أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج
الخميس/ديسمبر/2019
لقد كانت البحار عالماً مجهولا إلى القرن الثامن عشر الميلادي، كما كانت الخرافات والأساطير المتعلقة بالبحار تسود الحضارات القديمة، وكان الرومان يعتقدون بأن قمم الأمواج جياد بيضاء تجر عربة الإله (نبتون)[1] بزعمهم، وكانوا يقومون بالطقوس والاحتفالات لإرضاء هذه الآلهة، وكانوا يعتقدون بوجود أسماك مصاصة لها تأثيرات سحرية على إيقاف السفن، وكان لليونانيين مثل هذه الاعتقادات، كما كان بحارتهم يعزون سبب الدوامات البحرية إلى وجود وحش يسمونه كاربيدس يمتص الماء ثم يقذفه[2]، ولم يكن بمقدور الإنسان معرفة أعماق الشواطئ الضحلة والمياه الراكدة، ناهيك عن معرفة البحار العميقة والحركات الداخلية في هذه المياه، كما لم يكن بإمكان الإنسان الغوص في هذه الشواطئ إلا في حدود عشرين متراً ولثواني معدودة ليعاود التنفس من الهواء الجوي، وحتى بعد ابتكار أجهزة التنفس للغواصين لم يتمكن الإنسان من الغوص أكثر من ثلاثين متراً؛ نظراً لازدياد ضغط الماء على جسم الغواص، مع زيادة العمق والذي يعادل عند عمق ثلاثين متراً أربعة أضعاف الضغط الجوي على سطح الأرض[3]، وعندئذٍ يذوب غاز النتروجين في دم الغواص، ويؤثر على عمل مخه، فيفقده السيطرة على حركاته[4]، ويصاب الغواصون نتيجة لذلك بأمراض تعرف في الطب بأمراض الغواصين، أما إذا نزل الغواص إلى أعماق بعيدة؛ فإن ضغط الماء يكفي لهرس جسمه.
صورة لقارورة التنفس (سكوبا Scuba) |
التسلسل الزمني لاكتشاف أعماق البحار:
* في عام1300 م استخدم صيادو اللؤلؤ أول نظارات واقية مصنوعة من صدف السلاحف.[5]
|
* في عام 1860م تم اكتشاف أحياء في قاع البحر المتوسط باستخدام حبل حديدي (كيبل).
* في عام 1865م تم ابتكار مجموعة غطس مستقلة بواسطة كل من (روكايرول ودينايروز).
* في عام 1893م تمكن بوتان من إلتقاط صور تحت الماء.[6]
* في عام 1920م تم استخدام طريقة السبر بالصدى (صدى الموجات الصوتية) لمعرفة الأعماق.
* في عام 1930م تمكن كل من بارتون وبيبس من أن يغوصا بأول كرة أعماق حتى عمق 3028 قدماً، وابتكار (أقنعة الوجه والزعانف وأنبوب التنفس).
* في عام 1938م تم ابتكار قارورة للتنفس (سكوبا Scuba) وابتكار صمام التنفس من قبل الكابتن كوستو ودوماس.
* في عام 1958م تم إجراء تجارب الاختبارات على غواصة الأعماق (الستينيات) وابتكار (ابرس) غلاصم[7] للتنفس تحت الماء، وتجربتها لأول مرة.
* وتمكن الإنسان من الغوص إلى أعمق بقعة في المحيط الهادي[8]، كما تمكن من البقاء في أعماق البحر لعدة أيام[9]، واكتشف الإنسان وجود فوهات في أعماق البحر[10]، وصنع الإنسان الغواصة الصفراء[11] والغواصات النووية.[12]
صورة لغواصة أعماق البحار التابعة للبحرية الأمريكية (Trieste)ترييستي (1958-1963) |
معلومات حديثة في علم البحار:
لم تبدأ الدراسات المتصلة بعلوم البحار وأعماقها على وجه التحديد إلا في بداية القرن الثامن عشر؛ عندما توفرت الأجهزة المناسبة والتقنيات، وصولاً إلى ابتكار الغواصات المتطورة. وبعد عام 1958م أي بعد ثلاثة قرون من البحوث والدراسات العلمية، وعلى أيدي أجيال متعاقبة من علماء البحار، توصل الإنسان إلى حقائق مدهشة منها:
1) ينقسم البحر إلى قسمين كبيرين:
أ- البحر السطحي، الذي تتخلله طاقة الشمس وأشعتها.
