الإعجاز الغيبي في حديث: “إذا تبايعتم بالعِينة” – قراءة في السنن النبوية والتحقق التاريخي

الجمعة/يوليو/2025
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال:
“إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلّاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم.”
📚 رواه أبو داود (رقم: 3462) وقال الألباني: حديث حسن صحيح في “صحيح الجامع” (رقم: 423).
🔸 شرح مفردات الحديث:
1. “تبايعتم بالعِينة”
العِينة: نوع من البيوع المحرّمة، وهي صورة من الربا المغلّف بالحيلة، بأن يبيع الرجل سلعة بثمن مؤجَّل، ثم يشتريها من المشتري نفسه نقدًا بأقلّ من الثمن، فيكون الأمر قرضاً بربا متستّر بصورة بيع.
🔹 (المصدر: الدرر السنية – المعاملات الربوية).
2. “وأخذتم أذناب البقر”
أي اشتغلتم برعي البقر والالتحاق بها في الحقول من أجل الزرع.
و”أذناب البقر” كناية عن الاشتغال الزائد بالزراعة وتربية الماشية، بطريقة تشغل صاحبها عن الواجبات الكبرى، خصوصًا الجهاد في سبيل الله.
✅ هذه العبارة لا تُذم الزراعة أو تربية البقر بذاتها، فهما من الأعمال المباحة، بل يُذم فيها الركون إليها والانشغال بها عن فروض الدين الكبرى.
📌 قال الإمام السندي في حاشيته على سنن ابن ماجه:
“المراد الملازمة لها، والانشغال بها عن المهمات الدينية، لا مجرد الاشتغال بها”.
📌 وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في “جامع العلوم والحكم”:
“وإنما ذمَّ التعلق بالزرع ورعي البقر واتباع أذنابها لأن ذلك يكون عند الركون إلى الدنيا والإعراض عن الجهاد”.
3. “ورضيتم بالزرع”
أي جعلتم همّكم طلب الدنيا وتحقيق المكاسب، ورضيتم أن تكون معيشتكم محصورة في الزرع والمكاسب الدنيوية، دون نظر للآخرة أو العمل للإصلاح.
4. “وتركتم الجهاد”
أي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق، وهو ذروة سنام الإسلام.
5. “سلّط الله عليكم ذلًّاً
أي أن ترك الجهاد والانغماس في الدنيا، والركون إلى الحلال والمباحات حتى تلهي عن الدين، يكون سبباً في وقوع الذل والهوان على الأمة، عقوبة من الله تعالى.
6. “لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”
أي أن هذا الذل لا يُرفع إلا بالتوبة الصادقة والرجوع الحقيقي إلى الدين، لا بمجرد الشعارات أو المظاهر.
📌 دلالة “اتبعتم أذناب البقر”:
🔸 تصوير بلاغي لانشغال المرء بالدنيا في أدنى صورها، حتى إنه يكون خلف البقر يتبعها كعبدٍ لها، مشغول بمؤخرتها، وهذا أذل وأحطّ صورة تشغله عن معالي الأمور.
🔸 تُشير إلى الركض وراء تحصيل الرزق المادي على حساب المهام الإيمانية والمجتمعية.
🔸 في السياق الزراعي القديم، كان الراعي أو الفلاح يمشي خلف البقر طوال اليوم في الحرث والسقي، ما يعني انشغالاً تاماً بالحياة المادية.
🔸 الحديث ليس ذمّاًَ للمزارعين، بل هو ذم للانغماس بالدنيا وترك الجهاد والعمل للدين، فلو اشتغل الإنسان بالزراعة لكن حافظ على دينه وجهاده وأولوياته، فلا حرج.
✅ الإعجاز الغيبي في الحديث النبوي:
1. 🔮 الإخبار المسبق بانقلاب أولويات الأمة
تنبأ النبي ﷺ بانشغال المسلمين بالماديات (الزراعة، التجارة، الرزق) على حساب الواجبات الكبرى، في وقت لم يكن ذلك ظاهراً في زمنه، بل ولا في عصر الخلفاء الراشدين، وهذا ما وقع في العصور المتأخرة.
2. ⚠️ التحذير من نوع معين من المعاملات الربوية
ذكر “العينة” تحديدًا، وهي صورة ربوية مُقنّعة، أصبحت شائعة جداً في زماننا تحت أسماء:
التمويل بالتورق، القروض الإسلامية، البيع وإعادة الشراء… إلخ.
وهذا يدل على علمٍ إلهي بمكر الناس لتحليل الحرام باسم الحلال.
3. 🐂 التصوير البلاغي المستقبلي لـ «اتباع أذناب البقر»
فيه تشبيه رمزي بديع لحالة الناس في المستقبل:
اتباع الدنيا بذلّ وتفرغ تام،
صورة للانغماس في المعاش والوظيفة والاستهلاك المادي.
وهو ما نراه اليوم واقعًا في المجتمعات الحديثة المنغمسة في الاستهلاك المادي.
4. 🧭 الربط السببي السنني الدقيق
ترك الجهاد نتيجته الذل
لا يرتفع الذل إلا بالعودة إلى الدين
وهذا من سُنن الله التي لا تتبدّل، وقد ظهر هذا الواقع بجلاء في زماننا.
5. 🌍 تحقق مظاهر الذل كما تنبأ بها النبي ﷺ
منذ قرون وحتّى اليوم، الأمة الإسلامية تمرّ بمراحل:
احتلال أرضي
تحكم أجنبي بالقرار السياسي
إضعاف عسكري واقتصادي
تفكك مجتمعي
كلها تحققت بدقة مذهلة مطابقة للحديث.
6. 🔁 استمرار الذل وعدم زواله
قال ﷺ: “لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”
وهو إعجاز إضافي، حيث لا تزال الأمة في حالة هوان، وهو دليل أننا لم نرجع بعد إلى الدين الرجوع الحقيقي الشامل، بل رجعنا جزئياً أو شكلياً فقط.
7. 🧠 الإشارة إلى طبيعة مرض الأمة
الحديث يصف ليس فقط السلوك الظاهري (الزرع، الرعي، البيع)، بل مرضاً نفسيًا وسلوكياً عميقاً:
الركون إلى الراحة
ترك التضحية
حب الدنيا
كراهية الموت
وهذه كلها خصال خفية لا يدركها إلا نبيّ يوحى إليه.