القرآن الكريم.. تأملات في بعض شهادات الغربيين المُنصفين.
الثلاثاء/ديسمبر/2019
أ.د. ناصر أحمد سنه / كاتب وأكاديمي
ليس بمستغرب تلك الحملات والانتهاكات والدعوات المسعورة ـ القديمة، الجديدة، المتجددةـ للنيل من القرآن الكريم.. حرقاً، أو تدنيساً، أو تكذيباً، أو تشويها، أو تحريفاً، أو تسفيهاً، أو تشكيكاً الخ. فلقد كان ـ منذ نزوله، ومازال، وسيظل ـ “كتاباً مُقلقاًً للغربيين، ومُحيراً لهم، ومُبلبلاً لأفكارهم”، وتاريخ تعاملهم معه حافل بالمتناقضات، ما يستلزم تدخلا فاعلاً لحلها. يقول المستشرق الفرنسي “ريجيس بلاشير”:”قلما وجدنا من بين الكتب الدينية الشرقية كتاباً بلّبل بقراءته دأبنا الفكري أكثر مما فعله القرآن”(1).
– كتب المستشرق الفرنسي “إميل درمنغم”: «كان محَمَّد، وهو البعيد عن إنشاء القرآن وتأليفه ينتظر نزول الوحي أحيانًا على غير جدوى، فيألم من ذلك، كما رأينا في فصل آخر، ويودُّ لو يأتيه المَلَكُ متواترًا»(2).
– يقول المستشرق “شيبس”: «يعتقد بعض العلماء أنَّ القرآن كلام محَمَّد، وهذا هو الخطأ المحضُ, فالقرآن هو كلام الله تعالى الموحى على لسان رسوله محَمَّد. وليس في استطاعة محَمَّد، ذلك الرجل الأمِّي في تلك العصور الغابرة أنْ يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء ويهدي به الناسَ من الظلمات إلى النور. وربَّما تعجبون من اعتراف رجلٍ أوروبِّي بهذه الحقيقة. لكن لا تعجبوا فإنِّي درستُ القرآن فوجدتُ فيه تلك المعاني العالية والنظم المحكم، وتلك البلاغة التي لم أرَ مثلها قطُّ، فجملة واحدةٌ تغني عن مؤلَّفات»(3 .(
– الأب “روبير كاسبار” يقول: “إن الغرب لم يفهم الإسلام على حقيقته أبداً، بل لم يحاول ذلك مطلقاً. حتى خيرة المسيحيين القلائل الذين كانوا يعيشون على مقربة من الإسلام أمثال “يوحنا الدمشقي”، و”تيودر أبي قرة”، أو “بولس الصيدوني” الخ، لم يتمكنوا من إدراك جوهر الإسلام وعظمته. ولعل ذلك يرجع أساساً إلى أن الغرب المسيحي اكتفى قروناً طويلة بتشويه صورة الإسلام ونبيه (صلى الله عليه وسلم) من دون أن يكلف نفسه عناء دراسة هذه العقيدة. فأول ترجمة لمعاني القرآن لم تظهر إلا في القرن الثاني عشر أي بعد خمسة قرون من ظهور الإسلام، وتمت بناء على مبادرة من “بطرس المبجل”. كما إن غالب الترجمات لم تكن لها هدف سوى توجيه المزيد من الإدانات للقرآن، تلك الإدانات التي امتدت سلسلتها على مدى قرون تتناثر عليها بعض أشهر الأسماء”)4).
– ” في كتابها “دفاع عن الإسلام”، تقول “لورا فيشيا فاغليري”: “كيف يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محَمَّد وهو العربي الأمِّي؟. وعلى الرغم أنَّ محَمَّدا دعا خصوم الإسلام إلى أن يأتوا بكتاب مثل كتابه، أو على الأقلِّ بسورةٍ من مثل سُوَره: “وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”[البقرة: ٢٣]. وعلى الرغم من أنَّ أصحاب البلاغة والبيان الساحر كانوا غير قلائل في بلاد العرب، فإنَّ أحدًا لم يتمكَّن من أنْ يأتي بأيِّ أثر يضاهي القرآن. لقد قاتلوا النبيَّ بالأسلحة، لكنَّهم عجزوا عن مضاهاة السموِّ القرآني” (5).
