نقص أم حكمة؟ لماذا قلّ الحديد في حليب الأم؟

 
الأربعاء/يونيو/2025
   

رُبّ تساؤلٍ عن القلّة يكشف عن وفرةٍ في الحكمة. ولعلّ ما يبدو نقصاً في تركيب حليب الأم هو في الحقيقة تصميم إلهي بالغ الإتقان، يتكشّف بالتأمل في ضوء العلم والإيمان.
القلّة ليست دوماً عيباً
حين نقارن حليب الأم بالحليب الصناعي أو الأغذية المدعّمة، نلاحظ أن محتواه من الحديد منخفض بوضوح، إذ لا يتجاوز 0.3 إلى 0.5 ملغ/لتر.[1] للوهلة الأولى، يبدو ذلك نقصًا، خاصة أن الحديد عنصر أساسي لنمو الرضيع وتطوّر جهازه العصبي. لكنّ المفاجأة أن الجسم يمتصّ الحديد الموجود في حليب الأم بمعدل يفوق 50%، بينما لا تتجاوز النسبة 10% في الحليب الصناعي.[1][2]
هنا يبدأ التوازن في الظهور: ليس المهم حجم ما يُعطى، بل مدى استفادة الجسم منه.
حين يبدأ التخطيط قبل الولادة
الله عزّ وجل لم يترك الرضيع يتكفّل حاجته من الحديد من الرضاعة فقط، بل دبّر له الأمر قبل أن يولد. ففي الثلث الأخير من الحمل، ينقل جسم الأم الحديد إلى جنينها عبر المشيمة، ليكوّن مخزونًا يكفيه حتى عمر 4 إلى 6 أشهر.[3]
إذاً، لم يكن الحديد المفقود من الحليب نقصًا، بل هو مأخوذ بالحسبان مسبقاً ضمن تصميم إلهي دقيق، يراعي ما يحتاجه الوليد في مراحله الأولى.
الحديد سلاح ذو حدّين
نعلم من علم الأحياء الدقيقة أن الحديد لا يخدم الإنسان وحده، بل تتغذّى عليه أيضاً البكتيريا والجراثيم. والجهاز الهضمي للرضيع، في أشهره الأولى، لا يزال هشاً وضعيف المناعة. لذا، فإن تقليل الحديد في حليب الأم يقلّل من فرص نمو البكتيريا الضارة في أمعاء الطفل، ويقلّص خطر الالتهابات المعوية.[4]
وهكذا، يبدو تقليل الحديد وكأنه درع وقائي يحيط بالرضيع في أكثر فترات حياته هشاشة.
معجزة الامتصاص في الحليب الطبيعي
لكن كيف يُعوّض الجسم هذه الكمية القليلة؟ الإجابة تكمن في تركيبة حليب الأم الفريدة. إذ يحتوي على بروتين اسمه اللاكتوفيرين، يرتبط بجزيئات الحديد ويُسهّل امتصاصها داخل أمعاء الطفل.[5]
إضافةً لذلك، يخلو حليب الأم من مثبطات الامتصاص مثل الفيتات والتانينات الموجودة في بعض الأغذية الأخرى، ما يجعل استفادة الرضيع من الحديد شبه مثالية.
إذن، القلّة هنا ليست تقصيراً، بل اقتصاداً مع فاعلية قصوى.
وحين يبلغ الرضيع ستة أشهر
عند هذا العمر، يبدأ مخزون الحديد المتكوّن قبل الولادة بالتناقص، ويصبح من الضروري إدخال مصادر غذائية غنية بالحديد، مثل:
صفار البيض
اللحوم الحمراء المهروسة
البقوليات كالحُمّص والعدس
الحبوب المدعّمة
يأتي هذا التوقيت متوافقاً مع نضوج الجهاز الهضمي تدريجياً، وظهور أولى الأسنان، واستعداد الطفل لتلقّي أطعمة خارجية. مرة أخرى، كل شيء يسير بترتيب محكم لا مجال فيه للعشوائية.
القليل الذي يحمل في طيّاته الكفاية
عندما جمعت بين ما يقوله العلم وما يعلّمه الإيمان، رأيت لوحة متكاملة:
حليب يحتوي على القليل من الحديد،
طفل مزوّد بمخزون مسبق،
جهاز هضمي محميّ من البكتيريا،
ونظام امتصاص ذكي يُحسّن الاستفادة من القليل.
فقلت في نفسي: سبحان من قال:
﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل:٨٨)
وهكذا، ما بدا أولًا كـ”نقص” تبيّن أنه وجه من وجوه الإحسان الإلهي، وحكمة تُعلّمنا أن الكمال لا يُقاس بالكثرة، بل بالتقدير المناسب.
 
المراجع
American Academy of Pediatrics. “Iron Content and Absorption in Human Milk vs. Formula”
KellyMom.com. “Iron and Breastfeeding”
WHO. “Infant Iron Stores and Timing of Supplementation”
PMC Articles: Effects of Iron on Gut Microbiota in Infants
Lactoferrin Mechanism in Iron Transport. PubMed Central (PMC)

الوسوم:


مقالات ذات صلة