ســـــــــباحة الأرض (الحركة الانتقالية للأرض)

هل تمشي الأرض؟ نعم، هل تجري الأرض؟ نعم، هل تسبح الأرض؟ نعم، وهذا التعبير الأخير هو أبلغ تعبير لحركتها الانتقالية، ولذلك جاء به القرآن العظيم… نلتقي الآن بقول الله تعالى: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ{33}”[سورة الأنبياء]…
تمهيد: 
قبل أن ندخل إلى المفردات والتفسيرات والبحث في الإشارات، ننبّه إلى أننا قد ذكرنا في تعليقنا على الآية (44) من سورة النور كيف كان حال البشرية في زمان نزول القرآن الكريم، وخصوصا أهل شبه الجزيرة العربية الذين تنزّل القرآن بين ظهرانيهم، فالجميع -عربا كانوا أم غير عرب – في جميع أنحاء العالم لا يصدقون بحركة الأرض، بل الجميع على أن الأرض ثابتة ساكنة، والذي يتحرك ويدور من حولها هو الشمس والقمر وغيرهما من الأجرام السماوية، وجميع البشر كانوا على أن الأرض هى مركز الكون، وهو فكر إغريقي قديم جسّده كلوديوس بطليموس (Claudius Ptolemus)منذ القرن الثاني الميلادي في أنموذج وضعه لحركة الأجرام، واعتنقته الكنيسة الأوروبية، وذاع وانتشر في الآفاق وظل سائدا لأكثر من 1300 سنة… وتنزّل القرآن الكريم وحيا من الله تعالى على من اصطفاه واختاره من عباده واتخذه نبيا ورسولا، وهو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، في بيئة كان حالها كما أشرنا، فكانت الحكمة الإلهية ألا تتنزل الآيات مصرّحة بحقائق صادمة لأفكار الناس عن الكون، وفي نفس الوقت لم تتنزّل الآيات بما يساير ما يشيع بينهم من أفكار خاطئة، فكان من الضروري أن تتضمن آيات الوحي كلمات وعبارات تحتمل عدة معاني… وهذه من أهم خصائص اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، إنها “لغة متعددة الظلال”، فيفهمها كل جيل من أجيال البشر بحسب ما اكتسبوه من علوم وما حصلوه من معارف…
وللأسف، لا تزال فئة من الناس حتى الآن لا تؤمن بحركة الأرض الانتقالية، بل لا تزال على اعتقاد اليونان القدامى في سكون الأرض وثباتها… ومن أشد الأسف أن يكون من بين هذه الفئة مَن يُحسبون في زمرة علماء الشريعة الإسلامية… !! وقبل أن نشرع في تدبرنا للآية القرآنية الحالية، ونوضح كيف أنها تشير إلى سباحة الأرض حول الشمس (أي: حركتها الدورانية الانتقالية في فلكها حول الشمس)، بالرغم من عدم ذكر كلمة “الأرض” صراحة في الآية… نسوق موجزا لآراء عدد من أشهر زعماء السلفية في العالم الإسلامي، لنرى كيف تتفق هذه الآراء مع آراء الحاقدين على الإسلام الذين لا يألون جهدا في توجيه الشبهات الماكرة للقرآن الكريم، بقصوره عن توضيح بعض الأمور أحيانا، وبتناقضه في عرض القضية الواحدة في سورة مختلفة أحيانا أخرى… هؤلاء الحاقدون يمتلكون الآن العديد من أجهزة الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، الورقي منها والإلكتروني، ولكن هيهات هيهات أن ينجحوا من محاولاتهم اليائسة، فالله سبحانه قيّض لكتابه العظيم وسُنة رسوله الكريم علماء وباحثين يحملون على عواتقهم مهمة الدفاع عن الإسلام ورسوله، بالحُجج والبراهين والأدلة العلمية الدامغة…
لا يزال عدد من علماء “السلفية” الأحياء يسيرون على خطى أسلافهم الذين أنكروا حركة الأرض وكفّروا مَن يقول بها، ويصرّون على الإيمان بفكر الإغريق وقدامى اليونان حول مركزية الأرض للكون وسكونها وثباتها، ودوران الأجرام السماوية من حولها… ولقد كتب هؤلاء – الأحياء منهم والأموات – المقالات ووضعوا الكتب، وهى متاحة لكافة الناس، سواء الورقي المطبوع منها أم الإلكتروني المنشور منها، وبالتالي، فإن سطورنا القادمة لا تُعد نبشا للقبور، ما دام يعيش بيننا الآن أناس يحملون لواء هذا الفكر القديم البالي… !! ومن أشهر الذين رحلوا عن الدنيا: الشيخ/ عبدالعزيز بن باز، والشيخ/ محمد بن صالح العثيمين… ومن أشهر الأحياء (حتى كتابة هذه السطور): الشيخ/ عبدالكريم بن صالح الحميد (صاحب كتاب “هداية الحيران في مسألة الدوران”)، والشيخ/ يحيى الحجور (صاحب كتاب “تحفة الطالب والمدرس في الردّ على الفلكي المُهلوس”)…
