من دلائل القدرة الإلهية في آليات الانتثار النباتية
الخميس/ديسمبر/2019
بقلم الدكتور نظمي خليل أبو العطا
السعي على الرزق سنة من سنن الله في الخلق , الكل يسعى على رزقه , فالانسان يسعى عليه بقدميه, وعلى الدواب , والعجلات , ويركب الطائرات والسفن المائية والفضائية مصداقاً لقول الله تعالى : ( فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) الجمعة 10 .
والطير يسعى على رزقه فيطير بجناحيه , ويمشي على رجليه , فيغدوا جائعاً ويعود وقد ملأ حوصلته بعدما التقط الحب والبذور والحيوان بمنقاره ونبش الأرض بأرجله , وغاص في الماء بكل جسمه فيحضر الرزق الوفير لفراخه في اليوم مرات عده, وفي وقت الغروب يعود إلى وكره حامداً شاكراً فقد حصل رزقه والحمد لله.
والسمك يسبح ويغوص في الأنهار والبحار والمصارف المائية والبحيرات العذبه والمالحة بحثاً عن رزقه , ويدفع الماء بذيله وزعانفه , ويغوص بعضلاته ومثانته الهوائية , ويتنفس بخياشيمه , ويصفي بها الغذاء ويقطع بأسنانه ليحصل رزقه.
والبهائم تسعى على رزقها في حركة نشطة إيجابية , وتأكل وترعى وتفترس وتقتل , وتقضم وتقتنص بأسنانها ومخالبها وقرونها وأنيابها وبكل وسيلة هيأها الله لها.
فماذا يفعل النبات المسكين الذي يدعي الدروانيون أنه خلق بالصدفة والعشوائية, ومن دون تدبير في هذه البيئة الأرضية الواسعة؟! وكيف يسعى إلى رزقه وقد شدته جذوره بقوة إلى الأرض , والشجرة الواحدة تنتج ملايين البذور والثمار والحبوب التي إن بقيت في مكانها بعد سقوطها هددت أمها وأخواتها ونفسها بالهلاك لنفاد الغذاء وضيق المكان وحجب الضوء؟!
ماذا يفعل النبات في هذا المكان الضيق والمحدد والمحدود وأرض الله من حوله واسعة , والكل يسرح ويمرح وينتقل ويهاجر فيها بحثاً عن رزقه وعن المعيشه الطيبة؟!!
هذا النبات إذا اعتمد على الصدفة والعشوائية والطفرة والانتخاب الطبيعي , كما خطط له دارون , فإن مآله إلى الجوع والضعف والهلاك والدمار والانقراض !!
ولكن الله سبحانه وتعالى الذي غفل الدارونيون عن وجوده , والذي رزق الانسان وزوده بالعقل والأيدي والأرجل والخامات لصناعة الآلات, والذي خلق الجناحين للطير والحشرات تطير بهما , وخلق للسمك الزعانف والعضلات والمثانات ورزق الثعبان بالعضلات , والنمل بالأرجل والفكوك لم ينس هذا النبات الذي كلفه بصناعة الغذاء لكل هذه الموجودات الأرضية , الله سبحانه وتعالى الرزاق , العليم , الخبير , اللطيف المدبر لم ينس أحداً من خلقه , وشملت رحمته النبات وجميع خلقه زود النبات بآليات , ووسائل انتشار وانتثار للسعي على الرزق في أرض الله الواسعة , زوده سبحانه وتعالى وعطف عليه بهذه الآليات المعجزة التي سبق بها الانسان والحيوان في تعمير الكون فتسلق الجبال , وطار في الهواء , وسبح في الماء , وركب الانسان والحيوان , وهبط الوديان , وقطع الفيافي والمحيطات والبلدان , وانتشر في الهضاب والسهول , والحقول والصحاري , والعيون الباردة والساخنه , وفي المناطق الحارة والباردة , كل ذلك بآليات معجزة ووسائل مبدعة متقننة حملت الجراثيم والبذور والحبوب والثمار والأوراق والسيقان والجذور لكل مكان معمور وغير معمور في هذه الأرض.
فبذور بعض النباتات دقيقة الحجم كالدقيق خفيفة الوزن فحملتها الرياح إلى مكان بعيد جداً , كما هو الحال في نباتات الأراشد (Orchids) وحبوب اللقاح (Pollen grains).
ولثمار بعض النباتات أجنحة تحمل تلك الثمار إلى مسافات بعيدة , فعندما يحرك الهواء أغصان تلك النباتات المحملة بثمارها الجافة المجنحة الخفيفة المتزنه , فإنها تطير في الهواء بطريقة حلزونية طوربيبيه دواميه عجيبه فتصل إلى مسافات بعيدة, ومثالها نبات أبو المكارم Machaerium tipa.
وفي نبات الحميض Romex sp. يتحول الكأس الزهري إلى أجنحة تحمل الثمار بعد تمام نضجها إلى مسافات بعيدة .