– المفكر الألماني (هوبرت هيركومر):”يبدوا أن الصليبيين جنوداً وضباطاً – رفضوا الاعتراف بحقيقة أنهم يواجهون إحدى ديانات التوحيد القريبة من دياناتهم. كانت معرفة الصليبيين بالقرآن محدودة جداً. صحيح أن أول ترجمة لاتينية لمعاني القرآن ظهرت سنة 1143م لكن الأوروبيين كانوا يتطلعون إلى توظيفها للطعن المستمر في الإسلام. ولا شك في أن الترجمة الدقيقة لمعاني القرآن بينت للغرب اللاتيني أموراً كثيرة، ومع ذلك لم يفكر أحد في حينئذ في التوصل إلى حد أدنى من الاتفاق والفهم والتفاهم مع الإسلام. عندما قام السويسري (يوحنا أوبورين) سنة 1542م بطبع الترجمة اللاتينية سارعت بلدية مدينة “بازل” بحظر نشرها، ولم تسحب الحظر إلا بعد تدخل مكثف من “مارتن لوثر” مؤسس الكنيسة البروتستانتية. بيد أن حجة “لوثر” كانت: (لقد استيقنت انه لا يمكن عمل شيء أكثر إزعاجاً لمحمد أو الأتراك، ولا أشد ضرراً – من جميع أنواع السلاح – من ترجمة قرآنهم ونشره بين المسيحيين، عندئذ سيتضح لهم أي كتاب بغيض وفظيع وملعون هذا القرآن.. مليء بالأكاذيب والخرافات والفظائع). إن “لوثر” البروتستانتي كان ينظر إلى قرآن مترجم إلى اللاتينية في عصر الحروب مع الدولة العثمانية على أنه وسيلة مثالية لتسليح القلوب اليائسة للمسيحيين ورفع روحهم المعنوية، حيث أعلن قائلاً: “بعد ظهور الأتراك على حقيقتهم، أرى أن القساوسة عليهم أن يخطبوا الآن أمام الشعب عن فظائع محمد حتى يزداد المسيحيون عداوةً لـه، وإيماناً بالمسيحية، ولتتضاعف جسارتهم وبسالتهم في الحرب، ويضحوا بأموالهم وأنفسهم” (6).
– اشتهر الطبيب الفرنسي “موريس بوكاي” بوقفاته الموضوعية العلمية مع الكتب السماوية، وخرج من دراسته بعدد من النتائج ضمَّنها كتابه المشهور:”القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم”, أو “دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة”، إذ يقول: «كيف يمكن لإنسان ـ كان في بداية أمره أُمّيًّا ـ ثمَّ أصبح فضلاً عن ذلك سيِّد الأدب العربي على الإطلاق, أنْ يصرِّح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أيِّ إنسان في ذلك العصر أنْ يكونها، وذلك دون أنْ يكشف تصريحه عن أقلِّ خطأ من هذه الوجهة؟»(7) .
– الصحفية الأمريكية “ديبرا بوتر” التي اعتنقت الإسلام عام 1980م تقول: (كيف استطاع محَمَّد الرجل الأمِّي الذي نشأ في بيئة جاهلية أنْ يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم, والتي لا يزال العلم الحديث حتَّى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لا بُدَّ إذنْ أنْ يكون هذا الكلام هو كلام الله عزَّ وجلَّ)(8).
