طيور الغاق: معجزة الاسترزاق تحت الماء

 
الثلاثاء/ديسمبر/2019
   

أ.د. ناصر أحمد سنة
 كاتب وأكاديمي

عجيب شأن كل فرد وعضو -صغر أم كبر، وحيد الخلية أم متعددها، في أول سلمها أو في أعلاها رقياً- في المملكة الحيوانية علي أتساعها الهائل وغناها المُعجز بالأنواع الحيوانية. فلكل خصائصه وصفاته ومقومات دورة حياته وبقائه ثم نفوقه. ولكل “هدايته” للعيش وفق ظروف بيئته، وتأقلمه إذا ما تبدلت هذه الظروف وتغيرت تلك الأحوال. ولقد فُطر العدد الهائل على خصائص وقدرات وسمات قد تبدو لأول وهلة “متباينة متناقضة”. لكن هذا -وغيره- يجعلك تلهج بقول “سبحان الله” الذي أودع هذا المخلوق كل هذه الخصائص والقدرات والسمات.
خذ مثلا مبهراً على ذلك هو موضوع هذه السطور على قلتها، لكن بثقلها بالتعريف بمخلوق يجمع -في روعة وإدهاش- بين قدرات التحليق والطيران في السماء، وبين براعة السباحة، ورشاقة الغوص في الماء. فلقد جعل الله تعالى رزقه في “غوصه” في طلب الأسماك. ولتقف في تأمل وخشوع وأنت تقرأ صدر سورة هود حيث يقول المولى عزل وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود: 6).

طيور الغاق: معجزة الاسترزاق تحت الماء

أستخدام الصيادون لطيور الغاق في الصيد

أنواعه كثيرة قد تصل لنحو 39 نوعاً موزعة على سواحل بحار العالم ومحيطاته وجزره وضفاف أنهاره ومصباتها. فالبيئة الملائمة لحياتها هي السواحل البحرية والمياه الداخلية، وتعد الجزر التي تلجأ إليها للتكاثر مورداً لا ينضب لنوع من أنواع السماد العضوي المتراكم بمرور الأيام ويطلق عليه اسم “جوانو“.
يندرج ضمن رتبة: Pelecaniformes، وفصيلة: Phalacrocoracidae، وجنس: Phalacrocorax، ونوع: P.aristotelis. إنه طائر الغاق Phalacrocorax aristotelis الذي يلقب أحيانا: “بغراب البحر“. له شهرة كبيرة حيث يعتبر رمز لمدينة “ليفربول” الإنجليزية وناديها الرياضي. فبه تتزين مباني المدينة الحكومية والعادية بتحف هذا الطائر الجميل الرشيق.
ففي الصين واليابان وحوض مناطق أخرى حول العالم تم تدريب طيور الغاق لتقوم بصيد الأسماك، وجلبها للصيادين منذ القرن الخامس الميلادي. وفي فرنسا احتفظ لويس الثالث عشر بهذه الطيور في «مونتين بلو»، في حين احتفظ جيمس الأول ملك انجلترا بما عرف «بالغاق الرئيس». كما يستثمره الصيادون الصينيون في بحر “لي جيانغ” في صيد الأسماك؛ نظراً لوجود جراب في رقبته يستخدمه في تخزين الأسماك. ولكي لا يقوم بالتهام الأسماك، يلجأ الصيادون إلى لف بعض الخيوط حول عنقه. ولا يزال الطائر يستخدم في جلب الغذاء للإنسان في مناطق كثيرة من قارات العالم. ويعتبر الصيد باستخدام الغاق ضربا من ضروب السياحة الطبيعية في العصر الحديث.

طائر الغاق الشائع الانتشار Common Cormorant مع صغاره.