ب- البحر العميق، الذي تتلاشى فيه طاقة الشمس وأشعتها.
2) يختلف البحر العميق عن البحر السطحي في الحرارة والكثافة والضغط ودرجة الإضاءة الشمسية، والكائنات التي تعيش في كل منهما ويفصل بينهما موج داخلي.
3) الأمواج البحرية الداخلية Internal wave :
صورة للأمواج الداخلية أخذت بالأقمار الصناعية |
تغطي الأمواج الداخلية البحر العميق، وتمثل حداً فاصلاً بين البحر العميق والبحر السطحي، كما يغطي الموج السطحي سطح البحر، ويمثل حداً فاصلاً بين الماء والهواء، ولم تكتشف الأمواج الداخلية إلا في عام 1904م[13].
ويتراوح طول الأمواج الداخلية ما بين عشرات إلى مئات الكيلومترات، كما يتراوح ارتفاع معدل هذه الأمواج ما بين 10 إلى 100 متر تقريباً.
4) اشتداد الظلام في البحر العميق مع ازدياد عمق البحر، حتى يسيطر الظلام الدامس الذي يبدأ من عمق (200متر) تقريباً، ويبدأ عند هذا العمق المنحدر الحراري الذي يفصل بين المياه السطحية الدافئة ومياه الأعماق الباردة، كما توجد فيه الأمواج الداخلية التي تغطي المياه الباردة في أعماق البحر، وينعدم الضوء تماماً على عمق 1000متر تقريباً.أما فيما يتعلق بانتشار الظلمات في أعماق البحار فقد أدرك صيادوا الأسماك أن الضوء يمتص حتى في المياه الصافية، وأن قاع البحر المنحدر ذا الرمال البيضاء يتغير لونه بصورة تدريجية حتى يختفي تماماً مع تزايد العمق، وأن نفاذ الضوء يتناسب عكسياً مع ازدياد العمق.
وأبسط جهاز علمي لقياس عمق نفاذ الضوء في مياه المحيط هو قرص سيتشى The Secchi Disk ، ولكن على الرغم من كونه وسيلة سهلة لقياس اختراق الضوء للماء بدرجة تقريبية، وعلى الرغم من استعماله على نطاق واسع، فإن قياس الظلمات في ماء البحر بصورة دقيقة لم يتحقق إلا بعد استخدام الوسائل التصويرية في نهاية القرن الماضي[14]، ثم بتطوير وسائل قياس شدة الضوء التي استخدمت الخلايا الكهروضوئية خلال الثلاثينيات، وبعد اختراع الإنسان أجهزة مكنته من الغوص إلى هذه الأعماق البعيدة وفي الهامش[15] معلومات عن شدة الضوء عند أعماق مختلفة من المحيط.
أما البحار العميقة فالضياء منعدم فيها، والظلمات متراكمة، وتعتمد الكائنات الحية والأسماك التي تعيش فيها على الطاقة الكيميائية لتوليد الضوء الذي تستشعر به طريقها، وهناك أنواع منها عمياء تستخدم وسائل أخرى غير الرؤية لتلمس ما حولها. وتبدأ هذه الظلمات على عمق 200متر تقريباً، وتختفي جميع أشعة الضوء على عمق 1000متر تقريباً، حيث ينعدم الضوء تماماً، كما أن أغلب تركيب الأسماك في الأعماق يتكون من الماء لمواجهة الضغوط الهائلة.