وضع الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز (ت 1420 هـ/ 1999م)- غفر الله له- كتابا عنوانه “الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود للقمر”، وقامت (الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد) في السعودية بنشره في عام 1402 هـ/ 1982م، بعد صدور طبعة له في عام 1395هـ ضمن (مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة)… وفيما يلي مقتطفات من هذا الكتاب تبين إصرار مؤلفه على سكون الأرض وعدم دورانها حول الشمس: (أجمعت آراء السلف من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن القيم الذين أجمعوا على ثبوت الأرض..) … (فمن زعم خلاف ذلك وقال إن الشمس ثابتة لا جارية فقد كذّب الله وكذّب كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ومن قال هذا القول فقد قال كفرا وضلالا لأنه تكذيب لله، وتكذيب للقرآن وتكذيب للرسول لأنه عليه الصلاة والسلام قد صرح في الأحاديث الصحيحة أن الشمس جارية وأنها إذا غربت تذهب وتسجد بين يدي ربّها تحت العرش، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي ذر – رضي الله عنه – وكل من كذب الله سبحانه أو كذب كتابه الكريم أو كذب رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام فهو كافر ضال مضل يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا ويكون ماله فيئا لبيت مال المسلمين، كما نص على مثل هذا أهل العلم)… (وكما أن هذا القول الباطل – يقصد ثبوت الشمس ودوران الأرض- مخالف للنصوص فهو مخالف للمشاهد المحسوس ومكابرة للمعقول والواقع لم يزل الناس مسلمهم وكافرهم يشاهدون الشمس جارية طالعة وغاربة ويشاهدون الأرض قارة ثابتة و يشاهدون كل بلد و كل جبل في جهته لم يتغير من ذلك شيء، ولو كانت الشمس تدور كما يزعمون لكانت البلدان والجبال و الأشجار والأنهار والبحار لا قرار لها ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والمشرقية في المغرب ولتغيّرت القبلة على الناس حتى لا يقرّ لها قرار. وبالجملة فهذا القول فاسد من وجوه كثيرة يطول تعدادها)… (ثم هذا القول مخالف للواقع المحسوس، فالناس يشاهدون الجبال في محلها لم تسيّر، فهذا جبل النور في مكة في محله، وهذا جبل أبي قبيس في محله، وهذا أُحــد في المدينة في محلّه، وهكذا جبال الدنيا كلها لم تسيّر. وكل من تصور هذا القول يعرف بطلانه وفساد قول صاحبه وأنه بعيد عن استعمال عقله وفكره قد أعطى القياد لغيره كبهيمة الأنعام، فنعوذ بالله من القول عليه بغير علم، ونعوذ بالله من التقليد الأعمى الذي يُردي من اعتنقه وينقله من ميزة العقلاء إلى خلق البهيمة العجماء)… (إن كثيراً من مدرسي علوم الفلك ذهبوا إلى القول بثبوت الشمس ودوران الأرض وهذا كفرٌ وضلال وتكذيبٌ للكتاب والسنة وأقوال السلف، وقد اجتمع في هذا الأمر العظيم النقل والفطرة وشاهد العيان فكيف لا يكون مثل هذا كافراً) … (لو كانت الأرض تدور كما يزعمون لكانت البلدان والأشجار والأنهار لا قرار لها، ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والبلدان المشرقية في المغرب، ولتغيّرت القبلة على الناس لأن دوران الأرض يقتضي تغيير الجهات بالنسبة للبلدان والقارات، هذا إلى أنه لو كانت الأرض تدور فعلاً لأحسَّ الناس بحركة كما يحسون بحركة الباخرة والطائرة وغيرها من المركوبات الضخمة) … (القائل بدوران الأرض ضال قد كفر وأضل، كذَّب القرآن والسُنة، وأنه يُستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين).
وهكذا يصف صاحب الكتاب مَن يؤمنون بكروية الأرض بأنهم يتبعون كل ناعق، يريدون أن يفسدوا عقيدة المسلمين… ويصفهم بأنهم بعيدون عن استعمال عقولهم، وأنهم أعطوا قيادهم لغيرهم فأصبحوا كبهيمة الأنعام العجماء بعد أن فقدوا ميزة العقل… ويذكرنا هذا الكلام بما كانت تفعله الكنيسة في أوروبا بالعلماء الذين قالوا بكروية الأرض وحركتها من سبّ وقذف واتهام بالهرطقة والزندقة، والحُكم عليهم بالسجن والنفي والحرق، ولكن هذا كان في القرون الوسطى… ولكن يبدو أن البعض لا يزال يعيش حياة تلك الحقبة البغيضة من الزمان…. كما يذكرني بالعلامة علي بن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) الذي ما سبُ معارضيه في القول بكروية الأرض، ولم يزد على وصفه لهم بـ “العامة”، وهكذا تكون أخلاق العلماء… !!
