا يلف النبات أوراقه كما يلف السيجار ليمنع فقدان الماء من السطح العلوي للورقة الذي اخفي في الداخل بعملية اللف المعجزة والعجيبة كما هو الحال في نبات قصب الرمال (Ammophila arenaria)., وبعض النباتات يحيط بثغورها أوبار نباتية أو شعيرات تزيد من تراكم الماء حول الثغر وبذلك يقل النتح كما في نبات الدفلة (Narum olender)، و يتحول بعض الأجزاء الخضرية المفلطحة إلى أشواك كما هو الحال في نبات السلة .( Zilla spinosa)وتتخذ بعض النباتات الصحراوية شكلا كرويا يساعدها على تحمل الرياح الشديدة والمحملة بالرمال.
وتعتمد كثير من النباتات العادية في دعامتها – وخاصة العشبية منها – على تصلب خلاياها بالانتفاخ وضغط الامتلاء الحادثين من امتصاص الماء، ولذلك نجد أن النباتات الصحراوية تعتمد في تدعيمها على أنسجة دعامية ميتة تتحمل الجفاف ولا تتهدل عند فقدانها للماء.
صورة لنبات قصب الرمال |
صورة لنبات الدفلة الصحراوي |
صورة لنبات السلة الشوكي |
فمن خلق هذا التكوين المعجز المتلائم مع البيئة؟
ومن قدر لهذا النبات الضعيف هذه التراكيب والمركبات والسلوكات العجيبة؟
يدعي الدارونيون أنها المصادفة والانتخاب الطبيعي خلقا هذه التراكيب والمركبات والسلوكيات ولكن الإبداع في الخلق والتقدير في السلوك والحكمة في التركيب كلها عوامل تتنافى مع المصادفة والعشوائية وتتوافق مع العلم والحكمة والتقدير في الخلق، وهذا كله لا يتأتى إلا من خالق، عليم خبير، مبدع، لطيف.
وفي النباتات المائية، حيث الوسط المائي وتوافر المياه فان النباتات لا تحتاج إلى طبقة أدمة سميكة تحمي تراكيبها الداخلية من الجفاف، وهذا ما نراه حقيقة واقعة في تلك النباتات، وهي لا تحتاج في أوراقها وسيقانها إلى خلايا عمادية تلي البشرة الخارجية مباشرة تحميها من أشعة الشمس وقوتها، ولها في الداخل خلايا برانشمية محتوية على البلاستيدات الخضراء الكثيفة لاقتناص اقل كمية من الضوء، وتحتوي في داخلها على فراغات هوائية كبيرة وعديدة مهمتها تخزين الهواء للانتفاع بما فيه من ثاني أكسيد الكربون في البناء الضوئي ومن أكسجين في التنفس الهوائي، كما أن هذه الفراغات تعمل كعوامات لتعويم النباتات ولبعضها مثانات هوائية مليئة بالهواء تعمل أيضا عوامات للنبات.
وللنباتات المتطفلة التي لا تنتج غذاءها بالبناء الضوئي ممصات تدخلها إلى داخل أنسجة العائل ثم تبدأ امتصاص الغذاء الجاهز والماء من العائل.
وللنباتات الزهرية أزهار تكيفت مع التلقيح الحشري ونقل حبوب اللقاح من نبات لآخر وهي تنتج الرحيق ذا الرائحة المميزة والجاذبة لجذب الحشرات إليها لنقل حبوب لقاحها بين الأزهار المختلفة للجنس الواحد والنوع الواحد. ولبعضها ميازيب طويلة يتجمع فيها الرحيق حتى يتمكن بعض الفراش من إدخال خراطيمه فيه وامتصاص الرحيق ونقل حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى , وبعض النباتات تكيفت للعيش في الغابة وتسلق جذوع الأشجار بالالتفاف والمعاليق أو المحاليق للوصول إلى الضوء والوضع الأمثل للإزهار والإثمار وبقاء النوع.وبعض النباتات تعيش على قمم الأشجار في الغابات حيث الضوء والوضع الأمثلان للنمو والإزهار والإثمار.
ولبعض النباتات المغمورة في الماء في تربة شحيحة بالأكسجين ممصات تطلقها إلى أعلى فوق سطح الماء لتحصل على كفايتها من الأكسجين اللازم لتنفس الجذور والنبات.
لبعض النباتات أشواك حادة تحول دون الرعي الجائر والقطع الجائر وتحد منهما بقاء لجنسها ونوعها.
وبعض النباتات لها غدد تفرز بعض المواد السامة والمنفرة للحيوان حماية لنفسها منه.
ولبذور وثمار بعض النباتات تراكيب تحولها إلى سابحات في الهواء، ولبعضها خطاطيف وأشواك تتعلق بها في أصواف وأشعار وأوبار الحيوان وملابس الإنسان لتنقل إلى مسافات بعيدة بحثا عن الغذاء في ارض الله الواسعة.ولبعض النباتات آليات وتراكيب تدفع بالبذور إلى مئات الأمتار بعيدا عن النبات الأم.ولبعض البذور والثمار جدر سميكة مقاومة للعصارة الهاضمة لمعدتي الإنسان والحيوان حتى إذا أكلا ثمارها نقلا بذورها إلى مسافات بعيدة يقضيان فيها حاجته ويتبرزان فيها.
إنه عالم التحورات النباتية المعجز والمبدع الذي يعلن أن للكون خالقا عليما لطيفا قديرا خلق كل شيء بقدر ولغاية مقدرة وبحكمة بالغة.
أ.د نظمي خليل أبوالعطا موسى
أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد ( 11935) – الجمعة 26 نوفمبر 2010 الموافق 20 ذو الحجة 1431 هــ