ظلمات بعضها فوق بعض:
إن الظلام الدامس الذي يشتد من خمسمائة متر إلى ألف متر يتكون في أعماق البحار نتيجة لظلمات بعضها فوق بعض، وتنشأ لسببين رئيسين:
الشكل يظهر أثر الأمواج السطحية على عكس الضوء |
1) ظلمات الأعماق: يتكون شعاع الشمس من سبعة ألوان: (الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، النيلي، البنفسجي، الأزرق)، ولكل لون طول موجي خاص به[16]، وتتوقف قدرة اختراق الشعاع الضوئي للماء على طول موجته، فكلما قصر طول الموجة زادت قدرة اختراق الشعاع للماء، لذلك فإن شعاع اللون الأحمر يمتص على عمق 20متراً تقريباً، ويختفي وجوده بعد ذلك، وينشأ عن ذلك ظلمة اللون الأحمر، فلو جرح غواص على عمق 25متراً تقريباً وأراد أن يرى الدم النازف فسيراه بلون أسود، بسبب انعدام شعاع اللون الأحمر، ويمتص الشعاع البرتقالي على عمق ثلاثين متراً تقريباً، فتنشأ ظلمة أخرى تحت ظلمة اللون الأحمر هي ظلمة اللون البرتقالي، وعلى عمق 50متراً تقريباً يمتص اللون الأصفر، وعلى عمق 100متر تقريباً يمتص اللون الأخضر، وعلى عمق 125متر تقريباً يمتص اللون البنفسجي والنيلي، وآخر الألوان امتصاصاً هو اللون الأزرق على بعد 200متر تقريباً من سطح البحر. وهكذا تتكون ظلمات الألوان لشعاع الشمس بعضها فوق بعض، بسبب عمق الماء الذي تمتص فيه الألوان بأعماق مختلفة.
2) ظلمات الحوائل:
وتشترك ظلمات الحوائل مع ظلمات الأعماق في تكوين الظلمات الدامسة في البحار العميقة، وتتمثل ظلمات الحوائل فيما يأتي:
أ- ظلمة السحب: غالباً ما تغطي السحب أسطح البحار العميقة نتيجة تبخبر الماء، وتمثل حائلاً نسبياً لأشعة الشمس[17]، فتحدث الظلمة الأولى للحوائل، والتي نراها ظلالاً لتلك السحب على سطح الأرض والبحار.
ب- ظلمة الأمواج السطحية: تمثل الأسطح المائلة للأمواج السطحية في البحار سطحاً عاكساً لأشعة الشمس، ويشاهد المراقب على الساحل مقدار لمعان الأشعة التي عكستها هذه الأسطح[18] المائلة للأمواج السطحية.
ج- ظلمة الأمواج الداخلية:
توجد أمواج داخلية تغشى البحر العميق وتغطيه، وتبدأ من عمق 70متر إلى 240متر[19]، وتعلق ملايين الملايين من الكائنات الهائمة في البحار على أسطح الموجات الداخلية، وقد تمتد الموجة الداخلية إلى سطح البحر فتبدو تلك الكائنات الهائمة كأوساخ متجمعة على سطح البحر، مما يجعلها تمثل مع ميل الموج الداخلي حائلاً لنفاذ الأشعة إلى البحر العميق، فتنشأ بذلك الظلمة الثالثة تحت ظلمتي السحب والموج السطحي.
ويتبين مما سبق أن الظلمات التي تراكمت في البحار العميقة عشر ظلمات وهي:
أ- ظلمات الأعماق: وهي سبع ظلمات بعضها فوق بعض تنشأ من التلاشي التدريجي لألوان الطيف السبعة.
ب- ظلمات الحوائل الثلاثة:
1- السحب 2- الموج السطحي 3- الموج الداخلي.
وهي أيضاً ظلمات بعضها فوق بعض.
الاكتشافات العلمية المتعلقة بالآية:
مما سبق يتبين أن العلم التجريبي قد اكتشف في فترة طويلة، خلال القرون الثلاثة الماضية، وبعد توفر الأجهزة الدقيقة، وبتضافر جهود أعداد كبيرة من الباحثين وعلماء البحار، الحقائق الآتية:
· وجود ظلمات في البحار العميقة.