ننتقل إلى الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين الوهيبي التميمي (ت 1421 هـ/ 2001 م)- عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية – وهو الآخر من علماء السلفية الراحلين الذين ساروا على درب ابن باز… فلقد أفتى ابن العثيمين ببطلان دوران الأرض، وفتاويه متاحة لعموم الناس (سواء المطبوع منها أم المنشور على موقعه الإلكتروني بشبكة الإنترنت)، ويقول في إحدى فتاويه: (الشان كل الشان فيما ذكر من أن الأرض تدور والشمس ثابتة، وأن اختلاف الليل والنهار يكون بسبب دوران الأرض حول الشمس، فإن هذا القول باطل يبطله ظاهر القرآن) … (.. فكيف نحرّف كلام ربنا عن ظاهره من أجل مجرد نظريات أختلف فيها أبضا أهل النظر)… وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن ابن عثيمين قد حرّم أيضا تعليم وتعلم اللغة الإنجليزية، فقال في إحدى فتاويه: (إن الذي يعلم صبيّه اللغة الإنجليزية منذ الصغر سوف يُحاسب عليه يوم القيامة). ويقول : (فاقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم)… !!
ومن الأحياء نذكر الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد (الذي جاوز عمره الثمانين الآن)، وهو صاحب كتاب “هداية الحيران في مسألة الدوران” (أو “الإبطال بالأدلة النقلية والعقلية لنظرية دوران الأرض”)، وصاحب كتاب “دعوى وصول القمر” (أو ” الإبطال بالأدلة النقلية والعقلية للوصول إلى القمر”)… أما كتابه الأول فقد نشرته مطبعة السفير في الرياض – السعودية، وفيما يلي مقتطفات مما ورد فيه: (القول بدوران الأرض أعظم من اعتقاد تسلسل الإنسان من القرود بكثير… )، (كل تأويل من الكتاب والسُنة على دوران الأرض هو تأويل باطل…)، (العلوم العصرية عامة علوم عمّت بها البلوى، منها علوم مفسدة للاعتقاد كالقول بدوران الأرض، وغيره من علوم الملاحدة…)
ويقسّم عبدالكريم الحميد في كتابه الأول العلوم العصرية إلى قسمين: (القسم الأول هو علوم مفضولة، زاحمت الشريعة وأضعفتها، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة فأضعفتها فإنها تحرّم… والقسم الثاني: علوم مفسدة للاعتقاد، مثل القول بدوران الأرض وغيره من علوم الملاحدة)… وتحت عنوان (ماذا يعني القول بدوران الأرض؟) يقول عبدالكريم الحميد في كتابه: (هذا الاعتقاد ليس مقصودا لذاته، وإنما هو مقصود لغيره، إذ هو سلسلة تبدأ من التعطيل وتنتهي إليه، ومعتقده يلتزم من أجله لوازم في غاية الخطورة، حيث يلتزم أن ما فوق الأرض من كل جانب فضاء لا نهاية له).
هذا، إضافة إلى طعنه في عدد من أعلام المسلمين البارزين القدامى والمحدثين، فمن القدامى، طعن عبدالكريم الحميد في الإمام الغزالي، ووضع في هذا كتابا سماه “إعانة المتعالي لردّ كيد الغزالي”، وسبّ سيد قطب (صاحب “في ظلال القرآن”) ووضع في هذا كتابا سماه “إنارة الدرب لما في تفسير قطب من آثار الغرب”… كما طعن عبدالكريم الحميد في عدد من العلماء المعاصرين، مثل الدكتور/ يوسف القرضاوي، ووضع في هذا كتابا سماه “الحق الدامغ للدعوي لدحض مزاعم القرضاوي”، وكذا طعن في الشيخ/ عبدالمجيد الزنداني (أول أمين عام لهيئة الإعجاز العلمي للقرآن والسُنة بمكة المكرمة، ومؤسس جامعة الإيمان في اليمن)، فقال فيه: (.. الزنداني ممن غرّتهم علوم الملاحدة، وأرادوا أن يوفقوا بينها وبين علوم الشريعة المطهرة، فلم يوفقوا…).


ومن سلالة ابن باز وابن العثيمين ، أيضا، الشيخ/ يحيى بن علي الحجوري، الذي يصفه جمّ غفير من العلماء المعاصرين بأنه سليط اللسان، محروم من الحلم والحكمة، ولا يراعي حُرمة أحد- على حدّ قول الشيخ/ عبيد بن عبدالله الجابري… وقد وضع الحجوري كتابا سماه “الصبح الشارق”، يبطل فيه حركة الأرض ودورانها، ومن قوله: (.. وهذا الباب لا يدور تارة من الجنوب، وتارة من المشرق، وتارة من الشمال، وتارة ما بين ذلك، بل هو منذ خلق السماوات والأرض لا يزال عن جهة الغرب على ما خلقه الله، ولو كانت الأرض تدور لدار معها يوما من الدهر من جهة إلى جهة أخرى، لكنها – أي الأرض- ساكنة لا تتحرك، كما قال الله عز وجل: “إن الله يمسك السماء والأرض أن تزولا… (41)” [سورة فاطر])…!!
