الحدائق في الإسلام
الخميس/ديسمبر/2019
بقلم د. راغب السرجاني
لا تقتصر حكمة خلق النبات والأشجار على الفوائد الحيوية المعروفة من كونها غذاء للإنسان والحيوان، أو رئة تتنفس بها البيئة… بل قد أشار الله عز وجل في كتابه الكريم إلى وظيفة أخرى تؤديها الأشجار والحدائق في حياة الإنسان ووجدانه، فقال تعالى: [أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ] {النمل:60}
إن تلك الصبغة الجمالية التي تميُّز الطبيعة على اختلاف مكوّناتها ليست إلا تطبيقًا لقاعدة عامة أقرها الله تعالى في كل ملمح من ملامح الكون، كما أحب لعباده أن يتخلقوا بها.. تلك هي قاعدة (الجمال)! وذلك كما روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله جميل يحب الجمال”..
ولعل من اللافت للنظر كثرة الحديث عن الشجر والثمار والجنات في القرآن الكريم.. حيث ورد لفظ شجر بمشتقَّاته في القرآن نحو 26 مرة، كما وردت لفظة ثمر بمشتقَّاته 22 مرة، ونبت بمشتقاته 26 مرات، وذكرت الحدائق 3 مرات.. أما الجنة مفردة ومجموعة فقد وردت 138 مرة!!
حتى عندما يعرض القرآن الكريم للأشجار والثمار من حيث هي طعام للإنسان والأنعام.. يأتي ذلك العرض في سياق لافت لجمال المنظر!.. قال تعالى: “فلينظر الإنسان إلى طعامه.. أنا صببنا الماء صبًا، ثم شققنا الأرض شقًا، فأنبتنا فيها حبًا، وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًّا، متاعًا لكم ولأنعامكم ..) سورة عبس 24: 32.. وانظر إلى التعبير القرآني الجميل: “متاعًا لكم ولأنعامكم”..
وإلى جانب إظهار الحكمة الجمالية من وراء خلق الحدائق بأشجارها وثمارها على هذا النحو البديع… فقد كان لتصوير القرآن الكريم والسنَّة المطهرة للجنة، بما تحتويه من متع حسية ومعنوية، إلى جانب محاولة التغلب على الظروف الصحراوية القاسية… كان لتلك العوامل مجتمعة أثر قوي في دفع المسلمين لمحاكاة هذا التصوير المثالي في تصميم وتنسيق الحدائق الإسلامية؛ فالحدائق بصفة عامة تعكس العلاقة بين الإنسان والطبيعة، أما في العالم الإسلامي فتضاف رؤية أخرى لمفهوم الحدائق من حيث كونها صورة تعبر عن الشوق الإسلامي العميق للفردوس أو الجنة.. وقد تميزت العمارة الإسلامية بما يمكن أن نطلق عليه: “النظرية الفردوسية”.. في محاولة لإيجاد حدائق وجنات أرضية داخل بيئات تتسم بظروف مناخية قاسية، بغرض تحسين وتجميل هذه البيئة.
ومع نمو الفنون والعمارة الإسلامية وتطورها أصبح الاتجاه في تصميم الحدائق يحاول التأنُّق ويبرع فيه لإضفاء تلك البهجة التي وصف بها القرآن حدائق الأرض كما مرَّ منذ قليل.
والمتأمل للعديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن الجنات الأرضية أو الأخروية يندهش من دقة الوصف القرآني الذي استلهم من خلاله المسلمون العناصر الأساسية والجمالية عند تنسيق حدائقهم أو عند اختيار مواقعها..
فمن الآيات الكريمة التي استوحى منها المسلمون الموضع النموذجي لاختيار الحدائق والجنات الأرضية قوله سبحانه وتعالى: “ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير” (البقرة 265)، فقد التفت المسلمون هنا إلى إشارة دقيقة حيث أوضحت الآية الكريمة أن الموقع الأمثل للحدائق والبساتين إنما يكون بالأماكن المرتفعة من الأرض (الربوة)؛ فهذا يجنِّب الأشجار التقاء جذورها بالمياه الجوفية التي تحد من نموها.. كما أنه يساعد على جودة الصرف والتخلص من المياه الزائدة..
ولقد أعطت العديد من الآيات القرآنية وصفًا جميلاً للجنة وما بها من متعٍ أعدها الله لعباده الصالحين، كان منها تلك الحدائق والأشجار.. حيث يقول سبحانه: “إن للمتقين مفازًا: حدائق وأعنابًا..” ويفسر ابن عباس الحدائق بأنها ما أحيط بالجنة من الأشجار والنخل.. وجاء في تفسير السعدي: البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية… والثمار التي تتفجر خلالها الأنهار.