· وأن هذه الظلمات بعضها فوق بعض.
· تزداد هذه الظلمات بالتدريج مع زيادة العمق حتى تنعدم الرؤية تماماً.
· وجود أمواج داخلية تغشى البحر العميق.
· تعمل الأمواج الداخلية بما عليها من الكائنات الهائمة على حجب الضوء.
· عدد الظلمات المتراكمة في البحار العميقة عشر ظلمات، سبع منها بسبب عمق الماء،
وثلاث بسبب الحوائل الثلاثة: السحاب، الموج السطحي، الموج العميق.
تنقسم مياه البحر إلى قسمين:
أ- مياه البحر السطحي: حيث توجد فيها طاقة الضوء.
ب- مياه البحر العميق: التي تراكمت عليها الظلمات.
وصف القرآن لهذه الأسرار والحقائق البحرية:
قال تعالى:﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور:40].
-أثبت القرآن وجود ظلمات في البحر العميق، وقيد وصف البحر بلفظ (لجى) ليعلم قارئ القرآن أن هذه الظلمات لاتكون إلا في بحر لجي -أي عميق-،﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ ويخرج بهذا القيد البحر السطحي، الذي لا توجد فيه هذه الظلمات.
-وقد بين أهل اللغة والتفسير معنى لفظ (لجي)، فقال قتادة وصاحب تفسير الجلالين: لجي هو العميق. وقال الزمخشري: اللجي العميق الكثير الماء. وقال الطبري: ونسب البحر إلى اللجة بأنه عميق كثير الماء. وقال البشيري: هو الذي لا يدرك قعره، واللجة معظم الماء، والجمع لجج، والتج البحر إذا تلاطمت أمواجه.
-وهذه الظلمات تتكون بسبب العمق في البحر اللجي، وهي ظلمات الأعماق التي سبق الإشارة إليها. قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾. قال الزمخشري: (بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب). وقال الخازن: (كظلمات في بحر لجي، أي عميق كثير الماء، معناه أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غمورة الماء). وقال المراغي: (فإن البحر يكون مظلم القعر جداً بسبب غور الماء).
-وذكر القرآن أن للبحر العميق موج يغشاه من أعلاه.
قال تعالى:﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ…﴾ .
-وذكرت الآية وجود موج آخر فوق الموج الأول، قال تعالى: ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ..﴾ وهذه صفة للبحر وهي: وجود موجين في وقت واحد، أحدهما فوق الآخر، وليست أمواجاً متتابعة على مكان واحد، بل هي موجودة في وقت واحد، والموج الثاني فوق الموج الأول.
-وتشير الآية إلى أن فوقية الموج الثاني على الموج الأول؛ كفوقية السحاب على الموج الثاني. قال تعالى: ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ..﴾.
-ذكرت الآية وجود موج يغشى البحر العميق ويغطيه، كما ذكرت وجود موج ثان فوق الموج الأول، وهذا يستلزم وجود بحر فوق (الموج الأول والبحر العميق)، وهو البحر السطحي الذي يغشاه الموج الثاني الذي فوقه السحاب.
-وأثبت القرآن دور هذه الحوائل الثلاثة في تكوين الظلمات في البحار العميقة، وأن بعضها فوق بعض، كما قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)﴾ [النور:40] وهو ما فهمه بعض المفسرين: قال الإمام البغوي في تفسيره لهذه الآية: “ظلمة الموج الأول على ظلمة البحر، وظلمة الموج الثاني فوق الموج الأول، وظلمة السحاب على ظلمة الموج الثاني”. وقال الإمام ابن الجوزي في تفسيره: “ظلمات: يعني ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الذي فوق الموج، وظلمة السحاب”.
