{ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ }
السبت/ديسمبر/2019
أ. د/ محمد علي عبد المقصود
أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة القاهرة
وعضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة في الجيولوجيا.
لقد أسعدني الله عز وجل في أوائل الثمانينات من القرن الميلادي الماضي أن أشارك في برنامج تليفزيوني كان وقتها حديثاً وهو الإعجاز العلمي بالقناة الثالثة المصرية وعندها أكدت نهجي في هذا المجال والذي بينته فيما بعد في جريدة الثورة اليمنية عام 1982م، والآن مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لم يأخذ بنهج التوثيق، وهذا شأن كل علم جديد يبدأ به المعنيون فرادى ثم يدعون إليه فتتبع من جسد الأمة ينابيع خبر تتجمع في روافد ومن ثم انهار، وعندما تظهر المجالات المتخصصة والمحكمة، ويكون عصر التوثيق الذي أراه قد بدأ بظهور هذه المجلات العلمية، من أمثال المجلة حاضرتنا والتي تصدرها جمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مصر، وأبدأ بتوضيح الأمور التالية:
الأمر الأول:إن النهج الذي أدعو إليه هو أننا حين نتحدث في هذا المجال – الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – يجب علينا استخدام الحقائق العلمية بصورة عامة دون الدخول في تفاصيل وأرقام أخذت من تجارب وقياسات تفصيلية ورسومات بيانية، لأن التفاصيل دائماً ما تتغير، والقياسات تتغير بتغير الأجهزة ودقتها وتطورها مع الزمن، فما يهمني هو الحركة لا مقدارها، والنظرية لا أجزاؤها، كذلك، فإن الموضوع الذي نتدارسه ليس بموضوع الصفوة والصالونات، ولكنه ملك للأمة – ضعيفها وقويها – ومن الأصول مخاطبة الناس مع مراعاة اختلاف عقولهم وتخصصاتهم، وهذا النهج أوصل لبعده عن مدارك الخطأ واتساع دائرة الخطاب فيه.
الأمر الثاني:أن نستخدم في بياننا الحقائق العلمية لا النظريات، فالحقيقة لا تتغير، والنظرية وجهة من وجهات التفسير العلمي يقابلها وجهات، والكل يخضع للمتغيرات، ولنترك ما لا نصل إليه إلى من سيأتي بعدنا، فالقرآن مائدة الله التي لا تنضب عجائبها.
الأمر الثالث: ألا نغالي، فنطوع العلم ونقول بما لم يثبت تجريبياً لكي نفسر وجهة نظرنا، وألا نشتط فتحمل الآيات ما لم تأت به، وهذه دعوة للتوازن بين العلم التجريبي والقرآن، فيجب أن تكون وظيفتنا التوفيق لا التلفيق.
الحقيقة والنظرية:
ليس عند غير المسلمين ما يعرف بالحقيقة العلمية، بل كثير منهم يقول بأنه لا حقيقة في هذا الكون، فعندهم فقط النظرية العلمية، حتى بلغ الأمر ببعض فلاسفتهم أنهم اعترفوا فقط بحقيقة واحدة وهي الموت أما نحن المسلمون فالله هو الحق، ومحمد حق، والقرآن حق، والنار حق، والجنة حق، والموت حق، والبعث حق، والملائكة حق، ورسل الله حق، فمن يبحث في علوم الغرب التجريبية لن يجد عنواناً للحقيقة، لذا أوصي بأن نأخذ ما أصبح ظاهراً عياناً مثبتاً بالعلم التجريبي غير قابل للتغير، فهذه هي الحقيقة العلمية، ولنضرب لذلك مثالاً، وهو شكل الأرض(3)، فقد طرح قديماً كثير من النظريات عن شكلها، ولكن الذي يرى الأرض الآن من الفضاء، وباستخدام أشعة الليزر يقيس أبعادها ويصورها ويدور حولها، ولا ينبغي له إلا أن يقر بحقيقة شكلها التي خلقها الله عليه، فلن يأتي آخر ليقول لنا: إن الأرض إسطوانية الشكل مثلاً !! لقد تخطى العلماء هذه المرحلة وأخذوا يبحثون عن الحقائق الأخرى الغائبة عنهم، حيث لم يكن هناك ما يضيفونه إلى هذه المناقشة، فشكل الأرض مثلاً أصبح اليوم حقيقة علمية لا نظرية علمية وقس على ذلك الكثير.
المفردات اللغوية:
المهد: الفراش والسرير والأرض السهلة المستوية، والمهاد: الفراش والأرض المنخفضة المستوية، وتمهد أي تسهل وتوطأ.