إن إصرار هذه الطائفة ممن يطلقون على أنفسهم “سلفيين”، من مات منهم ومن لم يزل حيا حتى الآن، على الاعتقاد بثبات الأرض وسكونها وعدم حركتها أو دورانها، ورميهم من يقول بهذا بالكفر والزندقة والضلال والمروق من دين الإسلام، يذكرنا بما كانت الكنيسة الأوروبية تفعله في القرون الوسطى من حرق وتعذيب ونفي وسجن لمن يقول بكروية الأرض أو دورانها وحركتها، بعد أن اعتنقت أفكار أرسطو وبطليموس حول الأرض، واعتبرت مركزية الأرض للكون وثباتها عقيدة دينية يجب الدفاع عنها ومحاربة كل من يقول بغيرها، لأنه بذلك يعارض إرادة الربّ…!! والخوف كل الخوف من أن يتبوّأ نفر من هذه الطائفة مقعدا من مقاعد الحل والعقد في ناحية من نواحي العالم الإسلامي، فيعيدون تاريخ الكنيسة الأوروبية، ويقيمون المشانق لكل من يخالفهم الرأي، فنرى أو نسمع بعلماء يتم تنفيذ أحكام الإعدام أو النفي أو السجن مثلما حدث مع كوبرنيكوس وجاليليو وغيرهما في أوروبا قديما…!!
وقد وجّه القرآن العظيم التحذير من هذه الطائفة كثيرا، وهى الطائفة التي لا يجاوز القرآن حناجرهم، ولا يفقهون من آياته إلا معنى ظاهرا واحدا، ويتهرّبون من بقية معاني الكلمة الواحدة، فيضلون عن أهداف الآيات وجواهر الكلمات وكنوز العبارات في هذا الكتاب العجيب الذي لن تنتهي عجائبه… ولكننا نحمد الله تعالى أن جعل الإسلام دينا خالصا لوجهه الكريم، وهو الدين الذي لا سلطان كهنوتي فيه لأحد من البشر، يصادر العلوم الكونية والكشوف الطبيعية، وليس فيه ما تشير إليه الآية الكريمة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{34}”[سورة التوبة]… فحمدا لله تعالى على نعمة الإسلام دين العقل والعلم…
ولا يفوتنا أن ننبه إلى خطورة أفكار وفتاوى هذا الفئة من يزعمون أنهم زعماء “السلفية” في العالم – الأحياء منهم والأموات- إذ إنها تسهّل لأعداء الإسلام عملهم في توجيه التهم والشبهات للقرآن والسُنة، ومنها شبهات حول تناولهما للأمور الطبيعية والمسائل الكونية… ندعو الله تعالى للجميع بالإفاقة من هذه الإغماءة، وبالهداية إلى الطريق الصواب، وأن يعفو عمن رحل ويخفف عنهم العذاب…


الآية (33) من سورة الأنبياء عند المفسرين:
ندخل الآن إلى الآية (33) من سورة الأنبياء، لنوضح كيف أنها تشير إلى سباحة الأرض، سواء كانت السباحة حول أقرب نجم لها (وهو الشمس)، أم سباحتها في الفضاء الكوني الفسيح.. ونستهله بموجز لما عرضه السادة المفسرين، القدامى منهم والمحدثين، فالزمخشري (ت 538 هـ) يقول في تفسيره “الكشاف”: “كُلٌّ” : (التنوين فيه عوض من المضاف إليه، أي: كلهم، “فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”، والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها، وهو السبب في جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد، وإنما جعل الضمير “واو” العقلاء للوصف بفعلهم، وهو السباحة… فإن قيل: جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت: هذا كقولهم (كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً)، أي كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصارا، ولأنّ الغرض الدلالة على الجنس.
وفي تفسيره “زاد المسير في علم التفسير” يقول ابن الجوزي (ت 597 هـ): .. قوله تعالى: “كلٌّ” يعني: الطوالع، “في فَلَك”: قال ابن قتيبة: الفَلَك: مدار النجوم الذي يضمُّها، وسمَّاه فَلَكاً، لاستدارته. ومنه قيل: فَلْكَة المِغْزَل… ومعنى “يَسْبَحون”: يَجْرُون. قال الفراء: لمَّا كانت السِّباحة من أفعال الآدميين، ذُكِرَتْ بالنون، كقوله: “رأيتُهم لي ساجدين (4)” [سورة يوسف: 4]، لأن السجود من أفعال الآدميين.
ويقول الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره “مفاتيح الغيب”: … لا يجوز أن يقول: “وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” إلا ويدخل في الكلام مع الشمس والقمر النجوم ليثبت معنى الجمع ومعنى الكل، فصارت النجوم – وإن لم تكن مذكورة أولاً فإنها مذكورة لعود هذا الضمير إليها، والله أعلم… الفلك في كلام العرب كل شيء دائر وجمعه أفلاك، واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم: الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم وهو قول الضحاك، وقال الأكثرون: بل هي أجسام تدور النجوم عليها، وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، ثم اختلفوا في كيفيته… والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفات السموات إلا بالخبر… اختلف الناس في حركات الكواكب، والوجوه الممكنة فيها ثلاثة، فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً والكواكب تتحرك فيه كحركة السمك في الماء الراكد، وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة، وإما أن يكون الفلك متحركاً والكوكب ساكناً… والحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة والله تعالى قادر على كل الممكنات، والذي يدل عليه لفظ القرآن أن تكون الأفلاك واقفة والكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء.
