وجه الإنسان.. مرآة نفسه وترجمان حاله
الأربعاء/أغسطس/2021
الوجه في اللغة:
ورد في “لسان العرب” لابن منظور (أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم) ما موجزه: الوجه: معروف، والجمع أوجه ووجوه. قال اللحياني: وقد تكون الأوجه للكثير. والوجه: المحيا. ووجه كل شيء: مستقبله، وقوله عز وجل: “كل شيء هالك إلا وجهه” ، قال الزجاج : أراد إلا إياه. وفي الحديث الشريف: (لتسوّون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) أراد وجوه القلوب. وفي حديث أبي الدرداء: (لا تفقه حتى ترى للقرآن وجوها) أي ترى له معاني يحتملها، فتهاب الإقدام عليه.. ويقال: هذا وجه الرأي، أي هو الرأي نفسه. والوجه والجهة بمعنى، والهاء عوض من الواو.
واتجه له رأي أي سنح. وإنه لسهل الوجه إذا لم يكن ظاهر الوجنة. ووجه النهار: أوله. ووجه النجم: ما بدا لك منه. ووجه الكلام: السبيل الذي تقصده به. وجاهاه إذا فاخره. والوجه: الجاه. ورجل وجيه: ذو وجاهة، ورجل موجه: ذو جاه وقد وجه وجاهة… ووجوه البلد: أشرافه. ووجوه القوم: سادتهم، واحدهم وجه، وكذلك وجهاؤهم، واحدهم وجيه. وصرف الشيء عن وجهه أي سننه. والجهة والوجهة جميعا: الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده. وتوجه إليه: ذهب. واتجه له رأي: أي سنح، ووجه إليه كذا: أرسله، ووجهته في حاجة. ووجهت وجهي لله وتوجهت نحوك وإليك. وفي حسن التدبير، يقال: ضرب وجه الأمر وعينه.. والمواجهة: المقابلة. والمواجهة: استقبالك الرجل بكلام أو وجه. والوجاه والتجاه: الوجه الذي تقصده. ولقيه وجاها ومواجهة: قابل وجهه بوجهه. وفي الحديث: ورجل ذو وجهين، إذا لقي بخلاف ما في قلبه. والتوجه: الإقبال والانهزام . وتوجه الرجل: ولى وكبر…
تحدث الدكتور/ محمد داود (في كتابه “جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية: دراسة دلالية ومعجم”, دار غريب للطباعة والنشر، ط1 ، 2007م) حديثا مفصلا عن مجموعة من تعبيرات الجسد، ستون (60) منها كانت الكلمة المحورية فيها هي الوجه. وأورد أهم معانى تعبيرات الوجه وملحقاته، ومنها: الذات، كما في تعبيريْ: وجه الله ، وجه جديد.. القصد والغاية، كما في تعبيرات: وجهى إلى الله، وجه الأمر، وجه الكلام، ثَنَى وَجهَهُ عن، صرفه عن وجهه.. الشرف والسيادة والكرم، كما في تعبيرات: فلانٌ وجه، له جاه، أغرُّ الوجه، حُرُّ الوجه.. ونقيض ذلك استعماله للدلالة على اللؤم: كما فى تعبير: فلانٌ عَبْدُ الوجه.. ومن التعبير بالوجه عن المشاعر: مشاعر الفرح والسرور والبشر، كما فى تعبيرات: برقت أسارير وجهه، تلالأ وجهه، مشرق الوجه، انبسطت أساريره، بيَّض وجْهَه.. مشاعر الحزن والغم، كما فى تعبيرات: اسوَدَّ وجهه، مُكْفَهِرُّ الوجه، انقبضت أساريره.. مشاعر الحب والمودة والصفاء، كما فى تعبيرات: ابتسم (هَشَّ) فى وجهه، بسط له وجهه، خلا له وجْهُه.. مشاعر الكراهية، كما فى تعبيريْ: شتيم الوجه، كالح الوجه.. مشاعر الخوف، كما فى تعبير: اصفرَّ وجهه.. مشاعر الخجل، كما فى تعبير: احْمَرّ وجههَ.. إلى غير هذا وذاك من المشاعر وتعبيراتها بالوجه…
سيماء الوجه في القرآن الكريم:
يقول الله تعالى: “مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)” (سورة الفتح)… السيماء والسيمياء: العلامة. والمراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود، وقوله تعالى: “مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ” يفسرها، أي: من التأثير الذي يؤثره السجود… أو لاحت علامات التهجُّد بالليل وأمارات السهر على وجوههم… وقال الحسن: هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وهكذا توضح الآية أن وجه الإنسان مرآة النفس، وأنه يمكن للإنسان أن يعرف حالة صاحبه بمجرد النظر إلى وجهه…
وفي سيماء الوجه، أيضا، يقول الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن المنافقين: “وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)” [سورة محمد]… “بِسِيمَاهُمْ” أي بعلاماتهم. قال أنس رضى الله عنه: ما خفي على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم… والسيماء، كما أوردنا، السمات والملامح وتقاسيم الوجه، وللمنافقين سيماء ينم عن كذبهم، علّمها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم…
وكما أن للمنافقين سيماء، فإن للمؤمنين المتعففين سيماء، كما في قول الله تعالى:“لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)” [سورة البقرة]... إن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم، وذلك إدراكات روحانية، لا علات جسمانية… وبالنسبة لهؤلاء الفقراء من الصحابة الذين نزلت فيهم الآية، فقد كانت سيماء وجوههم تظهر عليها آثار الفكر، فقد روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف… فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار. وهذا موجز ما ذهب إليه عدد من المفسرين .
