سؤال بخصوص تطور الإنسان
الخميس/ديسمبر/2019
وردنا السؤال التالي من الأخ عادل سلطاني:
ماذا نستطيع ان نقول حول ما نراه في التلفاز او ما نقرؤه في المجلات العلمية المتخصصة حول وجود بشر يعود تاريخهم الى مئات الألوف او ملايين السنين؟ و هل وجدوا قبل ادم عليه السلام ؟ و هل هناك خطر على عقيدة المسلم من هذه الاشياء؟ شكرا و السلام عليكم
أجاب عليه مشكورا فضيلة الدكتور محمد دودح:
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
وبعد: مستعينا بالله العلي القدير أجيب على مقولة التطور ذاتيا بفعل الطبيعة بلا تقدير والعثور على هياكل أشباه الإنسان سائله تعالى التوفيق والسداد: ارتبط موضوع أصل الحياة والإنسان في تاريخ العلوم بالداروينية نسبة إلى دارون في كتابه “أصل الأنواع” الذي صدر في منتصف القرن التاسع عشر وقال فيه بتطور أنواع الأحياء بآليات افترضها مضمونها الصدفة، وخالفته الكشوف العلمية لاحقا، فغير أنصاره الملامح تحت اسم الداروينية الجديدة مع استمرار الحفاظ على مضمون الصدفة، ولكن التدرج والتنويع ليس بالضرورة تطورًا، وكل ميادين العلم ترفض فلسفة الحدوث ذاتيا صدفة مهما كانت كيفية تقدير الخلق كما يكشفها البحث.
وقد أعلن مندل عن اكتشاف قوانين الوراثة عام 1865 فمهد لولادة علم الوراثة Genetics في أوائل القرن العشرين، وقبل نشوء علم الوراثة ومعرفة دور الجينات في الحفاظ على صفات النوع وراثيًا رأى لامارك Lamarck عام 1809 أن أفراد الكائنات الحية تنقل السمات التي اكتسبتها في حياتها إلى الأبناء، فالزرافة مثلا تطورت عن طريق إطالة أعناقها شيئاً فشيئاً عندما كانت تحاول الوصول إلى الأغصان الأعلى، ولم يدرك دارون كذلك آلية الحفاظ على توريث صفات النوع وإن تنوعت الأفراد فافترض تغيره ذاتيا صدفة لأسباب خارجية عزاها إلى الطبيعة، ولكنها لا تمتلك إرادة واعية لتقرر ما ينفع وتنسق العمل بين الأعضاء وبين الذكر والأنثى فلا بد إذن من قوة عليا مدبرة، ومن المسلمات عند العقلاء أن البيت المرتب الأثاث لا يبني نفسه وينظم أثاثه ذاتيا، وأنه لا بد من إرادة واعية بنته ورتبته، ولكن الفلسفة المادية Materialism أفرزت نظرية التطور عام 1859 مخالفة أبسط المسلمات عندما ادعت افترضت الفوضى Chaos صانعة للنظام، وأن الترتيب يمكن أن يوجد ذاتيا صدفة، فجوهرها في تفسير معجزة تنوع الأحياء هو إبداعات الصدفة، ولذا من الأولى كشف القناع بتسميتها “نظرية الصدفة”، ولكن أدى اكتشاف تركيب الحمض النوويDNA البالغ التعقيد ليحافظ على سمات أسلاف كل نوع ويورثها للنسل إلى نقض قواعد نظرية دارون من الأساس، ومع ذلك استمر ترويجها مما يعكس غرضا عقائديا أكثر من كونها اهتمامات علمية بحتة.
وتدّعي الداروينية Darwinism أن الحياة بدأت بخلية تكونت صدفة من مركبات غير عضوية في ظروف أولية للأرض، ولكن لم ينجح أبداً أي شخص في تكوين تركيب خلوي واحد من مواد بسيطة ولا حتى في أكثر المختبرات تطوراً، والخلية أكثر تعقيدا وروعة في أداء وظائف الحياة مما كان يظن دارون في القرن التاسع عشر، فهي تحتوي على محطات لتوليد الطاقة ومصانعَ مدهشة لإنتاج الإنزيمات والهرمونات اللازمة للحياة ونظم نقلٍ وخطوطَ أنابيب معقدة لنقل المواد الخام والمنتجات ومختبرات بارعة ومحطات تكرير تحلل المواد الخام إلى أجزائها الأبسط وبروتينات حراسة متخصصة تغلف أغشية الخلية لمراقبة المواد الداخلة والخارجة وبرنامج بالمعلومات الضرورية لتنسيق الأعمال في وقتها، فهل يُبني هذا كله ذاتيا صدفة!.