وفي تفسيره “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور” يقول البقاعي (ت 885 هـ): “وهو” أي لا غيره “الذي خلق الّيل والنهار” ، ثم أتبعهما آيتيهما فقال: “والشمس” التي هي آية النهار وبها وجوده، “والقمر” الذي هو آية الليل. ولما ذكر أعظم آياتها فأفهم بقية الكواكب… “يسبحون” أي كل واحد يسبح في الفلك الذي جعل به… وهذه إشارة جيدة عند البقاعي إلى “الأرض”- ضمن كلمته: الكواكب – لم نجدها عند من سبقوه من المفسرين.
ومن التفاسير الحديثة، تفسيره “التحرير والتنوير” الذي يقول فيه ابن عاشور (ت 1393 هـ) : وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجُّه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية، فخلْق النهار تبع لخلق الشمس وخلقِ الأرض ومقابلةِ الأرض لأشعة الشمس، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم)… وهذه هى الإشارة الجيدة الثانية إلى “الأرض” في كتب التفسير …. ويستأنف ابن عاشور كلامه فيقول: “كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكراً مجملاً في بعضها الذي هو آيات السماء، ومفصلاً في بعض آخر وهو الشمس والقمر، كان المقامُ مثيراً في نفوس السامعين سؤالاً عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير فيه لا يلاقي فضاء سير غيره… والسبح: مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم. والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ولم يذكروا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب. ويغلِب على ظني أنه من مصطلحات القرآن، ومنه أخذه علماء الإسلام، وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر… ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى: “كل في فلك” فيه محسّن بديعي فإن حروفه تُقرأ من آخرها على الترتيب كما تُقرأ من أولها مع خفة التركيب، ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة، ومثله قوله تعالى: “ربك فكبِّر (3)” [سورة المدّثر] بطرح واو العطف، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف، وهذا النوع سمّاه السكاكي “المقلوبَ المستوي” وجعله من أصناف نوع سمّاه “القـلب”… قال العلامة الشيرازي (في “شرح المفتاح”): وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال. قلت: ولم يذكروا منه شيئاً وقع في كلام العرب، فهو من مبتكرات القرآن.
ومن التفاسير الحديثة، أيضا، تفسير “خواطر حول القرآن الكريم” الذي يقول فيه الشعراوي (ت 1418 هـ) : الحق – سبحانه وتعالى – يمتنّ ببعض خَلْقه، ولا يمتن الله إلا بشيء عظيم ونعمة من نعمه على عباده، ومن ذلك الليل والنهار، وقد أقسم سبحانه بهما في قوله تعالى: “وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2)” [سورة الليل] وقال “وَٱلضُّحَىٰ (1) وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2)” [سورة الضحى]، فالليل والنهار آيتان متكاملتان، ليستا متضادتين، فالأرض خلقها الله ليعمرها خليفته فيها: “هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا… (61)” [سورة هود]. ثم يقول تعالى: “وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ…” ، نعم هناك آيات أخر كثيرة في كَوْن الله، لكن أوضحها وأشهرها: الشمس والقمر، فهما تحت المشاهدة… “كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” ، فالليل والنهار والشمس والقمر يدور كُلٌّ منهم خَلْف الآخر ويخلقه، كما قال سبحانه: “وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً… (62)” [سورة الفرقان]…). وهكذا لم يذكر الشعراوي “الأرض” ضمن الأجرام السابحة…
والخلاصةهى أن مَن أشار من المفسرين إلى “الأرض” ضمن سباحة الأجرام السماوية في هذه الآية قلة قليلة… !!
