إبداع الفـتـاح في تصريف الريـاح (1)

موجز:
لما كانت الرياح العنيفة ذات آثار تدميرية خطيرة, وتهبّ دون سابق إنذار, وتأتي من جهات قد لا يتوقعها الإنسان, انتشرت في الأمم البائدة اعتقادات خرافية عن الرياح, لدرجة أن بعضهم قدّسها واعتقد بوجود آلهة خاصة بالرياح والعواصف…!!
ولما نزل القرآن الكريم, صحّح كافة المعتقدات الخاطئة, ووجّه الناس إلى عبادة الله الإله الواحد الأحد العظيم الخالق المدبّر.. وكان ممّا صحّحه القرآن الكريم معتقدات الأمم السابقة حول الرياح, فأكدت الآيات القرآنية أن الرياح مخلوقات مسخرة، شأنها شأن كافة المخلوقات في هذا الكون, مطيعة لأمر الله تعالى, بل هى جُند من جنود الله, جند للخير والرحمة والجزاء الحسن, وجند للعقاب والعذاب والهلاك جزاء التمرد والعصيان…أيْ بحسب ما يستحقه البشر وبما تقترفه أيديهم…!! أما “الدورة العامــة للريـــاح” على سطح الكرة الأرضية, فهى نظام حركة الرياح وتوجّهاتها وتوزيعها, وهو ما عبرّ عنه القرآن الكريم بـمصطلح “تصريف الرياح”, وهو مصطلح أدق من ألفاظ أخرى شائعة بين أهل الاختصاص العملي, كألفاظ “دورة” أو “نظام حركة” أو “توزيع” أو ما شابهها. وقد ورد “تصريف الرياح”- صراحة – في آيتين بالقرآن الكريم، هما الآية (164) من سورة البقرة، والآية (5) من سورة الجاثية: “… وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)” (سورة الجاثية)، ويدور اللقاء الحالي حول الآية القرآنية الأخيرة، وهى وإن كانت الآية الأساسية، فلسوف نذكر آيات قرآنية أخر عن حديثنا عن أنواع وأنماط الرياح المختلفة… وندخل الآن إلى التفصيلات…
يختص اللقاء الحالي بموضوع “الدورة العامــة للريـــاح” على سطح الكرة الأرضية, أو دورة الرياح بصفة عامة (سواء كانت دورة عامة أم نسبية أم محلية), وهذه الدورة العامة هي نظام حركة الرياح وتوجّهاتها وتوزيعها, وهو ما عبرّ عنه القرآن الكريم بـمصطلح “تصريف الرياح”, وسنعرف بعد قليل أن لفظة “تصريف” أدق من ألفاظ أخرى شائعة عند علماء الأرصاد الجوية, كألفاظ “دورة” أو “نظام حركة” أو “توزيع” أو ما شابهها. وقد ورد “تصريف الرياح” في آيتين بالقرآن الكريم، هما الآية (164) من سورة البقرة، والآية (5) من سورة الجاثية…
أما الآية التي نعيش في رحابها الآن فهى قول الله تعالى: “وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)”[سورة الجاثية]. وهكذا ذكرت الآية من نعم الله تعالى على الإنسان: اختلاف الليل والنهار, إنزال الماء (المطر) من السماء, تصريف الرياح… وهى بعض النعم التي اشتملت عليها آية سورة البقرة في قول الله تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)” [سورة البقرة] , وانتهت هذه الآية- كما انتهت آية سورة الجاثية- بقول الله تعالى “لقوم يعقلون”, وفيه أمر واضح لعمل العقول الواعية في تدبّر الأحداث المرافقة لهذه النعم العظيمة.. العقول التي لا تقف عند حدّ التأمل, بل تدخل في الدراسة العملية والبحث العلمي, لاستخراج بعض الكنوز التي تزخر بها هذه الآية الكريمة، وبما يعود على الإنسان بالنفع والفائدة…
وبالرغم من أن آية سورة البقرة قد اشتملت على النعم الواردة في آية الجاثية وزيادة, إلاّ أننا اخترنا آية الجاثية لنعيش في رحابها هذه الدقائق, بل وسوف نركز فيها على نعمة واحدة فقط هى “تصريف الرياح”…
“التصريف” عند اللغة:
عند أهل اللغة, نبدأ بالخليل أبو أحمد الفراهيدي (ت 173هـ) الذي يقول (في “معجم العين”):… وقد وردت أصول هذه الكلمة في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة تفيد كلها معنى التحويل والتغيير والانتقال… وتصريف الآيات تبيينها, وفي الدراهم والبياعات إنفاقها, وفي الكلام اشتقاق بعضه من بعض, وفي الرياح تحويلها من وجه إلى وجه… وعند الراغب الأصفهاني (ت 425 هـ) (في “معجم ألفاظ القرآن الكريم”): الصرف: ردّ الشيء من حالة إلى حالة، أو إبداله بغيره، يقال: صرفته فانصرف. قال تعالى: “ثم صرفكم