ظهر الفساد في البر والبحر
الثلاثاء/ديسمبر/2019
إن طبيعة الحياة على الأرض من التعقيد البالغ بحيث لا يمكن للبشر مهما أوتوا من علم أن يكتشفوا جميع أسرار الآليات التي تعمل بها مكونات هذه الحياة والتي تبقيها تعمل بهذه الكفاءة المنقطعة النظير لبلايين السنين. ولذلك فإن العلماء متخوفون من أن التغييرات التي أحدثها البشر في بيئة هذه الأرض نتيجة لظهور الثورة الصناعية قبل قرنين من الزمن قد تؤدي إلى اختلال عمل النظام الحيوي وربما انهياره بالكامل. فعلى سبيل المثال فإن أحد أهم شروط استمرار الحياة على الأرض هو ثبات معدل درجة حرارة سطح الأرض عند خمسة عشر درجة مئوية ولا يعرف العلماء على وجه التحديد المدى الذي يمكن أن يتغير فيه هذا المعدل دون أن يختل عمل النظام الحيوي.
ولقد لفت القرآن الكريم أنظار البشر إلى هذا التوازن العجيب بين مكونات هذا النظام قبل أربعة عشر قرنا فقال عز من قائل “وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ” الحجر 19.
فهذا التوازن موجود على النطاق الواسع بين الكائنات المنتجة كالنباتات والطحالب والمستهلكة كالحيوانات والمحللة كالبكتيريا والفطريات وقد يؤدي خللا بسيطا في هذا التوازن إلى طغيان بعضها على بعض.
أما التوازن على النطاق الضيق فهو موجود بين جميع أنواع الكائنات الحية فكل من هذه الأنواع يعتمد على أنواع أخرى لكي يبقى على قيد الحياة من خلال سلسلة غذاء بالغة التعقيد تم إحكام خطة عملها بحيث لا يمكن قطع أحد حلقات هذه السلسلة حيث أن قطعها سيؤدي إلى انقراض جميع الكائنات الحية. فعلى سبيل المثال فإن جميع كائنات البحر التي يزيد عددها عن عدد كائنات البر بعشرة أضعاف تعتمد في غذائها على الطحالب التي تعيش فقط في المياه السطحية للبحار والمحيطات وبعمق لا يتجاوز المتر وذلك لكي تستمد الطاقة من أشعة الشمس.
وبما أن معظم كائنات البحر لا يمكنها التغذي على الطحالب البحرية بشكل مباشر وذلك لصغر حجمها فهي لا تكاد ترى بالعين المجردة فقد سخر الله أسماك صغيرة الحجم تلتهم هذه الطحالب ومن ثم تقوم أسماك أكبر حجما بالتغذي على هذه الأسماك الصغيرة وهكذا تتوالى السلسلة إلى أن تصل للحيتان التي تزن عشرات الأطنان. ومن الواضح أنه إذا انقرضت بعض أنواع الأسماك وخاصة الصغيرة التي هي أقرب لبداية سلسلة الغذاء فإن هذا سيؤدي إلى انقراض الكائنات التي تعتمد عليها في غذائها وهذه بدورها تؤدي إلى انقراض أنواع أخرى وهكذا دواليك.
ونأتي الآن على شرح الأسباب التي مكنت البشر في هذا العصر فقط من إحداث هذا الفساد في بر وبحر هذه الأرض فهناك سببان رئيسيان يقفان وراء ذلك أولهما استخدام المحركات بمختلف أنواعها وثانيها استخراج معظم كنوز الأرض من معادن وأملاح ومركبات كيميائية ووقود أحفوري. إن كون المحركات سببا في فساد بيئة الأرض يرجع إلى عدة أسباب أولها حاجة هذه المحركات لحرق كميات كبيرة من المواد العضوية كالبترول والفحم والغاز فساهمت نواتج الاحتراق وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون في إحداث خلل في توازن مكونات جو الأرض والذي انعكس على النظام البيئي كما سنبين لاحقا. أما ثانيها فهو تمكين هذه المحركات بقوتها الخارقة البشر من القيام بمهام أحدثت أضرارا بالغة على البيئة كقطع أشجار الغابات وصيد الأسماك بكميات بالغة وحفر المناجم وبناء السدود.