وأما في نبات الجعضيض Sonchus sp. فقد تحول كأس الثمرة إلى شعيرات مظلية تحمل الثمار إلى آلاف الكيلومترات , وكم شاهدنا هذه الثمار الطائرة العجيبه وهي تطير في خفة ورشاقة في الهواء في اتزان بنائي وحركي عجيب , وكم جرينا خلفها في الحقول والحدائق, وهي تطير أمامنا, وكلما اقتربنا منها دفعها الهواء بعيداً عنا , وهيهات هيهات أن نلحق بها أو نمسكها , وكم كان من الجميل واللطيف أن نأتي بنوارة هذا النبات , وننثر ثماره في الهواء , فتملأ المكان في خفة مبدعة عجيبه وجمال يفوق كل لعب الأطفال الغشائية المائية الحديثة المضرة.
ومع كل ذلك يدعي الدارونيون أن النبات غير العاقل الذي لايمتلك مصانع ولامختبرات ولا أدوات ولاباحثين طور نفسه بالمصادفة والحاجة العشوائية والمحاوله والخطأ حتى صنع هذا النظام الهندسي الفيزيائي الحيوي المبدع في انتثار البذور والثمار وانتشارها, ونسي هؤولاء ملايين المحاولات التي قام بها الانسان من وقت عباس ابن فرناس حتى استطاع أن يصنع الطائرة , فكيف لهذا النبات أن يقدر الثمار وطول الشعيرات ومراكز الثقل والاتزان لنرى هذا الاعجاز في الخلق , الرد العلمي على هؤلاء هو ما قاله موسى عليه السلام عندما حاوره فرعون ( قال فمن ربكما ياموسى ؟!! قال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) طه 49- 50. وخلقه : بتسكين اللام أي صورته اللائقه بخاصيته(1) .
وهدى : أي أرشده لما يصلح له (ويصلح معيشته) ولا رد أبلغ وأعظم من هذا الرد المعجز(2).
ولنبات الخشخاش Papaver : ثمرة كبيرة محموله على حامل طويل مرن متلاعب بالهواء وللثمرة في أعلاها ثقوب , فإذا حرك الهواء الثمار تمايلت لطول عنقها, ونثرت بذورها على اليمين وعن الشمال وفي الشرق والغرب وكل مكان حولها .
فمن أعطى هذا النبات في الصحراء الخالية القاحلة المنقطعة هذا العلم الدقيق المتخصص لتصنع هذا التركيب العجيب من المظلات والأجنحة لاجتياز الفيافي والقفار , وعبور البحار والأنهار(3)؟!!
وهكذا وسعت رحمة ربك , التي وسعت كل شيء , هذا النبات فطارت ثماره كما يطير الطير في الهواء بجناحيه بحثاً عن الرزق والمكان المناسب في أرض الله الواسعة , فقد شملت رحمة الله كل جنس (Genes) نباتي, وكل نوع (Species) وكل صنف (Varaites) وكأن لكل منها عناية خاصة به وحده من دون خلق الله , فمن دبر أحوال ترليونات الأجناس والأنواع والأصناف النباتية , وحسب لها الغذاء , وهيأ لها المكان , ورزقها بآليات للوصول إلى مكان الرزق؟!!.
وبعض النباتات تركب الحيوان والانسان وتتعلق به لتصل إلى مسافات بعيده فنبات الشبيط Xanthium زوده الله سبحانه وتعالى بخطاطيف تتعلق بفراء الحيوان وشعره وصوفه وريشه , وتتعلق بملابس الانسان فتنتقل إلى كل مكان يصل إليه الحيوان والانسان , كما أنها تتعلق بأجولة التعبئة للمحاصيل لتصل إلى بلاد بعيدة عبر الشحن البري والمائي والجوي .
كما يقوم الانسان في عمليات التصدير والاستيراد, والتهادي , والبيع والشراء بنقل النباتات والبذور والحبوب وتوزيعها على البلاد القريبة والبعيدة , وينقل الانسان والحيوان والطير البذور التي يأكلها ولاتتأثر بالعصارات الهاضمة بما وهبها الله من أغلفة حامية لها من العصارة الهاضمة , ينقل الانسان والحيوان والطير هذه البذور والحبوب إلى أماكن بعيده, وتقوم الأبقار والأغنام والخيول والغزلان بنفس الآلية مع العديد من النباتات البرية.
ويقوم الماء في العيون والأنهار والبحار والمحيطات والسيول والمصارف وقنوات الري والصرف المنتشرة في العالم , يقوم بنقل الثمار والحبوب والبذور المهيأة للنقل المائي إلى مسافات بعيدة , وقد زود الله هذه الثمار والحبوب والبذور بأغلفة عوامة وحافظة للثمار حتى لاتتلف , وقد تتبع أحد المصورين ثمرة نبات انتقلت عبر المحيط من الهند إلى أوروبا في آلية معجزة وغريبة.
وهناك الآليات الذاتية الميكانيكية لتفتح الثمار وانتثار البذور وانتشارها وتبدوا هذه الآليات مبكرا في الحزازيات المنبطحة (Hepaticeae or Liverworts) حيث توجد آلية ميكانيكية لتفتح الحوافظ الجرثومية (Capsule) للنبات الجرثومي (Sporophyte) حيث توجد تراكيب عقيمة ملتوية بين الجراثيم الخصبة كما في نبات الماركانتيا Marchantia sp. فإذا انفتحت الحوافظ تطايرت الخيوط العقيمة الناثرة (Elaters) بما لها من خاصية هيجروسكوبية (Hygroscopic) فتنثر الجراثيم بعيداً عن النبات الأم.