-اشتملت الآية على ذكر ظلمات الأعماق (السبعة) في أولها، وظلمات الحوائل (الثلاثة) في آخرها. ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ…﴾:
-وذكرت الآية أن هذه الظلمات التي سبق ذكرها بسبب الأعماق أو الحوائل بعضها فوق بعض، واستعمل القرآن لفظ ظلمات الذي تستعمله العرب للدلالة على جمع القلة، من الثلاثة إلى العشرة، فقبلها تقول ظلمة وظلمتان، وبعدها تقول إحدى عشرة ظلمة، ومن ثلاث إلى عشر تقول ظلمات كما هي في الآية، وهذا ما كشفه العلم كما سبق بيانه: سبع ظلمات للألوان متعلقة بالأعماق، وثلاث ظلمات متعلقة بالحوائل (الموج الداخلي، والموج السطحي، والسحاب).
-وبينت الآية التدرج في اشتداد الظلام في البحار العميقة باستعمال فعل من أفعال المقاربة وهو (كاد) وجعلته منفياً. قال تعالى: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ فدل هذا الاستعمال الدقيق على معنيين:
الأول: أن الذي يخرج يده في هذه الأعماق ليراها لايراها إلا بصعوبة بالغة، كما فهم ذلك بعض المفسرين، ومنهم المبرد والطبري.
الثاني: أن الذي يخرج يده في هذه الأعماق ليراها لايراها البتة، لأن فعل المقاربة كاد جاء منفياً، فإذا نفيت مقاربة الرؤية دلت على تمام نفي الرؤية، وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين، أمثال الزجّاج وأبو عبيده والفرّاء والنيسابوري. والآية استعملت تعبيراً يدل على المعنيين معاً، فتكون الرؤية بصعوبة في الأعماق القريبة، وتنتفي الرؤية تماماً في الأعماق البعيدة، على عمق 1000متر تقريباً كما مرَّ بنا.
فتأمل كيف جاء التعبير القرآني الموجز دالاً على المعاني الصحيحة المتعددة.
وجه الإعجاز:
لقد ذكر القرآن الكريم معلومات دقيقة عن وجود ظلمات في البحار العميقة، وأشار إلى سبب تكوينها، ووصفها بأن بعضها فوق بعض، ولم يتمكن الإنسان من معرفة هذه الظلمات إلا بعد عام 1930م. وأخبر القرآن عن وجود موج داخلي في البحار لم يعرفه الإنسان إلا بعد عام 1900م، كما أخبر بأن هذا الموج الداخلي يغطي البحر العميق، الأمر الذي لم يعرف إلا بعد صناعة الغواصات بعد الثلاثينيات من القرن العشرين، كما أخبر القرآن عن دور الموج السطحي، والموج الداخلي في تكوين ظلمات في البحار العميقة، وهو أمر لم يعرف إلا بعد تقدم العلم في القرون الأخيرة. وما سبق من المعلومات لم يكتشفه الإنسان إلا بعد أن ابتكر أجهزة للبحث العلمي تمكنه من الوصول إلى هذه الأعماق، ودراسة هذه الظواهر، وبعد أن استغرق البحث فترة طويلة امتدت لثلاثة قرون من الزمن، واحتشد لها مئات الباحثين والدارسين حتى تمكنوا من معرفة تلك الحقائق. فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الأسرار في أعماق البحار؛ في وقتٍ كانت وسائل البحث العلمي فيه معدومة، والخرافة والأسطورة هي الغالبة على سكان الأرض في ذلك الزمان، وبخاصة في مجال البحار؟ كيف جاءه هذا العلم الدقيق بهذه الأسرار، وهو الرجل الأمي في أمة أمية وبيئة صحراوية، ولم يتيسر له ركوب البحر طوال حياته ؟
وحين عرضت هذه الحقائق على البرفسور (راو) وسئل عن تفسيره لظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وكيف أُخبر محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحقائق منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام أجاب: (من الصعب أن نفترض أن هذا النوع من المعرفة العلمية كان موجوداً في ذلك الوقت منذ ألف وأربعمائة عام، ولكن بعض الأشياء تتناول فكرة عامة، ولكن وصف هذه الأشياء بتفصيل كبير أمر صعب جداً، ولذلك فمن المؤكد أن هذا ليس علماً بشرياً بسيطاً. لا يستطيع الإنسان العادي أن يشرح هذه الظواهر بذلك القدر من التفصيل، ولذلك فقد فكرت في قوة خارقة للطبيعة خارج الإنسان، لقد جاءت المعلومات من مصدر خارق للطبيعية)[20].