أما السبب الثاني من أسباب الفساد الذي أصاب الأرض فهو الأثر الناتج عن استخراج مختلف أنواع العناصر الطبيعية والمركبات العضوية وغير العضوية من القشرة الأرضية ومن ثم استخدامها في تصنيع مختلف أنواع المركبات الكيميائية اللازمة لصناعة أنواع لا حصر لها من مستلزمات الحياة المعاصرة.
فمع بداية القرن العشرين تمكن البشر من اكتشاف جميع العناصر الطبيعية البالغ عددها 92 عنصرا بينما لم يتعرف البشر حتى بداية القرن الثامن عشر إلا على 12 عنصرا. ومن هذه العناصر والمركبات العضوية وغير العضوية المتوفرة في الطبيعة قام البشر بإنتاج عدد لا حصر له من المركبات الكيمائية الصناعية والتي يقدر الأنواع التي يتم تصنيعها لأغراض تجارية بسبعين ألف مركب. إن كون هذه العناصر والمواد الكيميائية المستخرجة والمصنعة تشكل خطرا على بيئة الأرض يعود إلى عدة أسباب أولها إن عملية استخراجها وتكريرها وتصنيعها تحتاج لكميات كبيرة من الطاقة والذي يستلزم حرق كميات كبيرة من الوقود أما ثانيها فهو ضياع مساحات واسعة من الأراضي لأغراض إنشاء المناجم مما يترتب عليه تدمير جميع أشكال الحياة الموجودة على هذه الأراضي.
وأما ثالثها فإن عمليات التكرير والتصنيع تحتاج لكميات كبيرة من الماء العذب الذي يستخدم على حساب حاجة البشر والمزروعات والحيوانات بل الأخطر من ذلك أن الماء الناتج بعد التكرير يحمل كميات كبيرة من المواد الكيميائية التي تقوم بتلويث مصادر المياه العذبة ليس في أماكن التكرير والتصنيع فحسب بل في أماكن بعيدة بسبب سهولة تحرك الماء على سطح الأرض وفي باطنها. وأما رابعها فإن نسبة كبيرة من المواد الكيميائية المصنعة ذات ضرر بالغ على البيئة بعد استخدامها ورميها كنفايات في بر وبحر وجو الأرض كما سنبين ذلك فيما بعد.
إن أكبر ملوثات الهواء هو غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن احتراق هذه الكميات الهائلة من مختلف أنواع الوقود الأحفوري التي تستهلكها محطات توليد الكهرباء ووسائط النقل المختلفة من طائرات وقطارات ومركبات والآلات الزراعية والمنشآت الصناعية. إن كل جرام من المادة العضوية المحتوية على الكربون تعطي عند احتراقها ما معدله جرامين من غاز ثاني أكسيد الكربون.
وإذا ما علمنا أن العالم يحرق سنويا ما يقرب من 25 بليون برميل من البترول وخمسة بلايين طن من الفحم الحجري و ثلاثة آلاف بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي فإن نحو ثلاثين بليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون تضخ إلى الهواء سنويا.
إن هذه الكمية ليست بالقليلة إذا ما علمنا أن كمية ثاني أكسيد الكربون الموجودة في الجو لا تزيد عن ألفي بليون طن حيث أن نسبته في الهواء نسبة ضئيلة جدا تبلغ 0,0383 بالمائة مقارنة ب 78 بالمائة للنيتروجين و 21 بالمائة للأوكسجين وقريبا من واحد بالمائة للأرغون. إن ثاني أكسيد الكربون هو المادة الخام التي يصنع منها غذاء جميع أنواع الكائنات الحية التي تعيش على بر وفي بحر هذه الأرض فحسب تقديرات العلماء فإن كمية ثاني أكسيد الكربون التي تأخذه النباتات والطحالب من الهواء سنويا يبلغ خمسمائة بليون طن وكمية الماء الذي تمتصه من الأرض يبلغ 410 بليون طن وكمية الطاقة التي تستمدها من ضوء الشمس يبلغ جزء من ألفي جزء من الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض وتنتج في المقابل 341 بليون طن من سكر الجلوكوز و205 بليون طن من الماء و364 بليون طن من الأوكسجين.