عجز الإنسان أمام حجم الأرض:
حجم الأرض بالنسبة لحجم الإنسان كبير جداً، فقطرها يقارب13000 كيلو متراً، ومحيطها ( عند خط الاستواء) يقارب 38000 كم، فإذا صغرنا الأرض لتصير كحجم الإنسان، وصغرنا الإنسان بنفس القدر… ولكي نفهم هذا المعنى تخيل أنك أنت الأرض، فكيف يكون الإنسان بالنسبة لك إن حجمه يكون 12. 4 ميللميكرون، أي أنه لا يرى حتى بأعظم المجاهر، إن هذه المقارنة الحجمية تكشف لنا عن ضعف الإنسان وعجزه عن هذا العمل المعجز، وهو فرش الأرض، وتبين لنا معنى عظيماً، فقوله تعالى: { وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 48]، فالهاء تعود على الواحد القاهر، ولا يقدر على ذلك إلا خالقها، وصدق الله العظيم إذ يقول: { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً } [النساء: 28]… إن الإنسان يفكر ويحسب ويبتكر في حيز معلوم، أما الأمور المتعلقة بعظائم الكون وملكوت السماوات والأرض فإنه يقف أمامها عاجزاً، ومن أسباب عجزه ضعفه وصغر حجمه، فإذا علمنا أن الأرض هذه – والتي لا تقدر على فرشها بالنسبة لأجرام السماء كحبة رمل في صحراء مترامية الأطراف، ظهر لنا معنى جديد في قوله تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47]... فإذا كان فرش الأرض قد أعجزنا، فكيف بالسماوات ومن بناها. إن ( الهاء) هنا في ( فرشناها) تشعرنا بالعجز، وتحول بيننا وبين ما فوق ذلك من آيات، فنغض البصر ونمشي عليها بحياء، وصدق الله العظيم إذ يقول: { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك: 4]، فالهاء تشعرنا نحن الجيولوجيين بإعجاز مكاني.
زمان الإنسان وزمان الأرض:
إن الله جلت قدرته جعل لكل مخلوق عمراً يتناسب مع ما خلقه له، فمن المخلوقات كجسيمات الذرة لا يتعدى عمرها لحظات، ومن الحشرات ما يعيش شهراً، ومن الحيوانات ما يعيش أعواماً، ومن الزواحف ما يصل عمره إلى عدة مئات من السنين… فدورة الحياة تختلف باختلاف المخلوق، أما الإنسان فمتوسط عمره بضع عشرات من السنين، وفي الحديث النبوي الشريف: ( أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين )، وقد كان عمره الشريف صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستون عاماً هجرياً، والأرض مخلوق بلغ من العمر حتى يومنا هذا ( 4500) مليون سنة، ولها نهاية هي القيام: {… وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ… } [الزخرف: 85].
وكما أن الإنسان لا يعرف متى ينتهي أجله، فإن الجيولوجيين لا يعرفون متى ينتهي عمر الأرض، إلا أن العجز الزماني يتضح لنا جلياً حين نعلم أن فرش الأرض – وكما سيتبين لنا بعد قليل – قد استغرق، أو قل إنه يلزمه ليصبح على ما هو عليه من إبداع، كل هذا العمر من السنين (4500 مليون سنة)… فكيف للإنسان أن يفرش الأرض، ونعود ثانية لهذه الآية في {فَرَشْنَاهَا } فلا يقدر على فرشها إلا الحي الذي لا يموت. فالهاء تشعرنا نحن الجيولوجيين أيضاً بإعجاز زماني.. وإذا عجزنا عن زمان الأرض فكيف بالسماوات.
إن الضوء المسافر بسرعته الهائلة (300.000كم/ثانية) يستغرق مئات السنين ليصل لأقرب نجم خارج مجموعتنا الشمسية, ناهيك عن أطراف المجرة(4)، عن الأرض – ومعها مجموعتنا من الكواكب – ترحل حول مركز المجرة فتكمل دورة كاملة في (200) مليون سنة… فما بالك بسائر المجرات وبالكون المنظور… كيف يتسنى للإنسان وعمره لا يعدو بضع عشرات من السنين أن يرحل عبر هذا الكون، إن الإنسان يعلم ولا يقدر وحتى علمه قليل: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الإسراء: 85].، فالعجز الزماني في موضوع الأرض يعمل حائلاً بيننا وبين الجرأة على ما عداه من الكون…. !!
وزن الإنسان ووزن الأرض:
إن متوسط وزن الإنسان معلوم لنا – وهو حوالي 70 كجم. ولننظر الآن تدريجياً إلى الأوزان التي حولنا، فكيف بوزن مخرجات أعمال الترميم لشقة سكنية، فكيف يوزن البيت كله، إنه أكبر بالتأكيد، فكيف بوزن المدينة التي نعيش فيها، فكيف بوزن قارة مثل إفريقيا، وكيف بوزن خزان مياه صغير… هل تقدر على حمله ؟ فما هو وزن البحر الأبيض المتوسط مثلاً ؟.. وكيف بوزن المحيط الأطلسي ؟.. بل كيف بوزن المياه على الأرض والقارات.. ؟؟ المعروف عندنا أنه كلما زادت الكتلة كلما زاد الوزن حتى تصل إلى الأرض وما عليها، إن وزنها (6 × 10 24) طن، وهو رقم من الصعب أن نجد له منطوقاً، لقد وزن الإنسان من زمن طويل الأرض وهو واقف عليها واستخدامه في ذلك ميزاناً كبير الحجم ارتفاع 5 أمتار وله أربع كفات ( لا اثنتان) وقد استطاع أن يعرف وزن الأرض الهائلة – والتي يعيش عليها – فلا يكاد يرى لصغر حجمه، إنه دائماً يعلم ولا يقدر فيخر ساجداً لله: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28]، وقد استخدم الله في الآية وصفاً لا يقدر عليه إلا العليم الخبير، وهو ( الخشية)، لأن من عَلِم عِلْم اليقين أحس بقوة الله وشعر بعجزه هو فيُحدث في نفسه خشية، والخشية غير الخوف، فالخشية خضوع وانكماش ولزوم للحد.
