غزوة تبوك في الكتاب المقدس


الجمعة/مارس/2021
   

د . محمد سعد
باحث في تاريخ الحضارات والأديان

غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في العام التاسع الهجري حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل لملاقاة الروم بعد أن وصلت الأنباء إلى المدينة أن الروم يعدون العدة لغزو المدينة للقضاء على المسلمين وذلك بعد أن توحدت الجزيرة العربية على دين واحد وقائد واحد فصار ذلك يشكل خطراً وتهديدا على سلطانهم في الشام ومصر .
خرج جيش المسلمين من المدينة متجها شمالاً إلى مدينة العُلا ومنها إلى مدينة تبوك قاطعا حوالي 700 كيلو متر مربع .

كان الروم قد جهزوا جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل متضمناً القبائل العربية المتحالفة معهم لغزو المدينة وعندما علموا بخروج جيش المسلمين إليهم ووصوله إلى تبوك لملاقاتهم تراجع جيش الروم وحلفاؤه وآثروا عدم المواجهة وانتهت المعركة بلا صدام أو قتال مما أدى إلى تغيرات عسكرية في المنطقة جعلت حلفاء الروم يتخلون عنهم ويتحالفون مع المسلمين.

هذا المشهد المهيب لمسير النبي صلى الله عليه وسلم في جيش من ثلاثين ألف مقاتل مارا بمدينة العُلا وصولاً إلى تبوك قد تم وصفه بدقة في الكتاب المقدس في سفر أشعياء الاصحاح 63 :

يصف النص مشهدا لشخص يتقدم من أدوم ويصف هذا الشخص بأنه بهي بملابسه ويسير في كثرة قوته مرتديا ثياباً من بُصرى.
ويتحدث النص عن الهداية للحق والنجاة وتبليغ كلمات الله المشار إليه بالكلام بالبر العظيم للخلاص ويتحدث أيضا عن الحروب والانتصار على الشعوب.

وأدوم مملكة تاريخية معروفة شملت المنطقة جنوب البحر الميت وامتدت لتشمل أجزاء من الجزيرة العربية على الساحل الشرقي للبحر الأحمر كما تذكر بعض المصادر التاريخية مثل موسوعة طرق التجارة القديمة Ancient trade routes :
EDOM e’-dom GEOGRAPHY The country of Edom began at a line from the south end of the Dead Sea stretched to the Arabian Desert areas to the east. From this line, Edom claimed all the land south to the Red Sea, and farther along the east coast of the Red Sea.

(إدوم بدأت من النهاية الجنوبية للبحر الميت إلى الصحراء العربية شرقا، ومن هذا الخط امتدت إدوم لتشمل كل الأراضى جنوبا وصولا إلى البحر الأحمر ثم أراضي شرق البحر الأحمر )

والكتاب المقدس يحدد أن ددان هي الجزء الجنوبي من أدوم :
سفر أرميا اصحاح 49 :

سفر حزقيال اصحاح 25 :

وددان هو الإسم القديم لمدينة العُلا كما هو ثابت من المصادر التاريخية والاكتشافات الأثرية وكما يذكر أيضاً قاموس الكتاب المقدس :

وبُصرة أو بُصرى مدينة تاريخية معروفة تتبع الآن محافظة درعا السورية وكما هو معلوم كانت بصرى مركزاً تجارياً هاما يقصده أهل مكة في رحلاتهم التجارية والتي أشار القرآن إليها :
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)

ورد في تفسير ابن كثير: كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن يختلفون إلى هذه في الصيف وإلى هذه في الشتاء.

وفي التفسير المسمى البحر المحيط لصاحبه أثير الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف الأندلسي روي عن ابن عباس قوله عن رحلتي قريش للتجارة في الشتاء والصيف، رحلة إلى اليمن، ورحلة إلى بصرى.

وورد في تفسير الدر المنثور للسيوطي أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كانت قريش تتجر شتاء وصيفا فتأخذ في الصيف فيأخذون قبل بصرى وأذرعات يلتمسون البرد.

إذن أدوم التي يذكر النص أن الشخص المقصود يتقدم منها في كثرة قوته قد قطع النبي صلى الله عليه وسلم وجيش المسلمين جزءا كبيرا منها يمتد من العُلا جنوباً إلى تبوك شمالاً .

والنص في النُسخ الإنجليزية يصف تقدم ذلك القائد والجيش وصفا دقيقا :

KJV : Who is this that cometh from Edom …. travelling in the greatness of his strength?

من ذا الآتي من أدوم (مسافرا) (مرتحلا) في عظمة قوته .

NIV : Who is this coming from Edom ….. robed in splendor,
striding forward in the greatness of his strength?
من ذا الآتي من أدوم المُلَبَّس في الجلال الذي يتقدم في عظمة قوته .

ESV : Who is this who comes from Edom … he who is splendid in his apparel,
marching in the greatness of his strength?
من ذا الآتي من أدوم الفخم بملابسه (السائر) (الزاحف) (المتقدم) في عظمة قوته

وبصرة أو بصرى كما ذكرنا كانت مركزاً تجارياً هاما ومقصدا لتجارة وقوافل أهل مكة ومن البديهي أن النبي كباقي أهل مكة كان يرتدي ثياباً قادمة من بصرى بحكم كونها أهم المراكز التجارية في ذلك الوقت .

ما تبقى من سوق بصرى الشام

وقد ورد في كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم زار بصرى بنفسه في تلك القوافل مرتين الأولى عندما كان في الثانية عشرة مع عمه أبي طالب والثانية قبل بعثته عندما كان يعمل بالتجارة في أموال السيدة خديجة رضي الله عنها حيث تذكر كتب السيرة أنه ذهب إلى سوق بصرى فباع واشترى وكان يصحبه غلام للسيدة خديجة رضي الله عنها يدعى ميسرة.

ونص أشعياء كما نرى يذكر مرة أن تلك الثياب البُصرية تُظهر بهاء وجلال ذلك الشخص العظيم ويذكر مرة أخرى أن لونها المُحمر كناية عن النصر وعن هزيمة ودحر الشعوب المعادية :

البهي بملابسه
ذكر ابن القيم رحمه الله :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتدي أحسن الثياب وأعدلها وأجملها
وعن قتادة قال:
(قلنا لأنس بن مالك: أي الثياب كان أحب أو أعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الحِبَرة)
رواه مسلم. والحِبَرَة: ثياب من كتان أو قطن محبرة، أي: مزينة.
وعن هند بن أبي هالة قال :
(كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فخما مفخما ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر) رواه البيهقي
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال:
(رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان (مضيئة مقمرة) وعليه حُلَّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلي القمر، فلهو عندي أحسن من القمر) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:
(رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في حُلَّة حمراء ما رأيت شيئاً قط أحسن منه) رواه البخاري
ويقصد بالحُلَّة الحمراء أنها نسجت بخيوط حُمر مع الأسود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وفي وصف أم مِعْبَد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها عند رجوعه آخر النهار حين مرَّ النبي وصاحباه بخيمتها أثناء الهجرة يستقون الماء ولم تكن تعرفه حينئذ قالت :
(ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق وسيم قسيم شديد سواد الشعر إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حلو المنطق كأن منطقه خرزات نُظمن يتحدرن وله رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفَنَّد)
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه:
(وكان إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر) رواه البخاري.
وقد سُئل جابر رضي الله عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(كان وجهه مثل الشمس والقمر، وكان مستديرا) رواه البخاري.
وعن البراء رضي الله عنه قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا) رواه البخاري.

الفاتح المنتصر
كانت الحرب ضد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام مستعرة من اليوم الأول ولقد لاقوا من الصعوبات والأهوال ما تزول منه الجبال ولم تزل المكائد والمؤامرات وتجييش الجيوش من قبائل العرب للدفاع عن وثنيتهم والقضاء على المسلمين دائرة حتى أتم الله عزّ وجل لرسوله الفتح المبين وأيده بالنصر العزيز فقضى على الوثنية وعبادة الأصنام ورفع راية التوحيد في كل الجزيرة العربية .. خاض النبي صلى الله عليه وسلم في حياته سبعا وعشرين غزوة وفي غضون سنوات معدودة تحقق وعد الله وتم النصر للصحابة الكرام على ممالك الروم والفرس في العراق وفارس والشام وبيت المقدس ومصر.. والروم والفرس في ذلك الوقت كانتا أعظم ممالك الأرض وكان خطرهما عظيما ومحدقا يتهدد الإسلام لإحاطتهما بالجزيرة العربية .
ولكنَّ الله رمى
ونص أشعياء كما نرى يأخذ طابعا بلاغيا يتكلم عن نبي عظيم بهي بملابسه متعظم في كثرة قوته (من ذا الآتي من أدوم بثياب حمر من بصرة هذا البهي بملابسه المتعظم في كثرة قوته …) ثم يذكر في إطار شعري أن الله نفسه هو الذي يحارب وينتصر(قد دُست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد فدُستهم بغضبي …) وذلك لأن عمل النبي وهديه وظهوره على الأعداء هو كله من عمل الله الذي يتعهده برعايته ويوفقه لنصره وهذا مشابه لما ورد في القرآن في خطاب الله عزّ وجل لنبيه :
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وكذلك : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم
فالحروب والانتصار والفتوحات هي أعمال خالصة لله عزّ وجل لم تتم إلا بتأييده وتثبيته وكل المنصفين من الباحثين في التاريخ الإسلامي يستبعدون قصر انتصارات وفتوح المسلمين على العامل البشري وحده ذلك لأن كم الإعجاز الذي تحقق من ظهور الإسلام وانتشار رقعته وإسقاط ممالك وإمبراطوريات عظمى من أرباب الحرب والغزو في سنوات قليلة يستحيل حدوثه بدون تدخل إلهي .

(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم).

(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).

kilis escort bayan


الوسوم:

مقالات ذات صلة