الشكل يظهر آلية تشكل الامطار الحامضية |
وقد يستغرب بعض القراء من ضخامة كمية ثاني أكسيد الكربون التي تمتصه النباتات والطحالب من الجو سنويا حيث يبلغ ربع المخزون الموجود في الجو وهذا يعني أن هذا المخزون يمكن أن يستهلك في أربع سنوات فقط. ولكن بتقدير الله سبحانه وتعالى القائل “وخلق كل شيء فقدره تقديرا” أنه يوجد ما يسمى بدورة الكربون فالكائنات الحية بمختلف أنواعها تقوم بحرق المواد العضوية داخل خلاياها لتستمد منها الطاقة اللازمة لحياتها وينتج عن عملية الاحتراق هذه ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق إلى الجو ليحافظ على نفس المخزون. ومن لطف الخالق سبحانه وتعالى بمخلوقاته أن المواد العضوية التي لا يتم حرقها من النباتات والحيوانات يسلط عليها كائنات حية دقيقة كالبكتيريا والفطريات تقوم بتحليلها وتحويل الكربون الذي فيها إلى ثاني أكسيد الكربون ليعاد إلى الجو لحفظ توازنه.
إن دورة الكربون هذه تعمل بشكل بالغ الدقة منذ بلايين السنين وتعيش الكائنات الحية بأنواعها الثلاث المنتجة (النباتات والطحالب) والمستهلكة (الحيوانات) والمحللة (البكتيريا والفطريات) في توازن تام للحفاظ على مستوى ثابت لثاني أكسيد الكربون في الجو. ولم يكتفي البشر بزيادة مخزون ثاني الكربون من خلال حرق مختلف أنواع الوقود بهذه الكميات الضخمة بل تسلطوا على الغابات وخاصة الاستوائية منها وقاموا بقطع مساحات واسعة جدا من أشجارها التي كانت تمتص جزءا كبيرا من ثاني أكسيد الكربون مما زاد أيضا من مخزونه في الجو. إن ضخ ما يقرب من ثلاثين بليون طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الجو سنويا بالإضافة إلى تقليل ما يمتص منه بسبب تقلص المساحات الخضراء سيزيد من كميته في الجو ولا بد أن يترتب على ذلك آثار بيئية سيئة حيث أن دورة الكربون لا بد وأن تختل. ولقد لاحظ العلماء المهتمين بدراسة البيئة هذه الزيادة المضطردة في مخزون ثاني أكسيد الكربون في الجو وقد تمكنوا من خلال دراساتهم وأبحاثهم معرفة بعض آثاره السيئة على البيئة.
إن أهم هذه الآثار السيئة هي ما يسمى بظاهرة الاحتباس الحراري حيث أن ثاني أكسيد الكربون بهذه النسبة المقدرة تقديرا بالغا من قبل خالق هذا الكون سبحانه وتعالى يلعب دورا بالغا على ثبات معدل درجة حرارة الأرض البالغ خمسة عشر درجة مئوية. فمن خصائص ثاني أكسيد الكربون العجيبة أنه يسمح بمرور الضوء المرئي وتحت الأحمر القادم من الشمس إلى الأرض أثناء النهار فتقوم بتسخين سطح الأرض أما في الليل فإنه يمنع مرور جزءا كبيرا من الحرارة المنبعثة من سطح الأرض إلى الفضاء الخارجي ولولا ذلك لهبطت درجة حرارة سطح الأرض أثناء الليل إلى درجات متدنية جدا. وفي حالة زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون عن الحد الذي قدره الله فإنه سيعكس كمية أكبر من الحرارة التي تنبعث من سطح الأرض مما يزيد من معدل درجة حرارة سطح الأرض عن المعدل الطبيعي.