هذه الأرض الهائلة الوزن معلقة في الفضاء من غير عمد تسبح في كون الله بقدر معلوم، فمن ذا الذي رفعها وأبقاها من غير عمد ؟.. ويحتدم النقاش، فيقول قائل منا: إن هناك قانوناً جديداً يحكم العلاقة بين كتلة الأرض والشمس وحركة الأرض حول الشمس، ينتج عنه إمكانية بقاء الأرض معلقة.. هكذا أثناء دورانها. فيقول قائل: إنني أرى في هذا قمة الإعجاز لأنه القانون الحاكم للكتلة قد تغير، فبعد أن كان على الأرض يزداد الوزن بازدياد الكتلة ظهر في السماء قانون يلاشي الوزن، هذا التغير العكسي في القوانين لتحقيق مصلحة ما – وهي بقاء الأرض معلقة – هو ما يعرف بالتدبير، والذي يشير حتماً لوجود مدبر لهذا الكون…
من هنا وقبل أن نرى معجزة ( فرش) الأرض نتوقف قليلاً لنعلم كم تعجزنا الأحجام وكم يعجزنا الزمان وكم تعجزنا الأوزان أمام قدرة الحنان المنان في فرش الأرض ورفع السماء: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً… } [البقرة: 22]. ولا أقول بأسماء الله الحنان والمنان لسجع أو لحسن بيان، ولكن لأن في بديع خلق السماوات والأرض حنان من الله ومنة على عباده، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم… إذ يقول مناجياً ربه: ( يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض، لبيك لا شريك لك لبيك ).
فرش الأرض – من الناحية الجيولوجية:
لقد وصف العليم الخبير الأرض بأنها مهد: { فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ }... ولقد بدا الإعداد لفرش الأرض على ما نراه عليها الآن بتكوين قشرتها، فعمر الأرض (4500) مليون سنة، لكن أقدم الصخور عمراً على الأرض يبلغ (3. 800) مليون سنة، وما بين الزمنان كانت الأرض كتلة من سوائل وغازات لا شكل لها، مرتفعة الحرارة، واستغرق تكوين شكلها – نتيجة لدورانها حول نفسها واستقرار هذا الشكل – بتكوين قشرة خارجية صلبة (5) زمناً كبيراً، وهنا نرى إعجازاً رائعاً في كتاب الله، إذ يقول الخالق العليم: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30]… والإعجاز في قوله: { بعد ذلك }، فلم يتم دحي الأرض في أول خلقها بل استغرق ذلك زمناً، فقال العليم الخبير: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30] وسواء كان الدحي متأخراً عن خلق السماوات أو خلق الأرض، فإنه جاء متأخراً، لقوله { بعد ذلك } ولم يكن متزاملاً مع ما قبله… فالجيولوجيين يعلمون أن ( بعد ذلك) قدرها ( 700) مليون سنة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
تكوّن الكتلة القارية الأولى:
تكونت القشرة الصلبة الأولى وكانت رقيقة بالنسبة لحجم الأرض، ونظراً للحركة الدائمة للأرض بمكوناتها السائلة في الداخل، فإن هذه القشرة تشرخت وانفصلت إلى عدد كبير من الأجزاء… ونتيجة للحركة الدائمة، فإن هذه الأجزاء تصادمت مع بعضها في مواقع وتباعدت عن بعضها في مواقع أخرى، مما تسبب في خروج سوائل الوشاح(6) – وهي الطبقة التي تسفل القشرة الأرضية – وتكون ما يعرف الآن ( القشرة المحيطية)، وهي أكثر سمكاً من القشرة الأولى… واستمرت الحركة العامة للأرض، وحركة أجزاء القشرة الأرضية، والتي يفصل بينها الشروخ والصدوع.
إن البحث العلمي على مدى الأربعين عاماً الماضية أثبت أن أماكن التصادم بين أجزاء القشرة الأرضية ينتج عنه إندساس جزء بالنسبة للجزء المصطدم معه، ثم انصهار طرفه الهابط في الوشاح، وصعود منتجاته الصهيرية، لتكون مقذوفات بركانية على الجزء الآخر المتصادم معه، يجعله أكثر سمكاً وانتفاخاً، وتتكون بذلك ( نوية) لقشرة قارية… بينما الجزءان اللذان يتباعدان عن بعضهما ينتج عن تباعدهما اتساع يملأ بمحتويات الوشاح، وتتكون مناطق منخفضة من القشرة المحيطة… ونرى في نهاية هذه المرحلة أنه قد تكون على الأرض نوعان من المناطق، هي: نوبات قشرة قارية (مرتفعة) وقشرة محيطة (منخفضة)، إن إعداد هذه المناطق القارية الأولى يفوق ما اكتشفه العلماء منها – وحتى يومنا هذا – المائة نوبة قارية.
تكون الكتلة القارية الكبرى:
استمرت الحركات، وتصادمت الكتل القارية معاً، وتجمعت كلها في كتلة كبيرة الحجم، أسماها العلماء (بالبانجيا)، وتكونت هذه الكتلة القارية الكبرى من فصوق قارية أصغر ملتحمة مع بعضها، يفصل بين كل جزء وما حوله أثار من القشرة المحيطة التي كانت تحيط بها من قبل، وكان هذا هو السبيل أمام العلماء لتمييز هذه النوبات القارية وتحديدها، فهم يجدون أن قارة إفريقيا – مثلاً – مجزأة إلى أجزاء يفصل بينها وبين بعضها نطاق رقيق من القشرة المحيطة، وهذه اللحمة تسمى (بالأفيوليت)… وعجباً، أن نجد قشرة محيطية داخل القارة، ولكن هذه القشرة لا تنتمي من ناحية العمر لقشرة المحيط الموجود حالياً، بل كانت قشرة محيطية تفصل بين الكتل القارية الصغيرة، وحيث تجمعت واصطدمت هذه الكتل الصغيرة معاً لتكوين كتلة هائلة حسرت بينها بقايا القشرة المحيطية.