سباحة الأرض من منظور علم الفلك الحديث:
أصبح معروفا لدى العلماء الآن أن الحركة في الأرض داخلية وخارجية، أما الداخلية فأشهرها حركة الألواح القارية (ويختص بدراستها علم الجيولوجيا)، وأما الخارجية فهى الحركة الدورانية للأرض ككوكب حول نفسها (وهذه تحدثنا عنها عند تدبّرنا للآية 44 في سورة النور)، وحركتها الدورانية حول الشمس في مدار (فلك) خاص، وحركتها مع الشمس حول مركز مجرة درب اللبانة (Milky way galaxy)، وحركات أخرى كبيرة ودقيقة يفوق عددها الأحد عشر نوعا، ويفصّل القول فيها علماء الفلك الحديث… وفي تعليقنا الحالي سنركز على حركة الأرض حول أقرب النجوم إليها وهو الشمس في ضوء سورة الأنبياء، وهى الحركة الدورانية التي يتولد عنها حدوث الفصول الأربعة خلال العام…
يتألف النظام الشمسي (Solar system) من نجم واحد هو الشمس التي يدور حولها مجموعة الكواكب التابعة لها، وكذلك أقمار هذه الكواكب، والنيازك، والمذنبات. والأرض هى الكوكب الذي نعيش فيه، وهو ثالث الكواكب بُعداً عن الشمس. الشمس… وتدور الأرض حول الشمس مرة كل 365 يوم وربع اليوم في مدار إهليجي (Elliptical orbit)طوله 9600 مليون كيلومتر تقريبا. ولمّا كان محور الأرض (الذي تدور حوله مغزليا مرة كل يوم) يميل بزاوية 23.5 درجة، فإن منطقتيْ القطب الشمالي والقطب الجنوبي تختلفان عن بقية مناطق سطح الأرض، إذ يستمر ضوء النهار لستة أشهر وظلام الليل لستة أشهر خلال العام…
ولمّا كانت الحركات الدورانية للأرض (سواء حول نفسها لتوليد الليل والنهار، أو حول الشمس لتوليد الفصول الأربعة) حركات منتظمة، وتحكمها قوانين منضبطة، فإن الإنسان لا يشعر بها، بل يعيش في هدوء واستقرار على سطحها، ويمارس أنشطته الحياتية، الشخصية والمجتمعية، بلا خوف ولا هلع ولا فزع، ويسعى في عمارة الأرض كما أمره الله تعالى: “… هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ{61}”[سورة هود]… وحركة الأرض الدورانية حول الشمس حركة متعرجة ولكنها منضبطة، وإن كان بُعدها عن الشمس (البالغ 150 مليون كيلومترا) يتغيّر بمقدار 4.991 كيلومترا على مدار العام… إن الأرض، وهى تدور حول الشمس، تخضع لنواميس كونية وضعها الله تعالى، ومن أهمها ناموس التجاذب الكوني الذي يفسّر تماسك الكون وعدم انهياره إلى أن يأذن الله تعالى بنهايته، وهو الناموس الذي يضبط سير الأجرام السماوية في أفلاكها دون أن تتصادم، وهو ناموس من النواميس والسُنن التي وضعها الله وهو وحده سبحانه القيوم عليها، مصداقا لقوله في كتابه العزيز: ” إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً{41}”[سورة فاطر]... وبالتالي لن تتمرد الأرض، أو غيرها، فتخرج عن فلكها الذي خلقه الله تعالى ويسيّرها فيه، وما الهزات المفاجئة – كالزلازل وأشباهها- إلا استثناءات، شاءت إرادة الله تعالى أن تحدث لتنبيه الغافلين عن عبادته والإذعان لقدرته، وحتى هذه أيضا أمرنا الله تعالى بالتفكر فيها إيمانيا ودراستها علميا….
وإذا كانت منظومة (الأرض والقمر والشمس) هى أقرب المنظومات الفلكية للمشاهد العادي، فإن الأرض (بالرغم من قطرها البالغ 12756 كيلومترا) لا تصطدم بالقمر الذي يدور من حولها (ويبلغ قطره 3476 كيلومترا)، بل قدّر الله تعالى أن يدور هذا التابع الأمين على بُعد قاسه العلماء وقدروه بنحو 384 ألف كيلومترا… كما أنها لا تصطدم بالشمس (البالغ قطرها مليون و392 ألف كيلومترا)، على الرغم من كتلتها التي تفوق كتلة جميع الكواكب السيارة حولها بأكثر من مائة مرة… وبالرغم من هذا كله، فشمسنا لا تمثل سوى نجم واحد من بين 200 مليار نجم في مجرتنا المسماة “درب اللبانة” (Milky way)، وهذا هو ما توصل إلى علماء الفلك حتى الآن…
التدبّر العلمي للآية (33) في سورة الأنبياء:
نعود إلى الآية محل التعليق الآن، لنقرأ فيها الكلمات: خلق، الليل، النهار، الشمس، القمر، كل، فلك، يسبحون…
أما “خلق” فهو فعل الله تعالى في المخلوقات، إذ هو الخالق الأعظم لكل ما في الوجود، وهو سبحانه يخلق ما نعلم وما لا نعلم، ويقول أهل اللغة: إن كلمة “يخلق” لا تكون إلا للشيء الحسي، أي أن خلق الزمان يلزمه خلق المكان.