– يؤكد “مونتجمري واط2006-1909)”م) في كتابه المتأخِّر “الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر”: «إنَّ القرآن ليس بأيِّ حال من الأحوال كلامَ محَمَّد، ولا هو نتاج تفكيره، إنَّما هو كلام الله وحده، قصد به مخاطبة محَمَّد ومعاصريه ومن بعدهم. ومن هنا فإنَّ محَمَّدا ليس أكثرَ من «رسول» اختاره الله لحمل هذه الرسالة إلى أهل مكَّة أوَّلاً, ثمَّ لكلِّ العرب, ومن هنا فهو قرآن عربي مبين. وهناك إشارات في القرآن إلى أنَّه موجَّهٌ للجنس البشري قاطبةً. وقد تأكَّد ذلك عمليًّا بانتشار الإسلام في العالم كلِّه، وآمن به، وقبـِله بشرٌ من كلِّ الأجناس تقريبًا”(9). ويمضي “واط” ذلك المستشرق الانجليزي الذي أمضى في دراسة القرآن والإسلام أكثر من ثلث قرن ـ وهو قسيس انجليكانى وابن قسيس! ـ.. “بأن القرآن كان يسجل فور نزوله”.. ويؤكد في أكثرَ من موضع من كتابه سالف الذكر على صدق الجمع والتدوين والتوثيق فور النزول والتنزيل للقرآن في عهد الوحي والتنزيل وبإشراف الرسول عليه الصلاة والسلام(10). ولقد جاءت شهادته هذه تعليقاً على الآية القرآنية التي تقطع بأن الجامع الأول للقرآن الكريم هو الله سبحانه وتعالى {إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآنه فاتبع قرآنه ثم أن علينا بيانه} (القيامة 16-19).. فقال: “إن التفسير الطبيعي لهذه الآيات، هو أن محمداً ما دام يتبع تلاوة جبريل فإن الله متكفل بجمع الآيات المتفرقة أو التي أوحى بها في أوقات مختلفة لجعلها في سياق واحد. وإذا لم يكن محمد هو الذي رتب القرآن بناء على وحي نزل عليه، فمن الصعب أن نتصور أي مسلم آخر يقوم بهذا العمل(11).
– (هذا القرآن كتاب حكيم فمن أجال الطرف فيه وأمعن النظر في بدائع أساليبه وما فيها من الإعجاز رآه وقد مر عليه من الزمان ألف وثلاثمائة وعشرون سنة كأنه مقول في هذا العصر إذ هو مع سهولته بليغ ممتنع ومع إيجازه مفيد للمرام بالتمام. وكما أنه كان يرى مطابقًا للكلام في زمن ظهوره لهجة وأسلوبًا كذلك يرى موافقًا لأسلوب الكلام في كل زمن ولهجة، وكلما ترقّت صناعة الكتابة قدرت بلاغته وظهرت للعقول مزاياه. وبالجملة فإن فصاحته وبلاغته قد أعجزت البلغاء وحيرت فصحاء الأولين والآخرين. وإذا نظرنا إلى ما فيه من الأحكام وما اشتمل عليه من الحكم الجليلة نجده جامعًا لجميع ما يحتاجه البشر في حياته وكماله وتهذيب أخلاقه.. وكذا نراه ناهيًا عما ثبت بالتجارب العديدة خسرانه وقبحه من الأفعال ومساوئ الأخلاق.. وكم فيه ما عدا ذلك أيضًا ما يتعلق بسياسة المدن وعمارة الملك، وما يضمن للرعية الأمن والدعة من الأحكام الجليلة التي ظهرت منافعها العظيمة بالفعل والتجربة فضلاً عن القول(12).
– في كتابها “الحجُّ إلى مكَّة”، أو “البحث عن الله”تقول الليدي” إفيلين كوبولد” النبيلة الإنجليزية التي أسلمت: «وذكرتُ ما جاء في القرآن عن خلق العالم وكيف أنَّ الله سبحانه وتعالى قد خلق من كلِّ نوعٍ زوجين, وكيف أنَّ العلم الحديث قد ذهب يؤيِّد هذه النظرية بعد بحوث مستطيلة ودراسات امتدَّت أجيالاً عديدة“.
– “كم من الأجيال ستكابد الخوف والشقاء، قبل أن يبزغ فجر الإسلام العظيم الذي يبدو، أن التاريخ بأكمله يتجه صوبه، وسلام يومئذ يغمر الدنيا، وسلام يغمر القلوب” (هربرت ويلز) (13).
جملة القول: تناول المستشرقون القرآن الكريم بالدرس والبحث والتحليل، واعتنوا بترجمته إلى لغاتهم. ترجمات اختُـلف في تقويمها.. قدحاً ومدحاً، اتهاما وإنصافاً، وتمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وحسنها وقبيحها، ورصداً للأخطاء التي ارتكبت عمداً، أو بغير عمد. “ما أشبه الليلة بالبارحة”.. فوسط مواقف وأحداث ونظريات تتشح بوشاح إستعلائي/ عنصري/ إقصائي/ تصادمي .. تبقي الحاجة ماسة لتسليط الأضواء أمثال تلكم الشهادات المُنصفة من عقلائهم التي من شأنها أن تثري “المعرفة المُنصفة”، و”المثاقفة المتبادلة”، وتُعدل من”الصور الذهنية النمطية”، وتجسر جسور التعارف والتعايش والتعاون، و”يلتقي الغرب والشرق”، فيعلو الحوار الفعّال، علي الخنجر القتّال. وتبقي الضرورة مُلحة لتوفير ترجمات صحيحة سليمة لمعاني القرآن الكريم بكل لغات العالم المقروءة.
بقلم: أ.د./ ناصر أحمد سنه / كاتب وأكاديمي
E.mail:[email protected]
هوامش ومصادر:
1- “ريجيس بلاشير”: “القرآن: نزوله، ترجمته وتأثيره”، ترجمة رضا سعادة، دار الكتاب اللبناني، 1974، ص:41.
2- إميل درمنغم:”حياة محَمَّد”، نقله إلى العربية عادل زعيتر. ـ ط 2. ـ بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر, 1988م. ـ ص 277.
3– محَمَّد أمين حسن محَمَّد بني عامر: “المستشرقون والقرآن الكريم”، إربد: دار الأمل, 2004م. ـ ص 223. ـ نقلاً عن محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. سيرة سيِّد المرسلين. ـ القاهرة: دار نهضة مصر, ـ ص 18 ـ 19.
4- أ.د. زينب عبد العزيز:”محاصرة وإبادة – موقف الغرب من الإسلام” ، ص:40.
5- لورا فيشيا فاغليري: “دفاع عن الإسلام”، نقله إلى العربية منير البعلبكي. ـ ط 5. ـ بيروت: دار العلم للملايين, 1981هـ. ـ ص 57 ـ 58.
6- ثابت عيد: “ترجمة معاني القرآن للألمانية بين سموم المستشرقين وجهود المسلمين” بحث (ص:21) جريدة الحياة العدد 11990.
7- موريس بوكاي. دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة. ـ ط 4. ـ القاهرة: دار المعارف, 1977م. ـ ص 150.
8- نقلاً عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. ـ الرياض: الندوة العالمية للشباب الإسلامي, 1412هـ/1992م، ص 55.
9- انظر: محَمَّد عمارة. الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء. ـ القاهرة: دار الشروق, 1425هـ/2005م. ـ ص 162.
10- مونتجمري وات: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر/ ترجمة عبد الرحمن عبد الله الشيخ، القاهرة: مكتبة الأسرة الهيئة المصرية العامة للكتاب2001، نقلاً عن محَمَّد عمارة. الإسلام في عيون غربية. ـ مرجع سابق، ص 159.
11- راجع د. محمد عمارة:”جامع القرآن” بصحيفة المصريون،http://new.almesryoon.com/news.aspx?id=42655
12- عبد الله كويليام:العقيدة الإسلامية، ص،140- 139.
13- من كتاب “ربحت محمداً ولم أخسر المسيح” للدكتور عبد المعطي الدالاتي.