والسؤال الآن هو: من الذي قاد هذه الكتل الصغيرة عبر الأرض ليجمعها معاً في كتلة واحدة؟ سؤال لا يقدر على إجابته علماء الدنيا… إنه المدبر جل جلاله… هل يدخل هذا في معنى قوله تعالى: { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } [الرعد: 4]… لما لا… سبحانه الذي إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون.
تكون القارات الحالية:
هنا، وبعد أن استقر الأمر، وأصبحت القشرة الأرضية الصلبة أكثر سمكاً – وصل إلى 70 كيلو متراً – وأصبح أسفل القشرة وشاح لدن في طبيعته… حدث رائع، وهو انفجارات حرارية من باطن الأرض، من الأعماق الخفية في نقاط محددة تسمى (بالنقاط الساخنة)(7)، وهي شبيهة بالبقع الشمسية، أو الانفجارات التي يراها العلماء على الشمس، حيث تعلو المواد الملتهبة والغازات إلى آلاف الكيلومترات لأعلى، في نافورة حرارية، لقد وجدت أن الله تعالى أسماها في كتابه العزيز – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – بـ ( التنور)، ولنا في هذا حديث آخر لا يتسع الوقت له الآن.
هذه النافورات الحرارية شرخت الكتلة القارية الكبرى، وقسمتها إلى أجزاء، هذه الأجزاء هي القارات الحالية، وقد تحركت بعيداً عن بعضها حتى وصلت إلى وضعها الحالي… وقد بدأت القصة حين قام أحد علماء الجيولوجيا منذ نيف وسبعين عاماً بقص القارات الحالية من خريطة العالم وجمعها معاً، فاكتشف أنها تلتحم مكونة كتلة واحدة كبيرة، وتوالت الاكتشافات والأبحاث بعد ذلك تؤكد هذا.
الشكل العام/1/:
لقد أصبح الشكل العام للأرض هو مناطق قارية متسعة ومرتفعة تفصل فيما بينها مناطق منخفضة، هي الأحواض المحيطة، وفي تطور سابق لهذا كان الغلاف الجوي قد تكون أخرجت الأرض ماءها، فعاد إليها مطراً واستقرت المناطق المنخفضة، وهي البحار والمحيطات: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [النازعات: 31].. ولهذا حديث آخر.
لقد بدأ الأمر في الفرش بأن فرش الله المحيطات والبحار بالماء، فهذا فرش عظيم لا يلتفت إليه الكائن على أنه فرش، إن أكثر الفرش بساطاً هو ماء البحر، ولذلك يعتبر مبتدأ القياس في علم الطبوغرافيا – أو المرتفعات – فدائماً ما نقول: هذا المكان يرتفع كذا متراً عن سطح البحر، ولكن هل سطح البحر واحد على الكرة الأرضية، هذا حديث آخر.. إلا أنه أكثر الفرش بساطاً على الأرض.
ومن الطبيعي أن الحنان المنان سيجهز المناطق القارية بفرش تصلح للإنسان، وهنا نبدأ التواصل مع منظومة جديدة، خَلْقٌ من بعد خَلْقٍ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
{ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } [الطارق: 12]:
هذا قسَمٌ أقسم الله به، والله يقسم بعظائم الأمور، وإن كانت كل آلائه معجزات { فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 32]: والقسم يكون بصفة رئيسة في المقسم به… إن البشر – خاصة حيث نزل القرآن – لا يجدوا الصدع أهم صفة في الأرض، بل وحتى المعاصرين من البشر ينكرون هذا، فكيف بألف وأربعمائة سنة ويزيد، إن ما أجمع عليه علماء الجيولوجيا المحدثين هو أن أهم صفة في الأرض هي (الصدع) (8)، وقد كلف منظموا أحد المؤتمرات العلمية العالمية في عام 1976م أحد العلماء ( أجنبي غير مسلم) بتخليص عام لبحوث المؤتمر الذي ألقاها الجيولوجيون في جملة تكون عنواناً للمؤتمر فنطق فقال: ( لولا الصدع لأصبحت الأرض صلعاء)، كراس الأصلع… فلما سئل عن هذا القول قال: إن أهم صفة في الأرض هي الصدوع، فلولا وجود المنخفضات الصدعية لتجمعت فيها مياه البحار والمحيطات والأنهار، لغطى الماء سطح الأرض بارتفاع ثلاثة كيلو مترات ولغرقنا جميعاً… ولولا المنخفض الصدعي لنهر النيل ما شربنا منه، ومن خلال الصدوع تكونت مناطق عالية وأخرى منخفضة على القارات، فاختلف المناخ، واختلفت البيئة النباتية والبيئية الحيوانية، وهطلت الأمطار، وجرى الماء حاملاً معه فتات الصخور لينزل بها على الوديان، فيفرشها بأنواع مختلفة من الفرش على مرّ الملايين من السنين.
الشكل العام /2/:
لقد أصبح الشكل العام للأرض في هذه المرحلة هو مناطق قارية مرتفعة صالحة لعيش الإنسان، تحيط به مساحات شاسعة من فرش ماء، وفي هذه القارات العديد من الوديان والسهول التي تجري داخلها أنهار لا عد لها ولا حصر… {… وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً… } [لقمان: 20]. وأن هذه القارات أشبه بالسرير، أو المهد، المدعم، فهي من صخور نارية ومتحولة، صلبة ذات أوتاد تنغمس في الوشاح ( الطبقة التي تشغل القشرة الأرضية)، وانظر – رعاك الله – إنك إن أردت أن تعد مهداً لحبيب، فإنك تختاره مرتفعاً عمن حوله، ثم تبنى دعامة صلبة تضع فوقها فرش هذا المهد، إلا أن المهد الذي أعده الله لنا ليست دعائمه من حديد أو خشب، مبل من الصخور الصلبة الرأسية، وهو فرش ليس من حشو ليف أو قطن، بل من أديم الأرض، مختلف ألوانه… كما سوف نرى.
طبيعة الفرش:
أن الأرض فرشت بالعديد من أنواع الفرش، فكل قطعة من الأرض قد فرشت بنوع مختلف من أنواع الفرش: { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } [الرعد: 4]، هذا في البعد الأفقي، كما سوف نرى، أما في البعد الرأسي – أي إن حفرنا أو استكشفنا بعضاً من الأعماق – فنجد أن هناك فُرُش بعضها فوق بعض، فعلى مدى التاريخ الجيولوجي فرشت المناطق مرات ومرات، وكل فرش يعلو الذي سبق، وكل فرش أدى – ويؤدي الآن – دوره، وفقاً لنوعه وسمكه وخواصه.
تخلص من هذا إلى أن الأرض فرشت لعدة مرات، ففي كل عصر من العصور هناك فرش، وكلما جاء عصر جديد جاء معه فرش جديد، لقد أصبحت الفرش القديمة مصانع للبترول والغازات الطبيعية ومخازن له، ومخازن لماء المطر، { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ… } [المؤمنون: 18]. {… فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [الحجر: 22]. فالفرش القديمة مصانع ومخازن وثروات، والفرش الحديثة لنحيا عليها آمنين.
المخرجات البركانية:
النشاط البركاني على مدى العصور المختلفة – وحتى يومنا هذا – له مخرجاته من باطن الأرض، فالغازات – ومنها بخار الماء – تتصاعد إلى الغلاف الجوي، أما المواد الصلبة فإنها ثقيلة: { وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } [الزلزلة: 2]. فإنها تنحدر منبسطة فوق السهول والوديان، مكونة فرشاً بركانياً داكن اللون، حيث تكون منه أخصب الأراضي الزراعية بعد ذلك ومن أكثرها إنباتاً، أما المواد الصلبة، من رماد بركاني – فإنه يكون سحابة عظيمة فوق البركان، تهبط بعد ذلك مكونة فرشاً دقيق الحجم، ناعم الملمس، يرقد فوق الفرش البركاني الصلب الداكن اللون، إن الثروات المعدنية المصاحبة لهذا النشاط، وما أخفاه الله من الخير في الفرش، لأمر مبهر تحير العلماء فيه.
أنواع الفرش:
إضافة إلى أن البحار قد فرشت بالماء، والمناطق البركانية قد فرشت بالطفوح والرماد، فإن الصحارى قد فرشت – كثير من أجزائها – بالرمال – حيث تكونت بحار من الرمال ( كبحر الرمال الأعظم إلى الغرب من وادينا) وبحار الرمال في الجزيرة العربية وغيرها، وهي مختلفة في ألوانها ما بين الأصفر والأبيض والأحمر، وفقاً لمصدر الرمال، وهناك رمال الشواطئ، وهي نوع آخر من الفرش، من حيث الوضع والوظيفة، فإن مياه البحر تندفع إليه، فتتذلل مسامه وتبتعد عنه، فيعود فيتضاغط، وأنت تلاحظ ذلك حين تسير على الشاطئ بقدميك، فإن وزنك يسبب هبوطاً في موضع القدم وجفاف، حيث يطرد الماء من بين المسام، فإذا مر وقت دخل الماء ثانية إلى موقع القدم فانتفخ وعاد إلى ما كان عليه، وهناك فرش من الطين حول الأنهار،
وفي مصبات إلى موقع القدم فانتفخ وعاد إلى ما كان عليه، وهناك فرش من الطير حول الأنهار، وفي مصبات إلى موقع القدم فانتفخ وعاد إلى ما كان عليه، وهناك فرش من الطين حول الأنهار، وفي مصبات الوديان والسيول بالصحارى، حيث تتكون التربة الزراعية الخصبة بجوار الماء ليعملا في إنبات النبات، فيكون لنا ولأنعامنا زرعاً وماءاً، وهناك فرش من الحصى مختلف إحجامه وألوانه ومنافعه وغيره كثير، فنحن لسنا بصدد الإحصاء ولكن للبيان، فرشفة من النهر تكفي للدلالة على حلو مائه.
الشكل التالي بين الطفوح البركانية وهي تنساب على سطح الأرض |
أما العجب العجاب الذي لا نستطيع مفارقة المجال قبل أن نذكه، فهو ذلك النوع من الصخور المسمى ( بالصخور الرسوبية) وهي صخور يسميها الجيولوجيون ( صخوراً ناعمة) لتمييزها عن الصخور الصلبة النارية والمتحولة، وهي صخور متماسكة، وكثير منها يتكون تحت ماء البحر، أي يلزم لتكونه وجود مياه بحرية، وهذا النوع من الصخور ( كالحجر الجبري) موجود فوق المهد القاري فوق الصخور الصلبة ( والتي هي الدعامة الرئيسية للقارة أو المهد)، ويسفل الرواسب الفتاتية العليا، بمعنى أن الفرش الفتاتي الذي ذكرناه يرقد فوق وسادة ليست شديدة الصلابة، ثم ترقد هذه الوسادة فوق الدعامة الصلبة للقارة.. إن تكوين هذه الوسادة يستلزم أن يغمر البحر أجزاء من القارة لملايين السنين ليرسّب هذه الوسادة، ثم يتراجع تاركاً أياماً فوق اليابسة لتبدأ عمليات الفرش الأخرى تباعاً، فتبارك الله أحسن الخالقين.
لمحة حنان من الله الحنّان:
إن الطريقة التي تتراص بها حبيبات الفرش ليَسْجُدَ لها العلماء، فإن الناظر لقطاع رأسي يجد أن حجم الحبيبات غالباً ما يصغر من أسفل القطاع لأعلاه، أي أن أدق الأحجام تكون بالأعالي نتعامل معها، وذات الأحجام الأكبر تسفلها، وتتدرج الحبيبات في الكبر بصورة انسيابية حتى تصل إلى أكبر الأحجام في قاع القطاع، والتي ترقد بدورها فوق الغطاء الصخري المتماسك، ثم إن هذه الحبيبات بينها ما يعرفه العلماء (بالفراغات البينية) (9) والتي تمتلئ بالهواء، أو بالماء أحياناً.
وحينما يرقد الإنسان على هذه الأرض فإنها تهبط، وتتضاغط الحبيبات وفقاً لما يقع عليها من ضغط، فالرأس لها وزن غير المناكب، فما يسفل الرأس يستجيب وفقاً لوزن رأسك وما يسفل المنكبين يستجيب وفقاً لوزن هذا الجزء من جسدك… وبالتالي، فإن الأرض تتشكل وفقاً لك مستجيبة لحالتك، فإذا قمت مِنْ عليها عادت إلى طبيعتها وانتفشت انتظاراً لقادم جديد، ولذلك، فإن أكثر المراقد راحة وسلامة، للجسد هي أرض الله المفروشة ببساط قدرته، أما إن رقدت فوق أسرة البشر، واستخدمت وسائدهم، فإن مشاكل العمود الفقري وآلام العضلات سوف تلاحقك على المدى الطويل، وقد أدرك علماء الطب هذه الحقيق الأخيرة، ويحاول المخترعون الآن تجهيز وسائد مطاطية تتشكل وفقاً لعمودك الفقري وفقراتك العنيفة، إن نمت عليها، ويبيعونها بأعلى الأسعار.
وكذلك، فلا تعجب إن قال خير البشر وأفهمهم لكتاب الله وأقربهم زلفى لدى الله: ( يا حنان يا منان: يا بديع السماوات والأرض: لبيك لا شريك لك لبيك)… فلا بد أنه أحس الحنان وأحس بالفضل والمنة في خلق السماوات والأرض، فقد كان صلى الله عليه وسلم حينها يتفكر في خلق السماوات والأرض: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 191].
نظرات:
بعد أن خلق الله تعالى السماوات والأرض: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [غافر: 57]. وفي الأرض: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30]. وفرشها: { وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 48]. وقدر فيها أقواتها: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [فصلت: 10]. وزينها: { وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [الحجر: 16]. فجعل فيها بديع الخلق، من مساقط المياه وزرع ونخيل وزهور وحبوب وطيور مختلف ألوانها، وسماء باهرة الحسن، وغير ذلك من الآيات المبهرة… وصدق الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله جميل يحب الجمال).
جاء خلق الإنسان بعد ذلك، فهو من أحدث الكائنات، فعمره لا يزيد – في أرجح الأقوال – عن بضع عشرات الألوف من السنين، بينما يبلغ عمر الأرض (4500) مليون سنة.
بعد هذا الإعداد الهائل لآلاف الملايين من السنين قال الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…. } [البقرة: 30]… أسوق هذا لأدلل على أن المحبة من الله سبقت وجودنا، وما آلاف الملايين من السنين إلا محبة يعدّ الله لنا في كل لحظة منها ما يجعلنا سعداء آمنين حين يسكننا الأرض: إنك إن أحببت شخصاً، أو جنيناً سيولد لك، فإنك تعد له، ولكن إلى كم وإلى متى ستعد له، إن الله الحبيب أعد لنا هذا المهد طوال (4500) مليون سنة، وهذا يدعونا إلى الخشوع وإلى أن نسجد شاكرين له وحده لا شريك له… وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال ساجداً: ( أمرغ وجهي في التراب لسيدي وحق لوجهي أن يمرغ لسيدي) (10).
المهد يتحرك:
تأكد لعلماء الجيولوجيا أن قطع الأرض ما زالت تتحرك سابحة فوق بطانة الوشاح التي تسفلها مباشرة، وقد أدت أبحاث مستفيضة – استغرقت أكثر من خمسين عاماً – إلى أن قطع القشرة الأرضية الهائلة الحجم تتحرك… ولنعطي مثالاً علمياً لجزء واحد منها، وهو ما يعرف (باللوح الإفريقي)(11) ويشتمل قارة إفريقيا، والنصف الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، والنصف الغربي للبحر الأحمر، والنصف الشرقي للمحيط الأطلسي الجنوبي، وجزء كبير من قاع المحيط الهندي… هذا الجزء يتحرك بما عليه من سلاسل الجبال الممتدة من صحرائنا الشرقية، جنوباً في السودان ثم الحبشة. وجبال شمال إفريقيا وغربها وجنوبها الغربي… كل هذا اللوح العظيم من ألواح القشرة الأرضية يتحرك حركة بطيئة جداً، تصل إلى عدة سنتيمترات كل عام، في عكس اتجاه حركة عقارب الساعة، مع الاندفاع نحو الشمال في حركة انسيابية مزدوجة.. فيجانب أنه يدور حول نفسه في حركة دائرية، فإنه يندفع في الوقت نفسه ناحية الشمال.
ويتحرك ( اللوح العربي) (12) المجاور لنا من ناحية الشرق، وهو اللوح الذي تقع فيه الجزيرة العربية بنفس الأسلوب، وفي نفس الاتجاه، ولكنه يسبح بسرعة أكبر من سباحة اللوح الإفريقي، فاللوح الإفريقي يجري خلف اللوح العربي، ولكن الأخير يسبقه قليلاً كل عام، مما يتسبب في اتساع البحر الأحمر بينهما إلى عدة سنتيمترات كل عام.. فلكي تتسع المسافة بينه وبينك لا يشترط أن نسير في اتجاهين متضادين، ولكن من الممكن أن يحدث هذا إذا سرنا في نفس الاتجاه، والذي في المقدمة يسير بسرعة أكبر من الذي يليه… وهنا سوف تتسع المسافة بيننا تدريجياً، وإن كان علماء الجيولوجيا قد أدركوا بعض الفوائد لهذه الحركات – لأنهم أول من اكتشفها – إلا أنني أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي يجد فيه علماء البيولوجيا فوائد جمة لهذه الحركات، فلا بد أن لها تأثيراً على الحياة النباتية والحيوانية على مر العصور، وقد تلحق أو لا تلحق بهذا اليوم، فقد تكون عند الرفيق الأعلى الذي يغنينا بعلمه وفيضه عن كل هذه الاجتهادات… ؟!
آليات الفرش:
إن الإنسان يستخدم في أعمال الفرش ألياف وميكنة، ظاناً أنه قد أدى العمل بآلياته، ولا ينظر للمواد التي استخدمها: كيف جاءت، وكيف أصبحت صالحة للاستخدام في عمليات الفرش… وهو بكل آلياته يعمل في مجال محدود للغاية.. أما الآلية التي وضعها الله في الأرض فهي تحوي أكثر من مليون عملية، نعرفها حتى الآن، تتناغم مع بعضها عبر الزمان والمكان، لتكوّن منظومة الفرش، فالنشاط الناري يقوم بدفع المواد من باطن الأرض ليكوّن صخوراً نارية، تشكل المصدر الأم للمواد، وما يحدث لها بعد ذلك من تجوية وتعرية وتكوين صخور رسوبية ثم متحولة فنارية مرة أخرى، وهو ما يعرف بـ (الدورة الصخرية)(13). وهناك دورة أخرى تعرف (بالدورة الحركية) (14) والتي تتسبب في تحرك المواد وصعودها وهبوطها ودورة ثالثة تعرف ( بالدورة المائية) (15)، وهي حركة المياه والهواء وغازات الغلاف الجوي… وهذه الدورات الثلاث تتداخل مع بعضها وتعمل بلا تعارض، بل تتوافق في منظومة واحدة. ولكل مكان وكل ظرف قانون، حتى تحيرت عقول علماء الجيولوجيا وعاش الآلاف منهم في كل عصر يدرسون ويدققون فيما يحدث أمامهم.
إن أهم المعجزات في نظام الأرض هو الدوام الدوري للعمليات الجيولوجية، والتي لا تتوقف أبداً إلا بفناء الأرض ومن عليها، حتى علم الجيولوجيون أن التغيير الدائم لسطح الأرض هو القانون الثابت، بمعنى أن الثابت الوحيد هو التغير، إن عمليات فقدان الكتلة الصخرية من أماكن ونقلها إلى أماكن أخرى، وعمليات تكون الأنهار ( وصباها وشبابها وشيخوختها) وانتقالها من مكان لآخر، وحركة المياه الجوفية والبحرية والثورات البركانية (16) والانجرافات القارية (17)، وغير ذلك، مما يضيق المقام عن ذكره… كل هذا يحدث ولا يحس البشر بمعظمه، وبطريقة هادئة رائعة الحُسْن لا تعطل مجرى حياتنا، بل تساعدنا على أداء رسالتنا التي خلقنا من أجلها… إن هذا التناغم لا يكون إلا يفعل الخالق العظيم جل جلاله، وللإنسان أن يدعى ما يشاء إلا أن العالم من البشر يبقى دائماً في زمرة الذين وصفهم الله في كتابه العزيز: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28].
مصدر الصور الموسوعة الحرة
==============
(1) محاضرة ألقيت بالموسم الثقافي لعام 2001م.
(2) أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة القاهرة، وعضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة في الجيولوجيا.
(3) شكل الأرض (Shape of Earth)، هو ما تبدو عليه الأرض للعين إن نظرت العين إليها من بعيد، أو إن صُغّرت الأرض وصُنِعَ لها نموذج تنظر إليه العين ( المحرر العلمي).