وقد رأى البعض بحساب الاحتمالات أنه أيسر لقرد يعبث بمفاتيح آلة كاتبة أن يصنع قصيدة صدفة من صنع بروتين واحد صدفة فما بالك بالنظام والتخطيط والتصميم البديع الذي نراه في كل الكائنات الحية وجميع التكوينات في الكون أجمعه، ووفق الموسوعة العلمية البريطانية فإن اختيار كل الأحماض الأمينية Amino Acids وهي أساس تكوين البروتينات لتكون عسراء الاتجاه صدفة بلا تدخل واع أشبه بقذف عملة معدنية في الهواء مليون مرة والحصول دائماً على نفس الوجه!.
ونشأة خلية حية واحدة من ذاتها يعد احتمالا مستحيلا مثل احتمال قيام قرد بكتابة تاريخ البشرية كله على آلة كاتبة بلا أخطاء، ويعني هذا أن خلية حية واحدة تتحدى مقولة الصدفة، وقد بين السير فِرِِد هويل Sir Fred Hoyle في مقالة نشرت عام 1981 أن احتمال ظهور أشكال الحياة صدفة يقارن بفرصة قيام سيل يمر بساحة خردة بتجميع طائرة بوينج 747 صالحة للطيران، والنتيجة التي يقود إليها العلم والمنطق وليس الإيمان فحسب هي أن كل الكائنات الحية قد جاءت بتخطيط واعٍ وقصد أكيد، ومن يظل معتقدا في عصرنا بالفلسفة المادية بعدما دحضها العلم في مجالات علمية شتى عليه ألا يحسب نفسه من المحققين، قال ماكس بلانك: “ينبغي على كل من يدرس العلم بجدية أن يقرأ العبارة الآتية على باب محراب العلم: (تَحلَّى بالإيمان)”، وقال الدكتور مايكل بيهي: “على مدى الأربعين سنة الماضية اكتشف علم الكيمياء الحيوية.. أسرار الخلية، وقد استلزم ذلك من عشرات الآلاف من الأشخاص تكريس أفضل سنوات حياتهم.. وقد تجسدت نتيجة كل هذه الجهود المتراكمة.. لدراسة الخلية.. في صرخة عالية واضحة حادة تقول: التصميم المبدع! والتصميم الذكي المبدع يؤدي حتماً إلى التسليم بوجود الله”.
والتبصر في النباتات والحشرات والطيور والأسماك وحيوانات البر وهي غافلة عنه يعني وجود توجيه وقصد لم تفرضه ضرورة وإنما أملته إرادة عليا تعلم بكل شيء فأعدت للحدث قبل وقوعه، فأقدام البط تمتلك غشاء منذ خروجه من البيض وليس وليد محاولة العوم، والثدي يمتلئ بلبن سميك Colostrum قبيل ولادة الجنين وكأنه على علم مسبق بموعد الولادة، وقد “وصف تشاندرا كراماسنغي الحقيقة بقوله: “تعرض دماغي لعملية غسيل هائلة كي أعتقدَ أن العلوم لا يمكن أن تتوافق مع أي نوع من أنواع الخلق المقصود.. (ولكني الآن) لا أستطيع أن أجد أية حجة عقلانية تستطيع الوقوف أمام وجهة النظر المؤمنة بالله.. الآن ندرك أن الإجابة المنطقية الوحيدة للحياة هي الخلق وليس الخبط العشوائي غير المقصود”، والوظائف المحددة لكل تركيب خلوي وانسجام كل عضو مع مثيله وتناسب كل زوج مع بيئته ونظيره هو عند النابهين مهما كانت الكيفية دليل أكيد على الخلق والتوجيه، وهذا ما يعلنه القرآن الكريم: “سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ. الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ. وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ” [الأعلى:1-3].