وأما “الليل والنهار” فهما ظرفا زمان، وفي اللغة العربية (وهى اللغة التي نزل القرآن بها) يقتضي وجود ظرف الزمان ووجود ظرف مكان، إذ لا زمان بلا مكان، كما أن اللغة تجيز إطلاق الصفة ويُراد بها الموصوف، وإطلاق الظرف ويُراد به المظروف… وبالتالي، فإن كل من كلمتي “الليل” و”النهار” يدل على مكان وجودهما على الأرض، ولا معنى لليل أو النهار بدونهما…
وأما “كل في فلك”، فلو كان للشمس فلك تسبح فيه، ولو كان للقمر فلك يسبح فيه، فأين الفلك الذي يسبح فيه كل من الليل والنهار؟ إن الزمان لا يسبح، وإنما الذي يسبح هو المكان الذي يمثل الزمان حدثا من أحداثه- كما أشرنا من قبل. ونكرر فنقول: إن ذكر الليل والنهار هنا يدل على وجود الأرض، ليس هذا فحسب، بل ويدل أيضا على الحركة الدورانية (السباحة) للأرض في فلكها، كما هو الحال بالنسبة لكل من الشمس والقمر، وقد ذكرهما الله تعالى هنا على سبيل المثال لا الحصر، لأن الأجرام السماوية يفوق عددها قدرة الإنسان على العدّ والحصر…
وأما فعل الجمع “يسبحون” فإنه يصف حركة الأجرام السماوية، وهذه الأجرام في الآية التي نعيش في رحابها الآن هى الأرض والشمس والقمر. وهذا وصف بليغ، وصف يفوق كل من السير والمشي والجري، إنه وصف دقيق للحركة الانتقالية للأجرام السماوية التي ترافقها حركة ذاتية لكل منها…
وعلماء الفلك غير المسلمين يستخدمون كلمة “السباحة” في عصرنا الحالي لوصف الحركة الانتقالية للأجرام السماوية، دون أن يطلعوا على ما ورد بشأنها في القرآن الكريم… وإذا كان المذكور في الآية الكريمة هو الشمس والقمر فقط ، فكان من الضبط اللغوي أن يأتي الفعل بصيغة المثنى “يسبحان”، وإنما جاء بصيغة الجمع، ولن نلجأ إلى المجاز أو التأويل – مثلما لجأ السابقون – لشرح حركة الليل والنهار، إذ اللغة والعلم كلاهما يؤكد ضرورة اشتمال الآية الكريمة للأرض حتى وإن لم تذكرها باللفظ الصريح، وكيف تذكر صراحة أن الأرض تسبح والناس في أنحاء العالم – وقت نزول القرآن الكريم- كانوا لا يتصوّرون إلا ثبات الأرض من تحت أقدامهم، ولا يزال من الناس في عصرنا الحالي من يؤمن بهذا، وقد تقدم كلامنا في هذه المسألة… والخلاصة أن الفعل “يسبحون” الوارد في الآية الكريمة يشير إلى تغيير المكان، وهو التغيير الذي لا يتحقق إلا مع الحركة الذاتية للجسم المتحرك الذي يغير مكانه…
قرائن قرآنية أخرى لسباحة الأرض:
إذا كانت الآية التي نعيش في رحابها الآن قد وصفت حركة الأجرام السماوية بالسباحة، ففي آيات أخر ورد وصفها بالسرعة الكبيرة في لفظ “جرى” ، مثلما ورد في قول الله تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{29}”[سورة لقمان]، أما الأجل المسمى لكل مخلوق فلا يعلمه إلا خالقه سبحانه وتعالى، وأما الليل والنهار هنا فيدلان على الأرض، وبالتالي فلأرض والشمس والقمر- على سبيل المثال لا الحصر – تجري جريانا حقيقيا لا مجازيا…
ولدينا قرائن قرآنية أخرى تؤكد ما ذهبنا إليه من حركة الأرض ودورانها وسباحتها في فلكها الخاص… فالله تعالى يقول: “إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً{41}”[سورة فاطر]، وهذا تصريح بأن جميع محتويات السماء من أجرام وأجسام، والأرض من بينها، تدور في أفلاكها في هذا الكون الشاسع، ولو كانت الأرض ساكنة جامدة ثابتة غير متحركة، مرتكزة على شيء ، لما تطلبت إمساكا، إذ الشيء الذي يلزمه الإمساك هو الشيء المتحرك… ويأتي علماء الفلك والفيزياء الكونية الآن فيعبّرون عن “الإمساك” المذكور في هذه الآية الكريمة بالتوازن، أيْ إن كل جرم سماوي يخضع في حركته الدورانية لقوتين متضادتين، هما القوة الطاردة المركزية (المتولدة عن دورانه)، وقوة جاذبية أقرب جرم سماوي (أكبر منه حجما وكتلة) إليه… وهذا التوازن نفهمه ، أيضا، من آيات قرآنية أخر، مثل قول الله تعالى: “وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ{7}”[سورة الرحمن]، وقوله تعالى: “وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ{31}”[سورة الأنبياء]، وقوله تعالى: “وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً{7}”[سورة النبأ]، وغيرها من الآيات التي تلفت نظر الإنسان إلى نعمة الجبال التي خلقها الله تعالى وثقل بها الأرض حتى لا تضطرب في حركتها، وحتى لا يفزع من يعيش على سطحها من اضطرابها… كما أن فعل “تميد” لا يوصف به الجسم الساكن، بل يوصف به الجسم المتحرك، وشاءت إرادة الخالق الحكيم أن تنتظم الجبال على الكرة الأرضية لتحقيق هذا الأمر، أي حركة الأرض الدورانية المنضبطة دون أي اضطراب أو خلل…
ومن القرائن القرآنية، أيضا، قول الله تعالى: “وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ{88}”[سورة النمل]، تتضمن هذه الآية إشارة إلى حركة الكرة الأرضية في الحياة الدنيا، وليس ما ذكر فيها من شأن الآخرة أو أحداث يوم القيامة، كما ذهب الكثير من المفسرين القدامى… فالآية تحتوي ألفاظا وتشبيهات تقرّب لأفهام الناس ما سيحدث يوم القيامة بحقيقة علمية جارية أمامهم وهم غافلون عنها، إما لجهلهم بها، وإما لاقتصارهم على ما فهمه السابقون منها، دون إعمال لعقولهم في تدبّرها، وهو أمر إلهي دائم ما دام القرآن وما دامت الدنيا… والآية تحتوي الأمر بالرؤية “وترى”، رؤية البصر ورؤية البصيرة في آن واحد، ولكن بحسب مستويات البشر العقلية والإيمانية… وتتضمن الآية ، أيضا، مثالا تشبيهيا في الجملة “تمرّ مرّ السحاب”، إذ تدعو الإنسان إلى مشاهدة السحاب وكيفية مروره لكي يتمكن من إدراك حركة الجبال… وتتضمن الآية، أيضا، الجملة “صنع الله الذي أتقن كل شيء” والصنع والإتقان لا يكون إلا للعمران وليس للخراب والانهيار والانهدام، والعمران من أمور الدنيا…
وحين نصدّق بحركة الجبال، فإن هذا يلزمه تصديقنا بحركة الأرض، إذ الجبال أجزاء من الأرض، حركة الأرض الداخلية وحركتها الخارجية التي تنتظم أشهر حركتين وهما حركتها الدورانية حول نفسها وحركتها الدورانية حول أقرب نجم لها وهو الشمس… ومن البلاغة القرآنية أن يأتي المثل المضروب لحركة الجبال (والأرض التي تحملها) بمرور السحاب، والسحب لا توجد إلا في الغلاف الجوي للأرض، وهو الغلاف الغازي الذي يرتبط بها برباط جاذبيتها، وحركته منضبطة مع حركة الأرض… وهكذا تنبهنا هذه الآية الكريمة من الانخدع بمظهر الجبال الثابتة الشامخة التي لا تتزعزع من مكانها، وخصوصا أن من البشر من بهرته الجبال إلى حد اعتقادهم بوجود آلهة في قممها، وذلك عند الأمم التي تؤمن بتعدد الآلهة… فنزلت الآية الكريمة لتصحح المفاهيم الخاطئة والعقائد الفاسدة، وتدعو إلى الإيمان بخالق جميع الأشياء ومدبر أمورها، وهو الله سبحانه وحده لا شريك له…
وخــــــتاما، فإن الناس يعيشون على سطح كوكب الأرض، يأكلون ويشربون.. ينامون ويستيقظون.. يمشون ويهرولون.. يقفون ويجلسون.. يذهبون ويروحون .. يزرعون ويحصدون.. يلهون ويتكاثرون.. وهم لا يشعرون أنهم على كوكب يتحرك بهم حركة الحافلة أو الطائرة بركابها، وكلما كانت الحافلة أو الطائرة دقيقة الصنع كلما نعم ركابها برحلة هانئة ناعمة… فكيف بالصانع الأعظم والخالق الأوحد، وهو الله سبحانه الذي خلق الأرض ومن وما عليها، وخلق الشمس والقمر والنجوم والكواكب والكون كله، ما علم الإنسان منه وما غاب عن إدراكه… إنه لابد وأن يكون صنعه سبحانه على أعلى درجة من الإتقان: …” صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ..”... إننا لا نحكم بالكفر أو الضلال على من ينكرون كروية الأرض، ولا يصدقون بحركتها، كما يحكمون هم بالكفر والهرطقة والزندقة والضلال على من يدركون هذه الحقائق العلمية… وإنما نلتمس العذر لهؤلاء الذين ينكرون حركة الأرض ودورانها، عملا بالقول المأثور (فاقد الشيء لا يعطيه)، ولكن الجاهل بالشيء يلزمه البحث عنه، ويلزمه سؤال أهل الاختصاص نزولا على الأمر الإلهي الوارد في قول الله تعالى: “.. فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{43}”[سورة النحل]… هذه إشارة ختامية، والإشارة الأخرى هى إن الذين يخافون على الشرع الإسلامي من تهديد العلوم العصرية له، إنما يسعون إلى (تحنيط) هذا الشرع الحنيف بإخراجه من دائرة العقل والفهم والتفقه.. فالعلوم العصرية خادمة للشرع الإسلامي، ومساعدة على فهم ما استغلق فهمه على السابقين من الأجيال التي لم يتوفر في عصورها ما يتوفر لنا في عصرنا الحالي من معطيات علمية، وكل هذا بإرادة الله تعالى، الذي يقيّض لكتابه العظيم وسُنة نبيه الكريم في كل عصر مَن ينافحون عنهما بتدبّرهما وتفهمهما ودراستهما وبحث مكامن العظمة فيهما، واستخراج ما يستطيعون استخراجه من كنوز… وأما إذا لم تسعفنا المعطيات العلمية المتاحة لنا في عصرنا الحالي، ينبغي علينا التوقف عند ظاهر النص نزولا على قول الله تعالى: “.. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ{7}”[سورة آل عمران]… فلعل الله تعالى يخلق من عباده في عصر قادم من يلهمه القدرة على ما استعصى علينا فهمه واستنباطه واستخراجه من كنوز القرآن والسًنة… “وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ … {9}”[سورة النحل]... اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا…
***


الوسوم:

مقالات ذات صلة