عنهم (152)” [سورة آل عمران]، وقال: “ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم (?” [سورة هود]… والتصريف كالصرف إلا في التكثير، وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حالة إلى حالة… وتصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال… ثم يأتي ابن منظور (ت 711 هـ) ليقول (في “لسان العرب”): الصَّرْفُ: رَدُّ الشيء عن وجهه، صَرَفَه يَصْرِفُه صَرْفاً فانْصَرَفَ… وتَصارِيفُ الأُمورِ: تَخالِيفُها، ومنه تَصارِيفُ الرِّياحِ والسَّحابِ، وكذلك تصريفُ السُّيُولِ والخُيولِ والأُمور والآيات…
“التصريف” عند المفسرين:
تناول المفسرون الأجلاء “تصريف الرياح” الوارد في آية سورة الجاثية, كما تناولوا “تصريف الرياح” الوارد في آية سورة البقرة, وسنرجع إلى تفاسير آية الجاثية أولا, فإذا عثرنا على إضافات في تفاسير آية البقرة فسوف نشير إليها…
عند قول الله تعالى: “وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ”، في آية سورة الجاثية، يقول ابن جرير الطبري (ت 310 هـ)(في تفسيره “جامع البيان في تفسير القرآن”): … وفي تصريفه الرياح لكم شمالا مرّة، وجنوبا أخرى، وصبًّا أحيانا، ودَبُورا أخرى لمنافعكم. وقد قيل: عنى بتصريفها بالرحمة مرّة، وبالعذاب أخرى… وسبق أن قال الطبري ذاته، في سورة البقرة: ” وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ”، تصريف الله إياها أن يرسلها مرة لواقح، ومرة يجعلها عقـيـما، ويبعثها عذابـاً تدمر كل شيء بأمر ربها… ثم قال: وذلك تصريفها، وهذه الصفة التـي وصف الرياح بها صفة تصرّفها لا صفة تصريفها، لأن تصريفها تصريف الله لها، وتصرّفها اختلاف هبوبها. وقد يجوز أن يكون معنى قوله: “وَتَصَرْيفِ الرّياحِ”: تصريف الله تعالـى هبوب الرياح بـاختلاف مهابِّها (يعني الجهات التي تهبّ منها).
أما جار الله الزمخشري (ت 538 هـ) فيقول (في تفسيره “الكشاف”):… والمعنى: إنّ المنصفين من العباد إذا نظروا في السمٰوات والأرض النظر الصحيح، علموا أنها مصنوعة، وأنه لابدّ لها من صانع، فآمنوا بالله وأقرّوا… فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بها بعد موتها، “وَتَصْرِيفِ ٱلرّيَاحِ” جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً: عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم… وسبق للزمخشري أن قال في آية سورة البقرة: “وَتَصْرِيفِ ٱلرّيَاحِ” في مهابها: قبولاً، ودبوراً، وجنوباً، وشمالاً. وفي أحوالها: حارّة، وباردة، وعاصفة، ولينة. وعقماً، ولواقح. وقيل تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب…
وأما الفخر الرازي (ت 606 هـ) فيقول (في تفسيره “مفاتيح الغيب”)(وهو التفسير القديم الزاخر بتفصيل الآيات الكونية): … وَ”تَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ”، وهى تنقسم إلى أقسام كثيرة بحسب تقسيمات مختلفة، فمنها المشرقية والمغربية والشمالية والجنوبية، ومنها الحارة والباردة، ومنها الرياح النافعة والرياح الضارة. ولما ذكر الله تعالى هذه الأنواع الكثيرة من الدلائل قال إنها آيات “لقوم يعقلون”… ويفرّق الرازي بين ذكر هذه الدلائل الكونية في آية الجاثية (وعددها ستة دلائل) وذكرها في آية البقرة (وعددها ثمانية دلائل)… وينعي الرازي على من يهملون الدلائل الكونية في القرآن الكريم ولا يكترثون بدراستها، فيقول: واعلم أن كثيرا من الفقهاء يقولون إنه ليس في القرآن العلوم التي يبحث عنها المتكلمون، بل ليس فيه إلا ما يتعلق بالأحكام والفقه، وذلك غفلة عظيمة لأنه ليس في القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام وفيه سور كثيرة (خصوصا المكيات) ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوّة والبعث والقيامة، وكل ذلك من علوم الأصوليين… و”تصريف الرياح” الوارد بسورة البقرة، يصنفها الفخر الرازي في النوع السابع من الدلائل الكونية على وجود الله تعالى، فيقول: وفيه مسائل: المسألة الأولى: وجه الاستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف، وهو الرقة واللطافة، ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات… وأما قوله تعالى: (لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فإنما خصّ الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه، والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره، وما يلزم عبادته وطاعته…