بعض أعضاء الوجه في سورة البلد:
يقول الله تعالى: “أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)” (سورة البلد).. وردت هذه الآيات بعد الحديث عن غرور وغفلة الطاغين لتبين بعضا من أهم النعم المادية والمعنوية التي أنعم اللّه به على الإنسان، كي تدفعه إلى التفكير في خالق هذه النعم، وتحرّك روح الشكر في نفسه… إنها نعم العين واللسان والشفتين من جانب، ونعمة الهداية ومعرفة الخير والشرّ من جانب آخر. وقد تناولنا هذا النص الكريم تفصيلا في كتابنا “الأبصار والبصائر” (الكتاب الرابع في سلسلتنا “مفاتيح البيان لإشارات القرآن”- مطبعة بحر العلوم- الجيزة- مصر- ط 1- 2015م)، ولا بأس من اجتزاء بعض المعلومات منه الآن. فـ”العين” أهم وسيلة لاطلاع الإنسان على ما يحيط به، وللعين تراكيب دقيقة عجيبة ومدهشة، روعيت في خلقها القوانين الفزيائية والكيمياوية المتعلقة بالضوء وانعكاساته على أدق وجه، حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر متواضعة جدا بالمقابلة بهذا العضو.
أمّا “اللسان”، فهو تشريحيا عضو عضلي يوجد في الفم، وله تركيب تشريحي يمكّن الإنسان من تحريكه في كل الاتجاهات بحرية كبيرة, كما يستطيع تغيير شكل هذا اللسان وحجمه ووضعه بمرونة كبيرة كذلك... ويحتوي اللسان مُستقبلات للمواد الكيميائية التي يتناولها الإنسان في طعامه وشرابه ودوائه… ومن أهم وظائفه، أيضا، المساعدة في مضغ الطَّعام، ومزجه مع اللُّعاب نحو الأسنان… وللسان أهميته في الكلام ومخارج الحروف، وهو أحد المكونات الأساسية للنطق بالاضافة إلي الحنجرة, والأوتار الصوتية, والشفتين, والأسنان, والرئتين…
وأما “الشفتان” فهما من ملامح جمال الإنسان، ومن الناحية التشريحية، توجد حزمة متمركزة من العضلات اللافة حول كل من الشفتين, وهى واحدة من مجموعة العضلات المحددة لتعبيرات الوجه… وللشفتين دور مهم في النطق، وضبط مخارج الكثير من الحروف. وتتقلص الشفتان أو تتوسعان, وتتحرك في هذه العملية عضلات عديدة بشكل سريع حتي يتحقق النطق عند الإنسان... ولكل إنسان بصمة شفاه تميزه عن غيره. ولا تقل هذه البصمة في شأنها ودقتها عن بصمات البنان والعين والأذن والصوت والرائحة, أو حتى البصمة الوراثية…
الوجه وأهم قسماته وأحواله- كما ورد في القرآن الكريم:
نلتقي ببعض أوصاف الوجه وقسماته وأحواله وحركاته التي عثرنا عليها في آيات القرآن الكريم، ومصادرنا الأساسية في معاني الكلمات هى: معجم “مفردات ألفاظ القرآن” للراغب الأصفهاني (ت 502 هـ)، وتفاسير “الكشاف” لجار الله الزمخشري ( ت 538 هـ)، “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي (ت 606 هـ)، و”الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي (ت 671 هـ)، إضافة إلى مراجع سنثبتها في مواضعها:
إسلام الوجه دليل إخلاص التوجه: “فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)”[ سورة آل عمران] ...أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعوه إلها معه… وقيل: الوجه هنا بمعنى القصد، كما تقول: خرج فلان في وجه كذا.