إن حرق مختلف أنواع الوقود الأحفوري لا يقتصر على إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون بل ينتج عن الاحتراق أنواع مختلفة من الغازات تبعا لنوع الوقود خاصة التي تحتوي على عناصر غير الكربون كالنيتروجين والهيدروجين والكبريت. ومن أهم الغازات الضارة التي تنطلق إلى الجو غاز ثاني أكسيد الكبريت والذي يضخ منه إلى الجو ما يزيد عن مائة مليون طن سنويا وغاز ثاني أكسيد النيتروجين وأكسيد النتريك. وتكمن خطورة هذه الغازات رغم انخفاض كمياتها بالمقارنة مع ثاني أكسيد الكربون في أنها تتحد مع بخار الماء الموجود في الجو منتجة حوامض الكبريتيك والنيتريك والتي تبقى معلقة في الجو على شكل رذاذ إلى أن تسقط مع مياه الأمطار مكونة ما يسمى بظاهرة الأمطار الحمضية.
ولقد اكتشف العلماء هذه الظاهرة منذ بداية القرن العشرين خاصة في المدن التي تكثر فيها المصانع والمركبات ومحطات التوليد حيث لاحظوا ارتفاع نسبة الحموضة في هذه الأمطار. وهذه الأمطار ذات أثر سيء على البيئة فهي تلوث مياه الشرب وتلوث التربة من خلال تفاعلها بعناصرها فتتأثر بذلك إنتاجية المحاصيل وتحول مياه البحيرات المغلقة إلى مياه بنسبة حموضة زائدة تقضي على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيها وتتسبب كذلك في تآكل المباني والجسور وأجسام المركبات والآليات والمعدات وغيرها وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه “أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)” الواقعة.
ومن الغازات الخطيرة التي تنطلق إلى الجو عند احتراق مختلف أنواع الوقود في حالة نقص كمية الأوكسجين هو غاز أول أكسيد الكربون وهو غاز بالغ السمية إذا ما تم استنشاقه ودخوله إلى الدم فهو يقلل من كفاءة نقل الدم للأوكسجين ويتسبب في تكون الجلطات التي تسد الشرايين. وتحتوي العوادم الخارجة من المصانع والمركبات إلى جانب هذه الغازات على مخلفات صلبة تخرج على شكل دخان أسود يملأ أجواء المدن مشكلا ما يسمى بالضباب الدخاني الذي يظهر على شكل ضباب يملأ أجواء المدن خاصة الكبيرة منها. ومن المواد الخطيرة التي تنطلق كذلك مع عوادم المركبات بروميد الرصاص حيث يتكون نتيجة لإضافة رابع أثيل الرصاص إلى البنزين لتحسين كفاءة احتراقه ولمنع ترسب الرصاص على جدران المحركات يتم إضافة مركب كيميائي هو بروميد الأثيلين ليتفاعل مع الرصاص ليخرج على شكل مادة متطايرة وهي بروميد الرصاص السامة. ولا بد أن نذكر أن نسبة الأوكسجين في الهواء تقل موضعيا في داخل المدن المكتظة بالمركبات حيث تلتهم محركاتها كميات كبيرة من الأوكسجين لإتمام عملية حرق الوقود ولا تتم عملية تعويض النقص في الأوكسجين في تلك المناطق إلا بشكل بطيء وقد يصاب الناس القاطنين في المدن بأمراض متعددة كأمراض الجهاز الدوري والتنفسي نتيجة لنقص الأوكسجين واستنشاق أول أكسيد الكربون السام ودخان المركبات المنطلقة من عوادم المركبات والمصانع وهم لا يدركون أنها هي السبب في ذلك.
