اعجاز القرآن في ذكر الدخان

إن من أوجه إعجاز القرآن موافقة اللفظ للمعنى الذي دل عليه، موافقة تامة ومطابقة دقيقة. وهذا سر من أسرار القرآن، وبلاغته العجيبة.!
في الوقفة السابقة كنت قد تحدثت عن “التكوير” للشمس وأن لفظة (كورت) لم يطلقها القرآن على غير الشمس من النجوم، وأطلق على بقية النجوم أوصافا أخرى، وقد وعدت بالحديث عنها هنا.. وهذا مقام إنجاز الوعد الذي وعدت به القاريء الكريم.
فنبدأ أولا: #”بالسديم”. فما هو السديم؟!
يأتي أصل كلمة سديم من اللغة اللاتينية، والذي يعني الضباب، أو البخار، أو الدخان، والسديم عند الفلكيين هو: سحابة ضخمة من الغبار والغاز تتواجد في الفراغ بين النجوم وتعمل كحضانة لنجوم جديدة.
هذا هو السديم: عبارة عن دخان. في شكل سحابة. سواء قلت بخارا أو سحابة، أو دخانا. فشكله ومنظره لا يختلف عن الدخان..
وعلى كل فهو دخان.
وإذا تأملت الصورة في الأسفل، وعرضتها على أحد العوام، أو الصغار الذين لا يقرؤون ولا يكتبون .. وتقول لهم: ما هذه ؟! فيقول لك: مباشرة دخان أو مثل الدخان.
تأمل معي جيدا إلى قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ .فصلت آية: ١١.
قوله: وهي دخان. إخبار بحالة السماء ووصفها. إذن كيف كانت السماء؟ وكيف هي السماء؟! وما الموجود فيها؟ الإجابة لا تخرج عن المعنى لكلمة : دخان.
ماالذي ذكره المفسرون عن قوله: وهي دخان ؟!
قال ابن كثير- عليه رحمة الله-:
وقوله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) ، وهو : بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض .
وقال الطاهر ابن عاشور: والدخان : ما يتصاعد من الوَقود عند التهاب النار فيه . وقوله : { وَهِيَ دُخَانٌ } تشبيه بليغ ، أي وهي مثل الدخان ، وقد ورد في الحديث : «أنها كانت عَماء» .
وقيل : أراد بالدخان هنا شيئاً مظلماً ، وهو الموافق لما في «سفر التكوين» من قولها : «وعلى وجه الغمر ظلمة» ….. والعماء : سحابٌ رقيق ، أي رطوبة دقيقة وهو تقريب للعنصر الأصلي الذي خَلق الله منه الموجودات ، وهو الذي يناسب كوْنَ السماء مخلوقة قبل الأرض .
ومعنى : { وَهِيَ دُخَانٌ } أن أصل السماء هو ذلك الكائن المشبه بالدخان ، أي أن السماء كونت من ذلك الدخان. إنتهى (بتصرف يسير).
ابن كثير حمل معنى الدخان على الحقيقة. وحمله الطاهر بن عاشور على المجاز. وهذه قاعدة أخرى من القواعد التي تجرنا الآيات القرآنية إليها.
قد يحمل المعنى في زمن “ما” على المجاز،ثم يأتي وقت آخر ويستقر المعنى الحقيقي ويظهر جليا فيحمل عليه. وذلك حين يتطابق المعنى ويأتلف ولا يختلف. كما هو الحال الآن في معنى: الدخان، بعد أن رأينا صورته بأعيننا التى تنقلها وكالات الفضاء العالمية.
فمن الذي أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا الوصف الدقيق لأمر غيبي خارج الكرة الأرضية، في الفضاء الخارجي. الذي لم يصل إليه أحد من البشر إلا في عصرنا و أيامنا هذه المتأخرة، وباآلآت حديثة متطورة، وبجهود كبيرة وأموال سخية.؟!!
ألا يدل هذا أنه مرسل من الله وأن القرآن كلام الله؟!!
فلو أن وكالة “ناسا” جعلت القرآن الكريم مصدرا تعتمده لتسميات الظواهر الكونية التى تكتشفها في نواحي الأرض وأقطارها لكان ذلك أكثر دقة وضبطا لتوافق الأسماء ومسمياتها .!

فما هو اللفظ الأقرب والأنسب والأكثر وضوحا وقربا إلى الذهن، سديم أم دخان ؟! أنا لا أجد بينهما فرقا في المعنى، ولكن “الدخان” تسمية الخالق له بهذه التسمية، وهو العليم بخلقه” ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”.؟! فهذه التسمية أحب إلى قلبي، وهي أسهل للعامة والخاصة، فالدخان لا تجد أحدا لا يعرفه. أما “السديم” فهي كلمة غريبة لا يدرك معناها إلا بصعوبة.
فلوكان هذا القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم ، لما أخبر بهذا الخبر الدقيق الصادق، ولما نطق بهذه الكلمة التي تنطبق على المعنى من دون زيادة أو نقصان.
ألا يدعو هذا إلى التوقف والتأمل وإعادة النظر في آيات القرآن؟! فقد قال تعالى مبينا أن هذا القرآن من عنده لا من عند غيره:
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.١٥ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. يونس ١٦
قال ابن كثير عليه رحمة الله:أي : هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته ، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته ، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل ، لا تنتقدون علي شيئا تغمصوني به ؛ ولهذا قال : ( فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ) أي : أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه ، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا – وقد كان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف بالحق :
والفضل ما شهدت به الأعداء
فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله . !
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه ، عليه السلام ، بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة .
فهذه أدلة مجتمعة ومتظافرة من الكتاب ومن السنة، ومن الكتب المتقدمة ومن الحقائق العلمية شاهدة ومصدقة لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام
وشاهدة على أنه مرسل من عندالله تعالى. وكفى بالله شهيدا.