إقامة الوجه دليل الإقبال على الله: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)” [سورة الروم] … اتبع الدّين الحنيف واتبع فطرة الله… فقوِّم وجهك له، غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً، وهو تمثيل لإقباله على الدين، واستقامته عليه، وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإنّ من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه، وسدّد إليه نظره، وقوّم له وجهه، مقبلاً به عليه… والخطاب بـ “أَقِمْ وَجَهَكَ” للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدِّين المستقيم…
تقلب الوجه لانشغال البال” :قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)” [سورة البقرة]… تردّد وجهك (الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وتصرف نظرك في جهة السماء، تحوّل وجهك إلى السماء، الزّجاج: تقلّب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وخصّ السماء بالذِّكر إذ هى مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوَحْي. والمراد بتقليب الوجه هنا تحويل وجهه عليه الصلاة والسلام عن جهته الأصلية وتردد نظره في السماء. وحركة تقليب الوجه في هذه الآية الكريمة تشي برغبة الرسول صلى الله عليه وسلم القوية في أن يوجهه ربّه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها. ولقد أجابه ربّه إلى ما يرضيه، والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود: “فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا”، ثم يعيّن له هذه القبلة “فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ” فهى قبلة له ولأمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(الدكتور/ يوسف بن عبد الله الأنصاري: مرجع سابق)…
ابيضاض الوجه بين الحقيقة والكناية: “يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)” [سورة آل عمران] ... يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوهُ المؤمنين مبيضّة ووجُوه الكافرين مسْوَدّة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذا قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته ٱستبشر وٱبيَضّ وجهُه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته ٱسودّ وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ٱبيضّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته ٱسودّ وجهه … والبياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وُسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت. وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسوّدتْ صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله…
اسوداد الوجه من الحزن والغم: “وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58)”[ سورة النحل] … أي أخبر أحدهم بولادة بنت، “ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً” أي متغيراً، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه من الكآبة والحياء من الناس. وليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقي مكروها: قد اسود وجهه غَمّا وحزنا، قاله الزجاج. وحكى الماوردي أن المراد سوادُ اللون. وهكذا توضح الآية أن الإنسان إذا أصابه الأسى والحزن أسود وجهه…
لطم الخد للدهشة أو الاستغراب: “فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)” [سورة الذاريات]... قال الحسن: أقبلت (زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام) إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، لأنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء. وقيل: صرتها قولها: أوه. وقيل: يا ويلتا. وعن عكرمة: رنتها “فَصَكَّتْ” فلطمت ببسط يديها، وقيل: فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب… فلما سمعت سارة البشارة (من الملائكة) صَكَّت وجهها، أي ضربت يدها على وجهها على عادة النّسوان عند التعجب، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال ابن عباس: صَكَّت وجهها لطمته. وأصل الصّك الضرب… والمراد بصك الوجه هنا أنها ضربت ولطمت بيديها وجهها فعل المتعجب… والتعبير بحركة صك الوجه يصور ما عليه حال زوجة إبراهيم عليه السلام من التعجب استعظاماً واستبعاداً لأن تلد ولداً… ولم تكتف (الآية) بهذه الحركة بل ضمت إليها أقوالاً تفصح عن استبعادها للإنجاب بقولها “وقالت عجوز عقيم” وهي جملة تنبيء عن دهشتها لهذه البشرى وهي عجوز، وقد كانت من الأصل عقيماً، وقد أخذتها المفاجأة العنيفة التي لم تكن تتوقعها أبداً، فنسيت أن هذه البشرى تحملها الملائكة (الدكتور/ يوسف بن عبد الله الأنصاري: مرجع سابق).
الانقلاب على الوجه: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)” ]سورة الحج[... ارتدّ فـانقلب علـى وجهه الذي كان علـيه من الكفر بـالله… قلب الشيء: تصريفه وصرفه عن وجه إلى وجه، كقلب الثوب، وقلب الإنسان، أي: صرفه عن طريقته… والانقلاب: الانصراف…
الكبّ على الوجه دليل التعثر: “أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22)”[سورة الملك]… دخل في الكب، وصار ذا كب. ومعناه: يمشي معتسفاً في مكان معتاد غير مستو، فيه انخفاض وارتفاع، فيعثر كل ساعة فيخر على وجهه منكباً، فحاله نقيض حال من يمشي سوياً، أي: قائماً سالماً من العثور والخرور. وفي هذه الآية الكريمة استعارة تمثيلية من خلال تشبيه حال الكافر بحالة مشي إنسان، وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة على اعتبار مشي المكب على وجهه مشياً على صراط معوج. ولا يخفى ما فيه الآية الكريمة من الكناية الموحية في قوله تعالى “يمشي مكباً على وجهه” فهو كناية عن التردي والضياع…
الإعراض بالوجه للرفض: “وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) “[ سورة الإسراء]… “أَعْرَضَ” عن ذكر الله، كأنه مستغن عنه مستبدّ بنفسه. والإعراض عن الشيء أن يوليه وجهه. وَنَأَى بِجَانِبِهِ تأكيد للإعراض، والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره… العرض: خلاف الطول، وأصله أن يقال في الأجسام، ثم يستعمل في غيرها. فإذا قيل: أعرض لي كذا. أي: عرضه فأمكن تناوله، وإذا قيل: أعرض عني، فمعناه: ولى مبديا عرضه…
الوجوه الناضرة المضيئة: “وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22)” [سورة القيامة]... النضرة: الحسن، كالنضارة… ونضر وجهه ينضر فهو ناضر، وقيل: نضر ينضر… ونضر الله وجهه. وأخضر ناضر: غصن حسن. والنضر والنضير: الذهب لنضارته… والنضرة النعمة، والناضر الناعم، والنضر الحسن من كل شيء، ومنه يقال للون إذا كان مشرقاً: ناضر، فيقال: أخضر ناضر، وكذلك في جميع الألوان، ومعناه الذي يكون له برق.. وألفاظ المفسرين مختلفة في تفسير الناضر، ومعناها واحد، قالوا: مسرورة، ناعمة، مضيئة، مسفرة، مشرقة بهجة. وقال الزجاج: نضرت بنعيم الجنة، كما قال الله تعالى: “تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ (24)” [سورة المطففين]. وهذه من صفات وجوه السعداء يوم القيامة…
الوجوه البهيجة: “وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ( ” [سورة الغاشية]… ذات بهجة وحسن أو متنعمة.. أي ذات نَعْمة. وهي وجوه المؤمنين يوم القيامة، نَعِمت بما عاينت من عاقبة أمرها وعملها الصالح. وهذه من صفات وجوه السعداء يوم القيامة…
الوجوه المشرقة الضاحكة: “وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)” [سورة عبس]... “مسفرة” أي مُشرقة مضيئة متهللة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. “ضَاحِكَةٌ” أي مسرورة فَرِحة.” مُّسْتَبْشِرَةٌ” أي بما آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخُراساني: “مُسْفِرة” من طول ما ٱغْبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نَعِيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ٱبن عباس: من قيام الليل… ومسفرة إشارة إلى الخلاص عن هذا العالم وتبعاته وأما الضاحكة والمستبشرة، فهما محمولتان على القوة النظرية والعملية، أو على وجدان المنفعة ووجدان التعظيم… وهذه من صفات وجوه السعداء يوم القيامة… كما ورد الضحك (وهو من حركات الوجه) في الدنيا، وقد حكى القرآن الكريم عن سليمان عليه السلام أنه حين سمع قول النملة وهى تحذر بني قومها من قدوم وسليمان وجنوده نحوهم فقد يحطمونهم بأقدامهم وهم لا يشعرون، يقول الله تعالى: “حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)” فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)”[سورة النمل]… تبسم سليمان شارعاً في الضحك وآخذاً فيه، يعني أنه قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم السلام… وقيل: إن تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها (أيْ النملة)، ولذلك أكد التبسم بقوله: “ضَاحِكاً”، إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا. وتبسم الضحك إنما هو عن سرور… وفي اللغة العربية يختلف الضحك عن الابتسام ولكن الارتباط بينهما كبير، وخاصة في دلالة الضحك وشموله للابتسام… وصدق الله العظيم الذي قال في كتابه العزيز: “وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)” ]سورة النجم[… فالذي أضحك وأبكى هو الخالق العظيم تبارك وتعالى…