ويأتي ابن كثير (ت 774 هـ) فيقول (في تفسيره “تفسير القرآن العظيم”):… وقوله عز وجل: “وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَـٰحِ”، أيْ: جنوباً وشمالاً، ودبوراً وصباً، برية وبحرية، ليلية ونهارية. ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح، ومنها ما هو غذاء للأرواح، ومنها ما هو عقيم لا ينتج… وفي “تصريف الرياح” الواردة بسورة البقرة، يقول ابن كثير: أي تارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه. ثم تارة تأتي من الجنوب وهى الشامية، وتارة تأتى من ناحية اليمن، وتارة صبا، وهى الشرقية التي تصدم وجه الكعبة، وتارة دبورا، وهى غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتباً كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها، وبسط ذلك يطول ههنا، والله أعلم..
وفي تفسيره “الدر المنثور في التفسير بالمأثور” يورد جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) نصوصا في أنواع الرياح، فيقول – عند تفسيره لتصريف الرياح في سورة البقرة: … أخرج أبوعبيد وابن أبي الدنيا (في كتاب المطر) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ (في العظمة) عن ابن عمرو قال: الرياح ثمان: أربع منها رحمة، وأربع عذاب، فأما الرحمة فالناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذاريات. وأما العذاب فالعقيم، والصرصر وهما في البر، والعاصف، والقاصف، وهما في البحر.. وأخرج أبو الشيخ عن عيسى ابن أبي عيسى الخياط قال: بلغنا أن الرياح سبع: الصبا، والدبور، والجنوب، والشمال، والخروق، والنكباء، وريح القائم.
وممن تنبه من المفسرين إلى تأخير “تصريف الرياح” عن إنزال الماء من السماء، إسماعيل حقي البروسوي (ت 1127 هـ)، وكان مما قاله في تفسيره “روح البيان في تفسير القرآن”:.. وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود: إما للإيذان بأنه آية مستقلة ، حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توُهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن فئ البحار…
ومن المفسرين المحدثين محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ)، ففي تفسيره “التحرير والتنوير” لم يتحدث عن “تصريف الرياح” في سورة الجاثية، ربما لأنه قد تحدث عنها في سورة البقرة حين قال: وقوله تعالى: “وتصريف الرياح” من آيات وجود الخالق وعظيم قدرته، لأن هبوب الريح وركودها آية، واختلاف مهابِّها آية، فلولا الصانع الحكيم الذي أودع أسرار الكائنات لما هبّت الريح أو لما ركدت، ولما اختلفت مهابُّها، بل دامت من جهة واحدة، وهذا موضع العبرة… وقد حاول ابن عاشور – بحسب ما توفر لديه من معلومات – أن يشرح كيفية (آلية) حدوث الرياح … ثم انتقل إلى قوله: وقد اختير التعبير بلفظ “التصريف” هنا دون ألفاظ أخرى، نحو لفظ التبديل أو لفظ الاختلاف، لأنه اللفظ الذي يصلح معناه لحكاية ما في نفس الأمر من حال الرياح، لأن “التصريف” تفعيل من الصرف للمبالغة، وقد علمت (يقصد من محاولته لشرح حدوث الرياح) أن منشأ الريح هو صرف بعض الهواء إلى مكان وصرف غيره إلى مكانه الذي كان فيه، فيجوز أن تقدر: وتصريف الله تعالى الرياح، وجعل التصريف للريح مع أن الريح تكوَّنت بذلك التصريف لأنها تحصل مع التصريف فهو من إطلاق الاسم على الحاصل في وقت الإطلاق…
وإلى اللقاء مع (أنماط الرياح في القرآن الكريم)، و (تصريف الرياح في منظور علم الأرصاد الجوية)…
***


الوسوم:

مقالات ذات صلة