(4) المجرة (Galaxy): اسم يطلق على مجرة سكة اللبانة ( التبانة) قديماً، ويطلق حديثاً على المجموعات النجمية الأخرى، ومجرة سكة اللبانة تنتمي إليها مجموعتنا الشمسية، وما لا يقل عن مائة مليون نجم آخر – إضافة إلى الشمس – وكميات كبيرة من مادة ما بين النجوم، وتشكل النجوم ما يعرف بالحشود النجمية، والحشد النجمي إذا نظرت إليه من خارجه يبدو كما لو كان قرصاً له نواة مركزية تزيد فيها كثافة النجوم عند مناطق الحافة، والمجرات أنواع، منها المجرة الراديوية، والمجرة المتلاصقة، والمجرة القزم والمجرة المجالية… إلخ ( المحرر العلمي).
(5) القشرة الخارجية: القشرة الأرضية (Crust): هي الجزء الخارجي من الأرض، والذي يحيط بها من كل جانب كقشرة البيضة تحيط بها، وهي رقيقة بالنسبة لحجم الأرض، وإن بدت لنا سميكة (المحرر العلمي).
(6) الوشاح (Mantle): هو ما يلي القشرة الخارجية للأرض ويمتد إلى داخلها، وإلى ما يعرف بقلب الأرض ( أو لب الأرض Core)… فالوشاح تعلوه القشرة.. وهو يعلو قلب الأرض (المحرر العلمي).
(7) النقاط الساخنة (Hot Spots): هي أماكن على الأرض ترتفع عندها درجة حرارة الأرض عن المعدل العام نتيجة لوجود نشاط ناري تحت هذا الموقع ينبع من أعماق الأرض ( المحرر العلمي).
(8) الصدع (Fault): هو شرخ في الأرض يتبعه تحرك الصخور على جانبي هذا الشرخ، فالصدع هو نتاج لعمليتين: كسر، وحركة ( المحرر العلمي).
(9) الفراغات البينية (Intervening): هي ما يوجد من الفراغ بين الحبيبات المتراصة، فلو وضعنا كورات البليارد مثلاً في صندوق، فإننا سنرى فراغات موجودة فيما بينها، بحكم وضعها بالنسبة لبعضها البعض ( المحرر العلمي).
(10) يجب أن نفهم هذا في ضوء عدة آيات قرآنية، منها ما يفيد تنفيذ أمر الله في لا شيء، مثل قول الله تعالى: { إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]… ومنها ما يقرر خصوصية الزمن عند الله، فقد يكون اليوم عند الله كألف سنة من سني البشر، وقد يكون اليوم عنده سبحانه كخمسين ألف سنة (المحرر العلمي).
(11) اللوح الإفريقي (African Plate): هو ذلك الجزء من القشرة الأرضية الذي يحوي قارة إفريقيا، والنصف الجنوبي للبحر المتوسط، والنصف الغربي لبحر الأحمر، والجزء الشرقي للمحيط الأطلسي، وجزء من المحيط الهندي جنوباً، وكل حد من هذه الحدود عنده صدع عظيم ( المحرر العلمي).
(12) اللوح العربي (Arabian Plate): هو ذلك الجزء من القشرة الأرضية الذي يحوي الجزيرة العربية، والنصف الشرقي من البحر الأحمر، وجزء من المحيط الهندي جنوباً، وتحده شرقاً جبال زجرلين في إيران، وكل حد لهذا النوع عنده صدع عظيم ( المحرر العلمي).
(13) الدورة الصخرية (Rock Cycle): الصخور كلها صخور صلبة في الأصل، وقد نتجت عن النشاط الناري، وهذه الصخور الصلبة تتعرض للتفتت والنقل والترسيب، فتكون صخوراً رسوبية، وقد تتعرض هذه وتلك للضغط والحرارة، فتتحول إلى ما يعرف بالصخور المتحولة، وإذا زاد الضغط والحرارة صهرت الصخور وكونت جبلاً جديداً من الصخور النارية الصلبة، وهكذا… (المحرر العلمي).
(14) الدورة الحركية (Plate tectonic cycle): أجزاء الأرض تتحرك بالنسبة لبعضها البعض، فيتباعد جزءان ويصطدم جزءان، كل منهما بالآخر، فيغوص تحته، فيصهر في باطن الأرض، وعند التباعد يخرج صهيراً من الأرض يملأ ما غاص وذاب من خور عند الجزأين المتصادمين، وهكذا تأخذ الأرض وتعطي في دورة ( المحرر العلمي).
(15) الدورة المائية (Water of Hydro-cycle): الماء يتبخر من الأرض فيعلو في السماء فيسقط مطراً يجري في الأنهار، فيعود إلى البحر كما كان، وقد يخزن في باطن الأرض فيستخرجه الإنسان ويعيده من خلال الصرف إلى مجاري تصل به إلى البحر ثانية، وهكذا، فما نشربه الآن من ماء قد يكون شربه من قبلنا (المحرر العلمي).
(16) الثورات البركانية (Volcanic revolution): تأتي على الأرض أزمان يكثر فيها انفجار البراكين وخروج مكونات الأرض إلى خارجها، وكأنها ثورة لا تبقي ولا تذر، وخروج الحمم من بركان هو نتيجة ثورة هذا البركان، وبهذا البركان بعد حين ويعود إلى ما كان عليه ( المحرر العلمي).
(17) الانجرافات القارية (Continental drifts): القشرة الأرضية مقسمة إلى أجزاء، كل جزء يحوي قارة من القارات، وهذا الأجزاء بقاراتها تتحرك وتنجرف عن موقعها متباعدة أو متصادمة، وقد ثبت للعلماء هذا، وقد كانوا في حيرة من حيث تفسير كيفية حدوث هذه الانجرافات، حتى توصلوا إلى ذلك في منتصف السبعينات من القرن العشرين (المحرر العلمي).