وقد افترض داروين صراعاً قاسياً من أجل البقاء في الطبيعة تزول معه أشكال ضعيفة لم تتكيف مع بيئتها تتولد ذاتياً دوماً، وتبقى أخرى نجحت الصدفة في إبداعها بطريقة أحكم، وبذلك يكون التطور سلسلة من المنتخبات تميزت فيها الأنواع عبر حلقات وسيطة عديدة، ولذا كان العنوان الكامل لكتابه الأول الذي نشر عام 1859 واشتهر باسم “أصل الأنواع” هو: “أصل الأنواع بواسطة الانتقاء الطبيعي، أو الحفاظ على الأجناس المفضلة في الصراع من أجل الحياة The Origin of Species by Means of Natural Selection or the Preservation of Favored Races in the Struggle for life”، ولكن علم الأحافير قد قدم ضربات أليمة لفرضية دارون فقد استنفذ الجهد ولم يعثر على أي حلقة وسيطة قط، وفعل علم الأحياء نفس الشيء ولم يعثر على كائن واحد قط من أصغر خلية إلى أكبر حيوان غير متكيف مع بيئته تشريحيا ووظيفيا وسلوكيا, وأما ما ينشر من وجود كائنات وسيطة تسبق الإنسان الحالي أو تقدم على أنها حلقات وسيطة بين الإنسان والقرد اعتمادا على وجود فك أو عظمة أو حتى هيكل كامل يماثل الهيكل البشري؛ فهي لا تعدو أن تكون مجرد تخمينات وإن سموه بأسماء مميزة مثل إنسان بلتداون أو إنسان الصين وما شابه, فلم يثبت بشكل يقيني أنها ليست آثار لهياكل قبائل بشرية يمكن الحصول على أمثالها من مقابر القبائل التي مازالت تعيش شبه منعزلة إلى اليوم في مجاهل أفريقيا مثلا.
وفي كتابه الثاني “سلالة الإنسان The Descent of Man” قدم دارون عام 1871 مزاعم حول تطور الإنسان من كائنات شبيهة بالقرود، فبدأ البحث والتنقيب ليس عن متحجرات فحسب بل عن سلالات بشرية حية تمثل الحلقات الوسيطة، فقام أحدهم عام 1904 في الكونغو باصطياد رجل أفريقي متزوج ولديه طفلان، وبعد تقييده بالسلاسل ووضعه في قفص كالحيوان نُقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم عرضه على الجمهور في إحدى حدائق الحيوان تصحبه بعض القردة بوصفه أقرب حلقة انتقالية للإنسان الغربي الأبيض، وأخيرا انتحر الرجل المسالم الذي كان يسمى بلغته المحلية أوتا بينجا Ota Benga بمعنى الصديق، وليس من قبيل الصدفة أن يُكتب في بروتوكولات حكماء صهيون العبارة التالية: “لاحظوا هنا أن نجاح دارون Darwin.. قد رتبناه من قبل والأمر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي (غير اليهودي) سيكون واضحاً لنا على التأكيد” (بروتوكولات حكماء صهيون، البروتوكول الثاني) والزعم بصراع حضارات الأجناس البشرية ليس إلا غرضا استعماريا يتخفى بعباءة علمية زائفة ومضمونه تمييز عنصري، وهو جد الزعم بالإنسان الأمثل Superman سليل الإنسان الأبيض أو اليهود الذي يسود وتنقرض بقية الشعوب أو تصبح له عبيد، وما زالت البشرية تدفع ثمنا باهظا نتيجة لهذه الأفكار الزائفة التي جعلت دولا معاصرة تمارس همجية الغاب بادعاءات كاذبة.
قال الدكتور أحمد أبو خطوة: “نحن كمسلمين لا نتفق إجمالا مع نظرية التطور إن لم تُدخل في اعتبارها القدرة والمشيئة الإلهية”, واكتفى بعض الفضلاء برفض الصدفة وتوقفوا في إمكان الأطوار المقدرة فوافقوا نظريات حديثة تفسر التطوير إن صح بالتقدير كمقولة التطور الموجه بوعي Rational Directed Evolution وتجنبوا الخوض فيما لم يفصل فيه العلم بعد بدليل، فجاء في فتاوى الأزهر:
“ورد أن اللّه خلق الإنسان نوعا مستقلا لا بطريق النشوء والاشتقاق من نوع آخر، وإن كان كلا الأمرين من الجائز العقلي الذي يدخل تحت قدرة اللّه تعالى..، (و) لا يوجد في النصوص أن الله خلق الإنسان الأول من تراب دفعة واحدة أو بتكوين متمهل على انفراد فسبيل ذلك التوقف وعدم الجزم بأحد الأمرين حتى يقوم الدليل القاطع عليه فنعتقده ما دام الذي فعل ذلك كله هو الله تعالى..، ولا حرج في اعتقادها ما دام الله هو الذي خلقها ووجهها، فهي لا تحقق وجودها من نفسها: “ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ” [الأنعام:102]، فهو خالق المادة والنواميس” (فتاوى الأزهر ج7ص399.). والله تعالى أعلم.
ترسل تعليقاتكم واستفساراتكم على الإيميل التالي: