شبهات حول مراحل تكون الجنين

 إعداد الأستاذ عبد الرحيم الشريف

دكتوراه في علوم القرآن والتفسير

نص الشبهة حرفياً:

أثناء تجوالي في الإنترنت، وقعت على موقع إسلامي يسمي نفسه باسم ” الإعجاز العلمي في القرآن ” وكان يعرض المعجزة العلمية في قوله تعالى{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (سورة المؤمنون 12 – 14).

ومن أجل التفسير العلمي الأكاديمي، الذي لا يقبل الشك، فقد استقدم الموقع (أحد أكبر أساتذة علم الأجنة من أمريكا) والذي تقول الرواية، أنه ” ذُهل ” عندما علم أن هذه الحقائق العلمية كانت معروفة عند المسلمين في القرن السابع الميلادي؟!

ثم تقول الرواية أن الرجل قد أعلن إسلامه! ونحن نرحب بإسلام الرجل، ولكن هذا لن يمنعنا أن نقول: أنه إذا كان عالماً في علم الأجنة، فإنه -والحق يقال- جاهل كبير في تاريخ هذا العلم خاصة، وفي التاريخ عامة.  فعلم الأجنة كان قد تطور إلى درجة عالية على يد خبراء التحنيط في مصر القديمة، فيما نشر أبيقور(1) كتابان، أحدهما بعنوان (طفل السبعة أشهر) والآخر بعنوان (طفل التسعة أشهر) بل وأكثر من ذلك فإنه نشر دليلا للجراحين عن (تفكيك الجنين في الرحم) وقد شاعت هذه الأعمال بين أطباء الشرق القديم.

أما مكتبة الإسكندرية العظيمة فقد كانت تحتوي على فرع خاص بعلم الأجنة وأمراض الحمل والولادة.

والواقع أن النص القرآني (الذي حمله الفقهاء أكثر مما أراد الله نفسه) لم يورد أية معلومة جديدة، بل خاطب الناس بالمعلومات المتوافرة في عصرهم، ليبين لهم قدرة الله، وليس ليمنحهم معلومات في علم الأجنة، فمعلومة أن الجنين يوجد كاملا في نطفة الرجل، معلومة معروفة منذ زمن التوراة، وقد وردت في سفر أيوب على النحو التالي: (ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن، كسوتني جلداً ولحما، فنسجتني بعظام وعصب(2))، سفر أيوب 10/12 “.

الجواب:(3)

1. كانت أقوى النظريات العلمية حول نشوء الجنين هي نظرية الجنين القزم، كما تنبت الشجرة الصغيرة إلى أن تكبر. وتنازع في شأنها العلماء: هل الإنسان يوجد كاملاً في الحيوان المنوي للرجل، أم كاملاً في دم حيض المرأة المنعقد؟

فبحسب الأولى: الجنين يكون جاهزاً في الحيوان المنوي، ولكنه صغير الحجم، لا ينمو إلا في تربة خصبة (الرحم).

أما الثانية: الجنين يتخلق من دم الحيض، ثم يقوم المني بعقده. كما تفعل الأنفحة بالحليب (اللبن)، فتعقده وتحوله إلى جبن. فليس للمني دور، سوى أنه ساعد كمساعدة الأنفحة للحليب في صنع الجبن.

ولم يقل أحد من علماء الغرب الموثوق بعلمهم، إن الجنين ناتج عن التقاء الحيوان المنوي للرجل مع بويضة المرأة قبل سنة 1775م. وتم تأكيد هذه النظرية في بداية القرن العشرين عند اكتشاف الكروموسومات.

بينما القرآن الكريم سبق إلى تقرير ذلك، بأن أكد أن الجنين يتكون بسبب النطفة الأمشاج (المختلطة) بين نطفة الرجل، وبويضة المرأة. قال تعالى: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ” [الإنسان: 2]. وبيَّن أنه ينتقل من طور إلى طور: “مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا” [نوح: 13، 14]. ولم يكن جنيناً قزماً كما اشتهر في الزمن الماضي، وخاصة وقت نزول القرآن الكريم، وبعده بمئات السنين.(4)

2. كما أن القرآن الكريم يبين أن نطفة الرجل هي من تقرر جنس الجنين: ” وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى” [النجم: 45، 46].

وهذا لم يُعرف إلا بعد اكتشاف المجهر الإلكتروني في بداية القرن العشرين.

3. وأشار القرآن الكريم إلى أن غدد الذكر الجنسية المنتجة للخصيتين تنشأ من منطقة الظهر: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ..” [الأعراف: 172].

4. دقة وصف وترتيب كل مرحلة من مراحل خلق الجنين: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام، ثم كسو اللحم (العضلات)، ثم الإنشاء خلقاً آخر، ثم المخاض.(5)

فأين هذا الإعجاز الفريد مما جاء من تخيلات في كتب الأقدمين؟!

الهوامش:

[1] الفيلسوف أبيقور اليوناني 343 – 270 ق.م. ولد في أثينا في اليونان، وقد اختلف الكتَّاب في أفكاره وحياته الخاصة، فبعض الكتَّاب المتأخرين يصف حياته بالحياة المنعمة اللاأخلاقية، لكن بعضهم يقول بأن كل خطاباته تدل على أنه كان متواضعاً في طعامه، وأن مفهوم اللذة عنده لا يقصد به الإباحية الأخلاقية أو ما شابه ذلك من مفاهيم. انظر: الموسوعة الميسرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص823 مذهب اللذة.

[2] بل العكس تماماً، هو الذي حمل هذا النص أكثر مما يحتمل، فذلك التشبيه يخالف المقرر في العلم الحديث كما سيتبين.

[3] انظر: موسوعة الإعجاز العلمي، يوسف الحاج أحمد، ص98-130.

[4] قال ابن حجر في مقدمة شرحه لكتاب القدر في صحيح البخاري: ” وزعم كثير من أهل التشريح: أن مني الرجل لا أثر له في الولد، إلا في عقده. وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك “. انظر: فتح الباري13/311.

قلت: من هنا يتبين أن علماء الإسلام يقدمون الثابت من النصوص، على الظني من النظريات العلمية. كما يدل على قوة رأي علماء التشريح في ذلك الزمان ـ الذين قالوا بنظرية الجنين القزم وقوة ذلك الرأي، لم تمنع ابن حجر -رحمه الله- من تقديم النص القطعي على النظرية العلمية الظنية. وفي ذلك درس بليغ لمن يتصدى للبحث في الإعجاز العلمي.

[5] كل ما سبق وغيره مما ذكره علماء الإعجاز العلمي من سبق القرآن الكريم في وصف مراحل خلق الإنسان بدقة، وهو معروف مشتهر. أما عن الإعجاز العلمي في المخاض. فهو في قوله تعالى في سورة مريم: “ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا24 وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا25 فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا.. 26 “. فقد ثبت علمياً أن للتمر فوائد في عملية الولادة لاحتوائه على الألياف المانعة للإمساك مما يسهل الولادة، وغناه بالبوتاسيوم المفيد لعضلات الرحم، والحديد المانع لفقر الدم الناتج عن المخاض، ووجود مادة تشبه هرمون Oxytocn الذي يزيد تقلصات وانقباضات عضلة الرحم عند الولادة.


الوسوم:

مقالات ذات صلة