طيور الغاق.. طيور مائية متوسطة الحجم، الذكر مثل الأنثى.. حجماً ومظهراً ولوناً. وذات ريش داكن وأعناق رفيعة طويلة انسابية ورشيقة. ولها مناقير طويلة مستقيمة معقوفة عند نهايتها. بينما أرجلها قصيرة وأقدامها ذات سطح واسع. ويوجد بين أصابعها غشاء جلدي يعينها – كالمجداف – على السباحة. والنوع الشائع الانتشار Common Cormorant له ريش أسود مع لمعان أخضر، والذقن والوجنتان بيض اللون. لقد أمسى من الطيور النادرة لاستنزاف أعداده من قبل الصيادين.
وهناك نوع الغاق السوقطري، وهو متوطن في شبه الجزيرة العربية، لونه العام أسود، وله بريق معدني على قمة الرأس والكتفين. ويصل طوله: 80 سم، إمتداد الجناحين: 130 سم. تناقصت أعداد مستعمراته المعروفة بالخليج العربي من 28 إلى 13 فقط (ثلاثة منها بالسعودية، وسبعة بالإمارات ومستعمرة واحدة في كل من قطر والبحرين وعمان). وتقدر أعداد الأفراد فيها بنحو 220 ألف زوج)، تمثل (95% من تعداد الطائر عالميا). وهناك مستعمرتان منه خارج الخليج العربي أحدهما في جزيرة سوقطرة اليمنية. ويطلق على هذا النوع في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية مسمى “اللوهة“.
تكاثر طيور الغاق:
تُكوِّن هذه الطيور مستعمرات كبيرة الأعداد لأجل التكاثر. وتتخذ لها أعشاشا على الأرض عبارة عن حفر صغيرة بين الحصى والحجارة. تضع الأنثى من ثلاث إلى خمس بيضات ذات لون أزرق مخضر وبقع بنية، خصوصا عند الطرف العريض للبيضة. ويشترك الذكر مع الأنثى في حضانة البيض، ورعاية الأفراخ. 

يطفو الطائر على السطح ليأكل ما رزقه الله تعالى من صيد

إعجاز الخلق، والتقدير والهداية:
ليس لهذه الطيور أكياس هواء تحت الجلد، ولا تحتوي العظام على الهواء، لذلك فهي تطفو بسرعة أقل من أشباهها. وتغطس إلى أعماق تزيد عن 20 مترا، تراها تطير في صمت على ارتفاع منخفض فوق سطح الماء في أسراب على شكل رقم 7 أو في خطوط مستقيمة.
تبحث طيور الغاق -فرادى وجماعات- عن الأسماك أثناء الطيران أو السباحة، وعندما تحدد موقع السمكة، تغوص بخفة وسرعة ورشاقة تحت الماء. ريشها الخارجي يسمح بمرور الماء أما طبقته الداخلية فلا، ليحافظ على حرارة الجسم. عند غوصها وهبها الله تعالى قدرة التحكم -في تناسق وتوائم وتوافق- في أجهزتها وبخاصة الجهاز التنفسي والدوري والعضلي. فيقل عمل القلب ليقل استنفاد الأكسجين. وتستهلك كمية كبيرة من الطاقة المخزنة في عضلات الفخذ. وبضربات قوية بأقدامها الكفية، جامعة جناحيها تغوص إلى العمق. تغير من أتجاهاتها بسرعة مذهلة. وإذا ما شعرت بالحاجة للأوكسجين تعود سريعا لسطح الماء. ثم تعاود الغطس، وتعود إلى السطح  لتحمد ربها، وتأكل صيدها.

صورة لأحد أسراب طائر الغاق

التحديات التي تواجه طيور الغاق:
تواجه بعض مستعمرات الغاق تحديات مثل: انتشار بعض الأمراض الفيروسية والطفيلية التي قضت على أعداد كبيرة منها، وسببت تقلص أعدادها المتبقية. ففي أمريكا الشمالية لما أزدادت أعداد «الغاق ذو العرف المزدوج»، -لوفرة غذائه من الأسماك، وكفاءة إجراءات حمايته كطائر مهاجر، وقلة الملوثات في البيئة- اعتبره السكان “آفة”. وقامت سلطات بعض الولايات المتحدة الأمريكية بمكافحته خلال العقد الماضي، ووضعت خططا بحيث تبقى أعداده في الحدود التي تسمح بالمحافظة عليه دون أن يهدد مناطق الصيد والسياحة. أما أهم المشاكل التي تواجهها طيور الغاق السقطري بالخليج هي الإزعاج البشري في مناطق التعشيش، والتلوث النفطي، واستخدام الشباك الكبيرة لصيد السمك الذي تعلق بها الطيور خلال تغذيتها. أ.هـــ

للتواصل من الكاتب: أ.د ناصر أحمد سنة
E.mail:[email protected] 


الوسوم:

مقالات ذات صلة