إنه لدليل قاطع على أن هذا العلم الذي حملته هذه الآية قد أنزله الله الذي يعلم السر في السموات والأرض، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(6)﴾ [الفرقان:6]، وقال تعالى: ﴿لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(166)﴾ [النساء:166]، والقائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53)﴾ [فصلت:53].
بعض المراجع:
http://envisat.esa.int/instruments/asar/data-app/app/gibraltar.html
الهوامش:
[1] أسرار المحيطات، دار الكتاب العربي، 1996م.
[2] .Wikipedia, the Free Ency clopedig
[3] يزداد ضغط الماء على الغواص بمقدار ضغط جوي واحد كلما نزل على عمق عشرة أمتار.
[4] عند نزول الغواص إلى هذه الأعماق فإن غاز النتروجين يذوب في الدماء تحت الضغط العالي، فإذا ما ارتفع الغواص فجاءة نتيجة لفقدان السيطرة على حركته فإن الضغط يخف ويخرج غاز النتروجين فائراً كما تخرج الغازات الذائبة في قارورة المياه الغازية عند رجها.
[5] في عام1520م استطاع ماجلان أن يعبر المحيط الهادي بمساعدة ملك البرتغال، و في عام 1522م تمكنت هذه السفن من أن تبحر حول العالم.
[6] في عام 1872م تم إبحار السفينة “تشالنجر” في رحلة بحث علمية لدراسة البحار، مما ساعد على توفير معلومات علمية عن البحار.
[7] تشبه الخياشيم.
[8] في عام 1960م، وفي الثالث والعشرين من يناير نزلت الغواصة (تريستا) وهي عبارة عن كرة من الصلب جدارها يبلغ سمكه 9 سنتمترات، وبإمكانها الهبوط والصعود فقط وعلى متنها كلاً من: دونالد والش وجاكوى بيكارد وبعد أربع ساعات من الهبوط لمسافة 11كلم تم الوصول لأعمق منطقة في المحيط الهادي (خانق مريانا)، واكتشف الإنسان لأول مرة بواسطة هذه الغواصة وجود براكين تحت الماء، وعيون ماء حارة، وكثير من الأحياء المائية.
[9] في عام 1962م تمكن غواصون من البقاء لمدة أسبوع في أول غرفة تشبع “كونشلفIa ” وهي بيوت مائية للغواصين.
[10] في عام 1977م تم اكتشاف وجود حياة في فوهات أعماق البحار، وعثرت مركبة (نوتايل) على فوهات في أعماق البحر قرب المكسيك، يتدفق منها الماء وهو في درجة 350ْم، وحين يرتفع ماءها فوق الصخور يتفاعل مع المعادن ليتحول إلى اللون الأسود، ويصبح شبيهاً بالمدخنة، كما تم صناعة غواصة الأبحاث الأمريكية (ألفين) القادرة على الغوص إلى عمق 3650متر.
[11] في عام 1995م صمم البريطاني روبرت ليدز غواصة صفراء تشبه الصحن الطائر معدة للاستخدام التجاري، ويمكن بها مراقبة الأسماك على عمق يصل إلى خمسين متراً.
[12] صناعة الغواصات النووية([18]):لم يكن باستطاعة الغواصات الصغيرة التي تعمل بالبطاريات من البقاء مغمورة في الماء أكثر من بضعة أيام، فقام الإنسان بصناعة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، والتي يمكنها البقاء لأكثر من سنتين، وهي كبيرة الحجم وتحمل طاقماً كبيراً، وتعتبر الغواصة الروسية (تايفون) من أكبر الغواصات، حيث تزن أكثر من 25ألف طن، وطولها 172متراً، والغواصة الروسية كورست التي غرقت في أغسطس 2000م، وهي تزن 18 ألف طن، وعلى متنها 118فرداً في بحر بارتنس.