وفي موضع آخر يقول تعالى: “وأصحاب اليمين.. ما أصحاب اليمين؟! في سدرٍ مخضود، وطلحٍ منضود، وظلٍ ممدود، وماء مسكوب…” فلم تقتصر الآيات على ذكر هذين النوعين من الأشجار في الجنة (السدر والطلح) بل تعدت ذلك إلى بيان جوانب جمالية في هذه الأشجار:
فأنت تقرأ وصف السدر بـ (المخضود).. وفي ذلك يقول الطبري: “السدر المخضود: الذي قد خُضِدَ من شوكه؛ فلا أشواك فيه”.. وروى الحاكم في المستدرك عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم؛ قال: أقبل أعرابي يومًا فقال: يا رسول الله، ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما هي؟!”. قال: السِّدر؛ فإن له شوكًا موذيًا!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أليس الله يقول: “فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ”؟!.. خَضَد الله شوكه، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرًا تَفَتَّق الثمرةُ منها عن اثنين وسبعين لونًا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخر”.
أما الطلح المنضود فهو شجر الموز متراكم الثمر، قال السُّدّي: “..مَنْضُودٍ”: مصفوف، وقال ابن عباس: يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمرًا أحلى من العسل.
كذلك، فإن الـ (ظل الممدود) صفة جمالية في هذا الشجر، جاء في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا.. وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}، و: {ودَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً}” فليس من شك أن هذه الجوانب من مد الظل ، وتذليل الثمار كلها جوانب جمالية ، تمزج المنفعة المادية للشجر بالمنفعة المعنوية ..
ومما عرضته السُنَّة المطهَّرة أيضًا من وصف روعة شجر الجنة ما رواه الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما في الجنة شجرة إلا وساقها من الذهب”.. مما حدا ببعض المسلمين أن يبالغوا في محاكاة هذا الأمر، فكسا بعضهم جذوع النخيل والأشجار بالذهب كما فعل “خمارويه بن أحمد” الذي حكم مصر بين عامي (270 – 282 هـ)!
الحدائق في الحضارة الإسلامية:
وفي القرن الثاني الهجري (السابع الميلادي) امتدت رقعة الدولة الإسلامية لتشمل – في العهد الأموي – بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا (الأندلس، وجنوب فرنسا).. وما إن تم للمسلمين الاستقرار في هذه المناطق حتى بدءوا يخططون المدن ويقيمون فيها القصور الفخمة.. وغدت الحدائق وتنسيق الأفنية الداخلية في المساكن والمباني العامة – من ذلك الحين – عنصرًا أساسيًا في مباني المدينة الإسلامية..
وكانت الخصوصية هي أهم ما يميز الحديقة في العصر الإسلامي؛ ولذلك أحيطت الحدائق بالأسوار العالية أو أشجار النخيل لحجب المناظر الداخلية.. وقد غلب على تخطيطها التقسيمات الهندسية، كما اهتم المسلمون في حدائقهم باستخدام المياه بصور متنوعة ومتميزة.
نماذج للحدائق في الحضارة الإسلامية:
لم تخل حاضرة من حواضر الإسلام في المشرق ولا المغرب من الحدائق الرائعة التي تميز بها الحس المعماري الإسلامي.. منها ما كان في الأندلس وتركيا والشام وفارس ومصر وسمرقند والمغرب وتونس واليمن وعُمان والهند وغيرها…
فعلى سبيل المثال لوحظ في الأندلس أن العمارة الإسلامية هناك كانت تدمج العناصر الطبيعية (من الماء والنبات) في كل مبانيها، خاصة القصور، وتميزت الحديقة الأندلسية باستخدام النباتات دائمة الخضرة، والنباتات والأشجار ذات الروائح الزكية وباستخدام الزهور الجميلة كالبنفسج والياسمين.
وتعتبر حدائق قصر الحمراء في غرناطة من أجمل الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها للدلالة على جمال الحدائق الإسلامية وتكاملها، وانسجامها الطبيعي مع الأفنية الداخلية.. وكانت هذه الحدائق متكررة بشكل متنوع في الأفنية المختلفة للقصر.. كما كانت مليئة بالنباتات ذات الروائح العطرة كالريحان..
وفي غرناطة كذلك نجد (جنـة العريف) التي أقيمت على سفح ربوة، وصممها المسلمون على هيئة مدرجات لا يتعدى عرض أوسعها ثلاثة عشر مترًا، ولا يزيد عددها على ستة مستويات، ويلعب الماء دورًا أساسيًا فيها، إذ ينهمر من أعلى الحديقة من عيون تصب في قنوات تمر عبر الأشجار.. (لعلنا نلاحظ هنا هذا الاستخدام الجمالي للماء “المسكوب” الذي مرَّ بنا منذ قليل أنه من مكونات الحسن في جنة الآخرة التي لم تفارق خيال المعماري المسلم وهو يشيد القصور والحدائق على الأرض!)