الشكل يوضح دور الهواء الملوث في السماح للاشعاعات الضارة بدخول الغلاف الجوي لارض |
ولا يقتصر ضرر الغازات والضباب الدخاني على صحة الإنسان بل يمتد تأثيرها إلى النباتات حيث يترسب الدخان على أوراق النباتات فيسد مساماتها ويحد من نموها بشكل كبير. وإلى جانب حرق الوقود الأحفوري يوجد مصادر كثيرة تطلق غازات بأنواع وكميات مختلفة إلى الجو وقد تكون بعض أنواعها أكبر خطرا من الغازات الناتجة عن عمليات الاحتراق. فعمليات إنتاج عشرات الأنواع من المعادن من خاماتها والتي تكون على شكل مركبات كيميائية كالأكاسيد والنترات والكبريتات وغيرها تتم من خلال إجراء سلسلة عمليات كيميائية يعتمد تعقيدها على نوع المعدن المنتج وتنطلق أثناء هذه العمليات أنواع مختلفة من الغازات. أما المصدر الذي ينتج أنواع لا حصر لها من الغازات التي تلوث الجو فهو تصنيع المركبات الكيميائية من عناصرها الأساسية أو من مركبات كيمائية أخرى كما في مصافي البترول وصناعة البتروكيميائيات وصناعة الاسمنت والأسمدة والأدوية والمبيدات الحشرية والمواد المنظفة والمطهرة وصناعة الزجاج والبلاستيك والمواد الخزفية والمطاط وصناعة المواد المتفجرة وصناعة الأقمشة والصباغة والجلود وصناعة العطور ومواد التجميل ومزيلات العرق وغيرها الكثير.
لقد وجد العلماء أن أخطر هذه الغازات على النظام البيئي هي مركبات الكلور والفلور والتي يقدر ما يضخ منها إلى الجو سنويا ما يزيد عن مليون طن سنويا. وتكمن خطورة هذه المركبات في أنها خفيفة الوزن وتصل لطبقات الجو العليا بسهولة حيث توجد طبقة الأوزون البالغة الأهمية لحياة الكائنات الحية حيث يقوم الأوزون بامتصاص معظم الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس ولا يصل منها إلى الأرض إلا القدر القليل. فعند وصول هذه المركبات إلى طبقات الجو العليا تقوم الأشعة فوق البنفسجية بتحليلها لتنتج عناصر الكلور والفلور والتي تتحد على الفور مع جزيئات الأوزون لتنتج الأوكسجين وبهذا تقل كمية الأوزون في هذه الطبقات وتزداد كمية الأشعة فوق البنفسجية التي تصل إلى الأرض والتي تقوم بتدمير خلايا أجسام الكائنات الحية وتسبب في ظهور السرطانات في أجسامها وتقلل من كفاءة التركيب الضوئي في النباتات والطحالب والأخطر من ذلك إحداث تغييرات في الصفات الوراثية للكائنات مما يتسبب في ظهور كائنات حية بأجسام مشوهة.
إن التلوث الذي أصاب مياه الأرض لا يقل عن التلوث الذي أصاب جوها فجميع ما ينتجه البشر من مخلفات صلبة وسائلة وغازية سواء كانت سامة أم غير سامة فإن مصيرها عاجلا أم آجلا إلى خزانات وأنهار وبحيرات ومحيطات هذه الأرض. فما يصرف من نفايات بشكل مباشر إلى مياه الأرض يمكن حصره في نوعين رئيسين وهما الصرف الصحي والصرف الصناعي حيث يتم إلقاء جميع نفايات ومخلفات وفضلات المنازل والمكاتب والمصانع والورش إلى مياه البحيرات والبحار والمحيطات في المدن والقرى الساحلية أو إلى الأنهار والجداول في المدن والقرى الداخلية والتي مصيرها في النهاية إلى البحار والمحيطات. وتعتمد خطورة مواد الصرف على البيئة على نوع هذه المواد فأقلها خطورة مواد الصرف الصحي حيث تنقل مياه الصرف الصحي مخلفات البشر وفضلات الطعام والزيوت ذات التركيب العضوية والتي تقوم البكتيريا بتحليلها إلى عناصرها الأولية ولا خطر منها على البيئة. وتنقل مياه الصرف الصحي كذلك مساحيق الغسيل والمنظفات ومساحيق وزيوت التجميل وهي إما ذات تركيب كيميائي أو عضوي وفي الغالب يتم تحليل معظمها إلى عناصرها الأولية ولا خطر منها على البيئة.