[13] يعود أول تفسير علمي لظاهرة الأمواج الداخلية للدكتور (ف.و. ايكمان V.W Ekman) في عام (1322هـ- 1904م) الذي فسر ظاهرة المياه الراكدة في الخلجان النروجية حين تفقد السفن التي تبحر قدرتها على التقدم فتقف ساكنة في هذه المياه الراكدة، كما لاحظ عالم المحيطات النرويجي (فريتوف نانسن Nansen) تعرض سفينته (فرام Fram) لهذه الظاهرة شمال جزيرة (تايمير) خلال عملية استكشاف القطب الشمالي ما بين (1311هـ-1893م) و (1314هـ-1896م) عند محاولة اجتياز منطقة القطب.
لذلك فقد قام نانسن بتشجيع ايكمان على البحث عن تفسير ظاهرة المياه الراكدة، فكان رأي ايكمان على أنها تنجم عن الأمواج الداخلية التي تتولد في السطح الفاصل بين المياه السطحية والمياه العميقة للمحيط، وبعد زمن غير طويل وصف (أوتو باترسون Otto petterson) تأثير الأمواج الداخلية الطويلة التي تحدث في أعماق البحار على هجرة الأسماك من نوع (هيرنج herring) بالقرب من سواحل جوتلاند (Jutland) بالقرب من الساحل الغربي للسويد في فصل الصيف.
ويكون مرور الأمواج الداخلية محسوساً من سفن التنقيب عن النفط عندما يتغير ثقل المعوم المربوط بين سفينة الحفر وفتحه البئر الكائنة في قاع البحر بصورة مفاجئة، وتم التعرف على هذه الأمواج الداخلية بأثيرها على حركة الغواصات.
[14] أول من وصفه في الكتب العلمية كلاً من سيلادى وسيشنى Ciladi and Secchi في عام 1281هـ-1865م، وهو عبارة عن قرص أبيض ذى قطر معين يتم إنزاله في الماء ليسجل العمق الذي تتعذر رؤيته كنقطة قياسية، ولايزال هذا القرص قيد الاستعمال، حيث يكفى لتحديد قياس تقريبي لشفافية الماء.
[15] Fol, H. and Sarasin, E. 1884, Sur la penetration de la lumiere du jour dans les eaux du lac de Geneve: Com- ptes Rendus des seances do l’Academie des Sciences, pp 624-627.
[16] من المعروف الآن أن كمية الضوء التي تنفذ إلى أعماق البحار تتناقص تناقصاً رأسياً، وفقاً لما يراه (جيرلوف Jerlov)، فينخفض مستوى الإضاءة في مياه المحيط المكشوفة إلى نسبة 10 % عند عمق 35م من السطح، وتنخفض إلى 1% عند عمق 85متر، وإلى.1% عند عمق 135 م، وإلى.01% عند عمق 190م، وإن أفاد بعض الذين قاموا بالدراسة والمراقبة من الغواصات لمدد طويلة أنهم تمكنوا من رؤية الضوء في أعماق تزيد على ذلك. ويرى كلاً من (كلارك) و (دنتون) أن الإنسان يستطيع أن يرى الضوء المنتشر على عمق 850م، ومن الواضح أن الأسماك التي تعيش في أعماق البحار ترى أفضل من ذلك إلى حدٍ ما، وهي قادرة على اكتشاف الضوء المنتشر حتى عمق 1000متر، مع أن شدة الضوء عند هذا العمق تبلغ [1×10-13 من شدته عند السطح].
[17] الأطوال الموجية.
[18] تقوم السحب بامتصاص جزء من الأشعة، وتشتيت جزء آخر، والسماح بنفاذ بقية الأشعة.
[19] إذا أحدثت موجات في إناء ماء كبير فإنك سترى ظلاً لتلك الأمواج في قاع الإناء.
[20] في مقابلة مع الدكتور فاروق الباز.