وفي نبات الفيوناريا Funaria sp. تتكون أسنان بريستومية (Peristome teeth ) والطوق (Annulus) والغطاء (Operculum) وهي تراكيب توجد في الطور الجرثومي (Sporophyte) , تقوم بفتح الحافظة الجرثومية (Capsule) بآلية عجيبة في الجو الجاف , ناثرة الجراثيم إلى مسافات بعيده , كما تخرج الرصاصات من بندقية الصيد بالرش (الخرطوش).
وفي السراخس (Ferns) مثل نبات كزبرة البئر Adiantum تنفتح الحافظة الجرثومية (Sporangium) بآلية تلقي بالجراثيم (Spores) بعيداً عن الأم كما تلقي الكرة بالمضرب في لعبة التنس(4) .
وكما قلنا سابقاً فإن حبوب اللقاح نفسها خفيفة الوزن وكثيرة العدد حيث تحملها الرياح لأميال لتلقيح الأزهار المؤنثة واتمام عملية التلقيح والاخصاب.
وهناك الفطريات التي فصلت في مملكة مستقلة كما قلنا في مقالات أخرى تلك الفطريات تنتج العديد من الجراثيم يصل عددها في فطر البافبول العملاق (Gaint puffball) إلى خمسة ترليون جرثومة(5) تطلقها في الهواء ناشرة إياها في مساحات واسعة , فتصور معي أن هذا العدد من الجراثيم قد سقط ونبت ونمى في نفس المكان فأي كارثة حيوية وبيئية تنتظر هذا الفطر الضعيف ؟!.
كل ذلك يدلل على أن الله قد خلق هذه الكائنات وقدر لها رزقها, ووهبها على ضعفها من الأليات التي تنشرها بفضل الله في الأرض لتحصل على رزقها مصداقاً لقول الله تعالى : ( وعنده مفاتيح الغيب لايعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) الأنعام59.
فهو سبحانه يعلم كل حبة من ترليونات الحبوب والبذور والثمار والأوراق التي تسقط على الأرض , وتنتقل في الرطب واليابس , والسهل والجبل , والبحر والهواء وتنضج وتيبس ثم تنبت وتترطب في البيئة الأرضية , فإذا كانت فطرة البافبول العملاقة Gaint puffball )) الواحدة تعطي خمس ترليون جرثومة في الثمرة الزقية (Ascocarp) الواحدة , وكل جرثومه تطير وتسقط وتنبت وتنمو وتتزاوج وتتكاثر وتنقسم حتى تعطي من جديد الثمرة الزقية (Ascocarp) كل ذلك لايمكن أن يحدث دون علم الله وتقديره وتدبيره , فالله لم يخلق الخلق عبثاً , ولم يتركهم هملا , بل خلقهم لغايات مقدره , ورعاهم برعايته , وتكفل برزقهم سبحانه وتعالى كما قال في كتابه الكريم (ومامن دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) هود 6.
فكل بذرة تدب على الأرض , وكل ثمرة تدب على الأرض , وكل جرثومة تدب على الأرض , وإذا استطعنا أن نكبر أصوات دب تلك المخلوقات لسمعنا دبيب سقوطها , ودبيب تحرك جذورها وسيقانها , وكل هذه الترليونات على الله وحده رزقها مصداقاً لقوله تعالى ( وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) فصلت 10 (5).
وهو سبحانه الذي هيأ لها آليات الانتثار والانتشار في الأرض لتحصل على رزقها المقدر لها , وهذا مايجب على كل مؤمن أن يتعلمه ولاتنسيه ألفة الأشياء عظمتها , فكل شيء مخلوق لغاية مقدره , وبتقدير فائق , وبحكمة بالغة , وآليات انتثار البذور والثمار والحبوب والجراثيم من دلائل القدرة الإلهية في المخلوقات النباتية
————————-
(1) – انظر : كلمات القرآن, تفسير وبيان الشيخ حسنين مخلوف, الاسكندرية: دار الصفا والمروة للنشر والتوزيع.
(2) انظر موضوع (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) في كتابنا آيات معجزات من القرآن الكريم وعالم النبات.
(3) انظر موضوع اوائل المعمرين جاءوا بالبارشوتات في كتابنا اعجاز النبات في القرآن الكريم : مكتبة النور- القاهرة.
(4) لم أشأ أن ادخل القارئ غير المختص في تفاصيل تلك التراكيب وأجزائها حتى لاتضيع الفكرة في خضم التفاصيل العلمية.
(5) Biology life on Earth , Teresa Audesirk and Gerald Audesirk. Prentice Hall , upper River. New jersey(1996)(P.432).
(6) انظر موضوع ( وقدر فيها أقواتها ) من كتابنا آيات معجزات من القرآن الكريم وعالم النبات