إن المخلفات التي تنتجها المصانع بمختلف أنواعها والتي تلقيها في مياه الأنهار والبحار هي الأخطر على البيئة وذلك لأن معظم ما تنتجه هذه المصانع هي مواد كيميائية عالية الثبات لا يمكن تحليلها من قبل البكتيريا وحتى إذا ما تحللت بطريقة ما فإن عناصرها قد تكون مضرة بالبيئة أكثر مما لو بقيت على حالها ويسمى هذا النوع من التلوث بالتلوث الكيميائي. وتتنوع المواد الكيميائية التي تنتجها المصانع من حيث كمياتها وأنواعها وخطورتها تبعا لنوع الصناعة التي تنتجها فبعض المصانع تنتج مواد كيميائية شديدة السمية وعالية الثبات مثل المنظفات الصناعية والمذيبات العضوية ومركبات الفوسفور ومركبات العناصر الثقيلة كالزئبق والرصاص والزنك والزرنيخ والكادميوم وغيرها من المعادن. فعلى سبيل المثال فإن بعض المنظفات الصناعية عندما تلقى في الأنهار تكون طبقات سميكة من الرغوة التي تعزل مياه الأنهار عن الهواء وتحول دون امتصاص الأوكسجين فتموت الكائنات الحية التي فيها كالأسماك بسبب نقص الأوكسجين. ويعتبر التلوث بالزئبق الذي يستخدم في كثير من الصناعات من أخطر أنواع التلوث الكيميائي حيث أنه عنصر شديد السمية ويكفي تركيز بالغ الضآلة منه في الأنهار والبحار لتسميم الكائنات البحرية وكذلك الكائنات التي تعيش عليها كالإنسان والطيور. وقد اكتشف العلماء مشكلة التسمم بالزئبق في كثير من مناطق العالم وقد لاحظوا أن بعض الكائنات الحية التي تعيش في أماكن بعيدة من مصادر التلوث مصابة بهذا التسمم وذلك بسبب سلسلة الغذاء المعقدة حيث ينتقل الزئبق من كائن إلى كائن من خلال تغذي بعضها على بعض. ولقد وجد العلماء أيضا أن تركيز المواد السامة في أجسام الكائنات البحرية العليا كالحيتان والأسماك الكبيرة تزيد بألف مليون مرة عن تركيزه في ماء البحر التي تعيش فيه وذلك بسبب تراكم هذه المواد في أجسامها وأجسام الكائنات الأصغر منها التي تتغذى عليها.
وبما أن الإنسان يقع على رأس الهرم في التسلسل الغذائي فإنه الأكثر تضررا من هذه المواد السامة بسبب أكله لمختلف أنواع الكائنات البحرية والدليل على ذلك انتشار مختلف أنواع الأمراض بين البشر دون معرفة أسبابها كالسرطان والعقم والأمراض الجلدية والنفسية وغيرها.
ويعتبر البترول ومشتقاته من أخطر ملوثات مياه البحار والمحيطات حيث يتسرب من البترول مئات آلاف من الأطنان سنويا. ويحدث التسرب بطرق مختلفة كحوادث تحطم ناقلات النفط العملاقة التي تحمل الواحدة منها مئات الآلاف من الأطنان من البترول أو من آبار البترول البحرية أو عند تعبئة الناقلات بالبترول في الموانئ أو تفجر آنابيب البترول. ومن أسباب التسرب أيضا أن ناقلات النفط تقوم بتعبئة خزاناتها بكميات كبيرة من ماء البحر بعد تفريغ حمولتها من البترول وذلك للحفاظ على توازنها في رحلة العودة وعند وصولها لمنابع البترول تقوم بضخ هذا الماء بما يحمله من بقايا البترول إلى البحر وبما أن هذه العملية تتمم بشكل مستمر من قبل آلاف ناقلات النفط العملاقة فإن كميات لا بأس بها من البترول تتسرب سنويا إلى مياه المحيطات والبحار.
