من دروس الهجرة النبوية: التعمية
الأربعاء/أغسطس/2021
د. أحمد محمد القطوري
أعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، للهجرة من مكة إلى المدينة، الخطة المحكمة،
واستفرغ كل طاقته، وبذل المال لشراء راحلة السفر، واستأجر أجيرا، وتوكل على الله- عز وجل-، مع أخذه بالأسباب المادية والمعنوية.
ويعلمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، درسا من أهم الدروس المستفادة من الهجرة النبوية، وهو درس التعمية.
التعمية في اللغة:
التعمية: أن تعمي على الإنسان شيئا فتلبسه عليه تلبيسا.[1]، ويقصد به: تعمية الأخبار عن العدو: أي إخفاؤها.[2]
التعمية في الاصطلاح:
يقصد بها الإخفاء، وإظهار الكلام في غير مراده.[3]
وقد جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، بعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، لينام في بيته وعلى فراشه؛ ليعمي عنه.[4]، ثم اتجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من بيته قاصدا بيت الصديق (رضي الله عنه).
ثم خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وصاحبه من الباب الخلفي من بيت أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، ولم يخرج من الباب الأمامي؛ لتعمية أنظار قريش عن الطريق الذي يقصده للهجرة.[5]
وتوجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وصاحبه إلى غار ثور، وهو بالجهة الجنوبية من مكة؛ حتى لا يراهما أحد من المشركين.[6]
وكان عامر بن فهيرة يتتبع أثر عبد الله بن أبي بكر (رضي الله عنهم)، بالغنم فيعفي عليه.[7]
ولما لحق بهما سراقة بن مالك (رضي الله عنه)، أمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أن يخف خبرهما عن القوم.[8]
يقول البراء بن عازب (رضي الله عنه)، “فلما دنا – أي: سراقة بن مالك (رضي الله عنه)،- دعا عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه، ووثب عنه، وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه، ولك علي لأعمين على من ورائي…”الحديث.[9]
وقد قام سراقة بن مالك (رضي الله عنه)، بالتعمية، وصرف الناس عن متابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم-، وصاحبه في هذا الطريق. مع أنه لم يسلم وبقي على شركه.[10]
وقد يطلق عليها التورية:
ومعناها: أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له حقيقتان، أو حقيقة ومجاز أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، والمتكلم يريد المعنى البعيد، ويوري عنه بالقريب فيوهم السامع أول وهلة أنه يريد المعنى القريب وليس كذلك.[11]
وعن كعب بن مالك (رضي الله عنه)، يقول: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها…”.[12]
وقد جاءت التورية في كلام الصديق(رضي الله عنه)، في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم-، شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير”.[13]
وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، لأبي بكر في مدخله المدينة: “أله الناس عني، فإنه لا ينبغي لنبي أن يكذب” قال: فكان أبو بكر(رضي الله عنه)، إذا سئل ما أنت؟ قال: باغ، فإذا قيل: من الذي معك؟ قال: هاد يهديني”.[14]
نسأل الله- عز وجل-، أن يهدينا سواء السبيل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
===========================
[1] لسان العرب، ابن منظور (15/100)
[2] معجم لغة الفقهاء، قلعجي، قنيبي (137)
[3] الكليات، أبو القاء الكفوي (310)
[4] دلائل النبوة، البيهقي (2/466)
[5] ينظر: تاريخ الطبري (2/378)، وفقه السيرة النبوية، منير الغضبان (335)
[6] السيرة النبوية، ابن هشام (1/485)
[7] الكامل في التاريخ، ابن الأثير (1/696)
[8] ينظر: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، ابن سيد الناس ( 1/214)
[9] أخرجه مسلم: كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل بالحاء (75)
[10] المنهج الحركي للسيرة النبوية، الغضبان (1/196)
[11] الكليات، أبو القاء الكفوي (277)
[12] أخرجه البخاري: كتاب: الجهاد والسير ، باب: من أراد غزوة فورى بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس (2948)
[13] أخرجه البخاري: كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم-وأصحابه إلى المدينة (75)
[14] دلائل النبوة، البيهقي (2/489)، وينظر: الخصائص الكبرى، السيوطي (2/415)