وفي الأندلس أيضًا أنشأ عبدالرحمن الداخل – رحمه الله – “الرصافة”، و التي تعد من كبرى الحدائق في الإسلام.. وكان قد أنشأها على غرار الرصافة التي كانت بالشام، وأسسها جده هشام بن عبد الملك – رحمه الله – وقد أتى لها بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم.. والتي ما إن تنجح زراعتها حتى تنتشر في كل بلاد الأندلس..!!
ولم يقتصر وجود الحدائق في الأندلس على أفنية المساكن أو القصور فقط، بل امتدت إلى أفنية العديد من المساجد؛ فمن الملامح التي تميز بها مسجد قرطبة أن صحنه كان مغروسًا بالعديد من الأشجار (كأشجار البرتقال) وقد تكرر ذلك فيما بعد في جامع “مالقة” المزروع بأشجار النارنج البديعة، وجامع “ألمرية” المغروس بأشجار الليمون والنارنج، وجامع القصبة الكبير بأشبيلية، وغيرها…
فإذا يممنا شطر المشرق الإسلامي الأوسط؛ لنصل إلى تركيا.. فسنجد أنه بمجرد دخول الإسلام إليها أخذت الحدائق التركية في الانتشار في ربوع البلاد بصورة ملحوظة، ولوحظ على الحدائق الأناضولية أنها لم تكن للترفيه والتجميل فقط، وإنما كانت للإقامة أيضًا!!.. وقد تميزت الحديقة في تركيا بأنها كانت تُخطَّط أولاً ثم يُبنى عليها بعد ذلك؛ ولذلك فقد كانت قصور اسطنبول تسمى بـ (الحدائق) على الرغم من وجود القصور داخلها!.. وكانت هذه الحدائق تُستعمل للتسلية أو الحفلات الرسمية، كما كانت تُطل غالبًا على ساحل البحر كما في إسطنبول..
وقد أُدخلت المسطحات الخضراء على التكوين المعماري للمساجد في العصر العثماني بهدف وقايتها من أخطار الحرائق (مثل مسجد السليمانية بإسطنبول)؛ فقد جرى التعارف على أن النار تشتعل في المنازل التي كانت تُبنى بالخشب، ثم تمتد منها إلى المساجد المجاورة، مما حدا بالمعمار”سنان” أن يحيط الجامع وملحقاته بسور خارجي، بينه وبين التكوين الداخلي للمسجد مساحات كبيرة خالية غرست بها أشجار باسقة، وأنواع من زهور مختلفة تعزل المسجد عن المنازل المجاورة، وتُحقق في الوقت ذاته قيمة جمالية رائعة.
وقد كثر في العهد العثماني أن تُزرع الأشجار في صحن المساجد الكبرى، ومن أمثلة تلك المساجد صحن المسجد النبوي الشريف، مسجد “با يزيد” بتركيا..
ويعتبر قصر (توب كابي) من أشهر القصور المعروفة بإسطنبول، وقد بدأ بناؤه في عهد السلطان ” محمد الفاتح”، وكان مقرًا للسلاطين العثمانيين ما بين القرن العاشر والثالث عشر الهجريين (من السادس عشر إلى التاسع عشر ميلاديًّا)، وكان القصر بحدائقه يغطي مساحة 69 ألف متر مربع بمحيط 5 كيلومترات.. وقد خُطِّطت الحدائق فيه على شكل ممرات مكشوفة تحيط بالقصر من الشمال والغرب والشرق، وكان فيها حدائق للفاكهة والخضروات، ومساحة واسعة تُركت للصيد..
يقول الأستاذ سيد قطب في الظلال: ” ..إن منظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية، وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب… وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر، كما أن تموُّج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث.. فضلاً عن معجزة الحياة النامية في الشجر، وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر…”
وأخيرًا.. فلا تزيدنا تلك الرحلة الممتعة مع الحدائق في الحضارة الإسلامية إلا يقينًا بعظمة تلك الحضارة، وعظمة ما تركته – إلى اليوم – من معالم للرقي الإنساني والبيئي.. الأمر الذي يدل دلالة أكيدة على ذلك الانسجام الكامل بين دين الإسلام وفطرة الإنسان التي تسكن بطبيعتها إلى اللون الأخضر وتناسق الأشجار والثمار..
ونسأل الله – في الختام – أن يُعيد للأمة الإسلامية بهاء حضارتها، وللإنسانية جمعاء صفاء فطرتها.
المصدر:
موقع قصة الإسلام