وبما أن البترول ومشتقاته أخف من الماء ولا يذوب فيه فإن كميات قليلة منه تغطي مساحات شاسعة من سطح البحر حيث يشكل طبقة رقيقة على السطح تحول دون دخول الأوكسجين إلى ماء البحر فتموت الكائنات الحية التي توجد تحت البقع الزيتية خنقا. ويعتبر الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط من أكثر بحار العالم تلوثا بالبترول بسبب وجود معظم منابع البترول في الخليج العربي وأن خط سير معظم ناقلات النفط يمر من خلال البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.
إن آثار هذا الفساد في بيئة الأرض بدأت بوادرها بالظهور فقد لاحظ العلماء من خلال دراسات كثيرة أن معدل درجة حرارة الأرض بدأ بالزيادة عن معدله الطبيعي وأن آثار هذه الزيادة على البيئة بدأت بالظهور بأشكال مختلفة. إن أحد نتائج ارتفاع درجة حرارة الأرض هو ذوبان جزء من طبقات الجليد التي تغطي القطب الشمالي والجنوبي للأرض مما سيرفع من منسوب مياه المحيطات والبحار وإغراق كثير من المدن الساحلية وسيؤدي ذوبان الجليد الذي يغطي قمم الجبال إلى تغير في مناسيب مياه الأنهار العظيمة إما بالزيادة أو النقصان. إن ذوبان جليد القطبين هو أبسط الآثار المتوقعة لظاهرة الاحتباس الحراري فالعلماء متخوفون من آثار أكبر من ذلك لا يمكن لدراساتهم وأبحاثهم التنبؤ بها لما في النظام البيئي من تعقيد وحساسية بالغة لبعض عوامله. فقد يؤدي ارتفاع معدل درجة حرارة الأرض إلى تحول شامل في مناخ هذه الأرض فيزداد التفاوت بين درجات الحرارة الدنيا والعليا في معظم مناطق العالم وتزداد شدة سرعة الرياح بسبب هذا التفاوت وتزداد أو ربما تقل معدلات تكون المنخفضات والمرتفعات الجوية ويزداد معدلات تكون الأعاصير والزوابع وتزداد شدتها وبالتالي قوة تدميرها.
وبسبب تفاوت درجات الحرارة ستتأثر إنتاجية الأشجار المثمرة والمحاصيل الزراعية وقد تتحول مناطق زراعية مهمة إلى صحارى أو العكس أو يصيب القحط مناطق كبيرة من الأرض فيقل طعام وشراب الإنسان وبقية الكائنات الحية فيتحقق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تُمطِر السماء ولا تنبت الأرض).
أما أخطر أنواع الفساد في النظام البيئي فهو زيادة أنواع الكائنات الحية المعرضة للانقراض بسبب السطو الجائر على كثير من الكائنات الحية أو السطو على أماكن سكناها أو تلويثها بمختلف أنواع المواد الكيميائية أو الإشعاعية. ولقد تنبأت كثير من الأحاديث النبوية بحصول مثل هذا الاختلال البيئي في آخر الزمان وربما انهياره بشكل كامل وانتهاء ظاهرة الحياة على الأرض. فقد جاء في كتاب الفتن لنعيم بن حماد: حدثنا عبيد بن واقد القيسي عن محمد بن عيسى الهذلي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “خلق الله تعالى ألف أمة ستمائة في البحر وأربع مائة في البر وأول شيء من هذه الأمم هلاكا الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه”
المراجع
1- القرآن الكريم 2- تفسير القرطبي 3- التلوث مشكلة العصر، تأليف الأستاذ الدكتور أحمد مدحت إسلام، عالم المعرفة،1990م. 4- الإنسان والطبيعة، تأليف جان ميري بيلت، ترجمة محمد عثمان، عالم المعرفة 1994.
للتواصل مع الكاتب: [email protected]
لمزيد من المقالات للكاتب: http://mansourabbadi.maktoobblog.com/