الوجوه الذليلة:” وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3)” [سورة الغاشية]... “يَوْمَئِذٍ” أي يوم القيامة. “خَاشِعَةٌ” قال سفيان: أي ذليلة بالعذاب. وكل متضائلٍ ساكن خاشع… وصف لأهل الشقاوة، والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه، وهم الكفار… الوجوه الممكنة في هذه الصفات الثلاثة لا تزيد على ثلاثة، لأنه إما أن يقال: هذه الصفات بأسرها حاصلة في الآخرة، أو هي بأسرها حاصلة في الدنيا، أو بعضها في الآخرة وبعضها في الدنيا… وهذه من صفات وجوه الأشقياء يوم القيامة…
الوجوه المتجهمة العابسة: “وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا (72)” [سورة الحج]...ٱلْمُنْكَرَ الفظيع من التجهم والبسور. أو الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام… وهذه من صفات وجوه الأشقياء يوم القيامة… كما ورد “العبوس” في آيات قرآنية أخر مثلما ورد في وصف الوليد بن المغيرة، قوله تعالى: “إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)”[سورة المدثر ]…والعبوس مصدر من الفعل عبس يعبس عبسأً وعبوساً، يقال: عبس الرجل إذا قطب وجهه وما بين عينيه من شدة ضيق الصدر إظهاراً للغضب… يحصي القرآن لهذا الرجل جميع حركاته وخطراته، خطرة خطرة، وحركة حركة شاخصة كأنها فيلماً متحركاً يلتقط المشهد لمحة لمحة… إنها لمحات حية يثبتها التعبير القرآني في المخيلة أقوى مما تثبتها الريشة في اللوحة، وأجمل مما يعرضها الفيلم المتحرك على الأنظار، إنها لتدع صاحبها سخرية الساخرين أبد الدهر، وتثبت صورته الزرية في صلب الوجود تتملاها الأجيال بعد الأجيال. فإذا انتهى عرض هذه اللمحات الحية الشاخصة لهذا المخلوق المضحك، عقب عليها بالوعيد المفزع “سأصليه سقر”… (الدكتور/ يوسف بن عبد الله الأنصاري: مرجع سابق، بتصرّف)
الوجوه مطموسة المعالم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47)” [سورة النساء] … يقال: طَمَس الأثرُ وطَسَم أي ٱمّحى، وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين… واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية، هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين. أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسَلْبِهِم التوفيق؟ قولان: من قبل أن نضلكم إضلالاً لا تهتدون بعده، وبالتالي فهو تمثيل، وأنهم إن لم يؤمنوا فعل الله هذا بهم عقوبةً لهم. أو من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء، أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب، هذا معناه عند أهل اللغة. ورُوي عن ابن عباس: أن الطّمس أن تُزال العينان خاصّةً وتردّ في القفا، فيكون ذلك رَدّاً على الدبر ويمشي القَهْقَرَى… وقد يكون المقصود بالوجوه، رؤساؤهم ووجهاؤهم، فيكون الممعنى: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم أو نردهم إلى حيث جاؤا منه… وهذه من صفات وجوه الأشقياء يوم القيامة…
الوجوه الغابرة للغم: “وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)” [سورة عبس]...أي غبار ودخان، كناية عن تغير الوجه للغم .. وتزيدها الآية التالية “تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)” وضوحا، فـ “قَتَرَةٌ” أي كسوف وسواد، كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا: ذِلة وشِدّة. والقَتَر في كلام العرب: الغبار. وهذه من صفات وجوه الأشقياء يوم القيامة…
الوجوه المظلمة: “وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)” ]سورة يونس[ … أي أغشيت وجوههم قطعاً من الليل في حال ظلمته… كما شرح (الله) حال المسلمين في الآية المتقدمة، شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية، وذكر تعالى من أحوالهم أموراً أربعة. حكماء الإسلام قالوا: المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة، فإن العلم طبعه طبع النور، والجهل طبعه طبع الظلمة… وهذه من صفات وجوه الأشقياء يوم القيامة…
الوجوه العبوسة الكئيبة الكالحة: “فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27)”[ سورة الملك] ... فلما رأوه، يعني العذاب، وهو عذاب الآخرة. وقيل: أي رأوا ما وُعِدوا من الحشر قريباً منهم. وقال ابن عباس: لما رأوا عملهم السّيّىء قريباً. “سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ” أي فُعل بها السوء. وقال الزجاج: تُبُيِّن فيها السوء، أي ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سِمَةٌ تدلّ على كفرهم… أو ساءت رؤية الوعد وجوههم: بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة، وكلحوا، وكما يكون وجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب.. وفي قول الله تعالى: “وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)” [سورة المؤمنون] علامة أخرى من علامات الوجوه المعذبة يوم القيامة، فالكلح هو شدة عبوس الوجه وتكشيره وتقطب أعصاب الوجه وتقلص الشفتين عن الأسنان بسبب الخوف الشديد… وفي الوجوه العبوسة الكالحة يقول الله تعالى:” وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)” [سورة القيامة]... الباسر: الشديد العبوس… والمعنى أنها وجوه عابسة كالحة مقطبة مضطربة قلقة قد أظلمت ألوانها وعدمت آثار السرور والنعمة منها، لما أدركها من الشقاء واليأس من رحمة الله، ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار. وهذه من صفات وجوه الأشقياء يوم القيامة…
الوجوه العانية الذليلة: “وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)” [سورة طه ]… المراد بالوجوه وجوه العصاة، وأنهم إذا عاينوا – يوم القيامة – الخيبة والشقوة وسوء الحساب، صارت، وجوههم عانية، أي ذليلة خاشعة، مثل وجوه العناة وهم الأسارى، يقال: عنا يعنو عناء إذا صار أسيراً وذكر الله تعالى ٱلْوجُوه وأراد به المكلفين أنفسهم لأن قوله: وَعَنَتِ من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه، وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر… وهذه من صفات وجوه الأشقياء يوم القيامة…
“البـــكاء” من شئون الوجه، وقد ورد في عدة مواضع بالقرآن الكريم، كما في قوله تعالى: “وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)” [سورة النجم]، وفيه إشارة إلى بكاء عامة المخلوقات في العالم الذي خلقه الله سبحانه، إذ لم يحدد سبحانه في الآية الكريمة مَن أضحكهم ومن أبكاهم، وبالتالي فإننا نفهم أنه أضحك وأبكى كل المخلوقات… كما ورد “البكاء” في قول الله تعالى: “فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29)” [سورة الدخان]، وفيه خبر بأن السماء والأرض لم تبكيا، أو لم تحزنا، على هلاك قوم فرعون، وقد يكون المقصود هنا هم أهل السماء والأرض، أيْ المخلوقات التي بثها الله تعالى فيهما، فإنهم لم يبكون، ومن ثم لم يضحكون، لأن الضد يدل على الضد… هذا، وقد عرضنا للمواقع التي ذكر فيها البكاء في القرآن الكريم، وذلك في كتابنا “الأبصار والبصائر” (المشار إليه سابقا)..
العيون من أهم تراكيب الوجه، ولها حركات وإشارات وإيماءات شرحناها، أيضا، في كتابنا المشار إليه آنفا. وفي القرآن الكريم، وصفت العين بأمورٍ خاصَّة بها، ومنها: الطَّمس: “وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)” [سورة يس]… القِرى: “ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ (51)” [سورة الأحزاب]... المد: “وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ (131)” [سورة طه]… الازدراء: “وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا (31)” [سورة هود]... فيض الدَّمع: “تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)” [سورة التوبة]… التغطية: “الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي (101)” [سورة الكهف]… الدوران: “تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ (19)” [سورة الأحزاب]... اللَّذة: “وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ (71)” [سورة الزخرف]... إلى غير هذا وذاك من الأحوال المشروحة تفصيلا في كتابنا المشار إليه آنفا…
الخلاصة: القرآن الكريم قد أوضحت آياته أن الوجه مرآة النفس… وبعد نزول القرآن بمئات السنين توصلت البحوث الطبية والسيكولوجية الحديثة إلى ما أوضحه القرآن من قبل… يقول الدكتور/ جايلورد هاروز: (إن وجهك هو رسولك إلى العالم ومنه يمكن أن يتعرف الناس على حالك، بل يمكنك إذا نظرت إلى المرآة أن تعرف حالتك تحديداً وأن تسأل وجهك عم يحتاج إليه..)… ويقول الدكتور/ الكسيس كاريل: (إن شكل الوجه يتوقف على الحالة التي تكون عليها العضلات المنبسطة التي تتحرك داخل الدهن تحت الجلد وتتوقف حالة هذه العضلات على حالة الأفكار…. حقاً إن كل إنسان يستطيع أن يضفي على وجهه التعبير الذي يريد ولكن لا يحتفظ دائما بهذا القناع، ويتشكل وجهنا تدريجيا على الرغم منا وفقا لحالات شعورنا، ومع التقدم في السن يصبح صورة مطابقة لمشاعر الشخص برمته ورغباته وآماله…)