مرور الجبال كمرور السحاب
الخميس/يناير/2020
وَعَدَنَا الحق تبارك وتعالى في جملة مواضع بأن في القرآن أنباء ستتضح معانيها في مستقبل الأيام كآيات تثبت كل حين أنه الحق للعالمين؛ السابقين واللاحقين، نحو قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: 87-88]، وقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 67]، وقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ [النمل: 93]، إذن من القرآن ما يَحَار في دلالته الأولون ويفسره الزمان؛ حتى يستقر في الأذهان، ولم تكن البيئة العربية مؤهلة لِتُخَاطَب بعلوم الكون؛ وإن كانوا أبلغ فُصَحَاء عصرهم، ونصيب اللاحقين إذن يتعلق بكشف أسرار الكون قبل أن تنكشف للناس؛ وفق ما يُفِيدُه صريحًا قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
وفي قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88]؛ اجتهد البعض من الأعلام الأجلاء فحملوا الدلالة على المستقبل البعيد حين تدمير العالم استعدادًا للقيامة والحساب، وتردد البعض لأن السياق لا يُساعد، وجزم آخرون فقالوا أن الجبال تتحرك حقيقةً؛ وإن كان بخلاف ما يشاهدون لأنه قول الحق، وأنزل البعض حركة الجبال على حركة كوكب الأرض؛ باعتبار الجبال جزءًا منه، ولكن حركة الأجسام نسبية؛ والغلاف الهوائي المُمَيَّز بالسحاب تابع للكوكب؛ وكذلك الغلاف الصخري المُمَيَّز بالجبال، وإذا تحرك الكوكب تَحَرَّكَا معه، فلا يُمكن وصف حركة جزء إلا بالنسبة لآخر يُعتبر ثابتًا، ولا تصح نسبة حركة طبقة الجبال إلى الكوكب وهي تتحرك معه، والقرآن الكريم صريح في أن طبقة الجبال التي خلقت لاحقا تهيئةً للكوكب فوقه؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا﴾ [فصلت: 10]، وإنما تُنسب حركة الغلاف الصخري المُمَيَّز بالجبال إلى ما دونه؛ كما تُنسب حركة السحاب إلى طبقة الغلاف الصخري دونها، والمعنى إذن المُصَاغ بتلطف لا يلفت عن غرض بيان قدرة الله تعالى والعلم بما خلق؛ إيذانًا بيوم الحساب على ما فعل من خلق، هو أن الكوكب طبقات، والجبال العِظَام تحملها تيارات باطنية وتُحَرِّكَهَا ببطء، كما تحمل تيارات الهواء السحاب وتُحَرِّكُه ببطء.
ومختصر قول القاسمي: “قالوا المراد بهذه الآية تسيير الجبال.. يوم القيامة (ولكن) لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه لعدة وجوه: أن قوله {وترى} لا يناسب مقام التهويل والتخويف، وكذلك قوله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، وهذه الآية صريحة في إرادة الحال لأن خراب العالم لا يراه البشر، وإذا رآه أحد شعر به وهذا ينافي قوله تعالى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}؛ أما في الدنيا فلا نشعر بحركة الجبال لأننا نتحرك معها، وهذه الآية في سياق آية { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ } (سورة النمل 86)؛ اعتراض في تضاعيف أهوال القيامة، والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن ليكون ذلك دليلاً على قدرته على البعث؛ ولذلك ختم هذه الآية بقوله {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} فذكر هذه الأشياء في هذا السياق كذكر الدليل مع المدلول، أو الحجة مع الدعوى، فهذه الآية صريحة، وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام، حيث هو نقض وإهدام وليس صنع وإحكام، وهذا المرور وإن لم يكن مبصراً محسوساً، لكنه معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يُخْبَر به غيره من الأنبياء”.
وقال ابن عاشور: “هذه الآية معترضة من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد، ومر الجبال غير (السير) الذي في قوله تعالى: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } (سورة الكهف 47)؛ وقت اختلال نظام العالم، و(صنع الله) اعتبارًا بحالة نظامها المألوف، وفي مادة صنع معنى التركيب والإيجاد، والإتقان إجادة؛ والهدم لا يحتاج إلى إتقان، و(الذي أتقن كل شيء) تعميم؛ أي هو صنع عجيب مماثل لأمثاله من الصنائع الإلهية، وهذا يقتضي أن مر الجبال من نوع التكوين واستدامة النظام؛ وليس من نوع الخرم والتفكيك، وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان وجه تشبيه سير الجبال بسير السحاب، وفي هذا استدعاء لأهل العلم، فهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، وخص الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ادخار لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة، إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ، حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه؛ وجد أهل القرآن ذلك حقاً في كتابه، فاستلوا سيف الحجة به وكان في قرابه”.
وفي تفسير الخطيب: ” في الآية استعراض لبعض مظاهر قدرة الله وحكمته وتدبيره في خلقه، فهذه الجبال التي يراها الرائي فيحسبها جامدة هي في الواقع على غير هذا الظاهر؛ إنها تتحرك في انتظام كما يمر السحاب، حقيقة لا ترى بالعين، والتعبير (صُنْعَ اللَّهِ) فيه دعوة إلى البحث عن هذه الحقيقة؛ حقيقة كامنة تشهد بجلال الله، ولا تنكشف إلا بالعلم والنظر إلى ما خلف صفحة هذا الوجود من نظام، نظرًا يملأ القلوب روعةً وخشوعًا ورهبةً، والتعبير (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) تقرير لتأكيد روعة الصنعة وإحكامها بنظم مقدرة؛ وهذا لا يكون واقعا يوم القيامة والجبال وقد تناثرت أشلاء”.
وفي تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي: “البعض فهم الآية على أن مرَّ السحاب سيكون في الآخرة، وقد جانبه الصواب لأنها ستتفتت وتتناثر؛ لا أنها تمر، والكلام هنا مبنيٌّ على الظن {تَحْسَبُهَا} وليس في القيامة ظن؛ إذا قامتْ أحداثها مُتيقنةٌ، ومن الأدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال أن قوله تعالى {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}؛ امتنان من الله تعالى بصنعته، والله تعالى لا يمتنُّ بصنعته يوم القيامة؛ إنما الامتنان علينا الآن ونحن في الدنيا ببيان دلائل قدرته وعلمه، ونفهم من هذا القول الكريم أن حركة الجبال ليست ذاتيةً كما يتحرك السحاب تبعاً لحركة الرياح”.
وفي بداية القرن التاسع عشر لاحظ جورج إفرست George Everest أن قوة الجذب المُقاسة بميل البندول في جبال الهيميلايا بالهند أكبر من المُفترض بكثير، ولم يُعرف حينذاك السبب ولذا سميت الظاهرة المحيرة لغز الهند Puzzle of India. وفي عام 1855 استبعد جورج إيري George Airy أن تكون الجبال مثبتة على طبقة صلبة تحتها، فَمَهَّدَ للاستنتاج بأنها تطفو بالألواح القارية Plate Tectonics كالسفن قاعها عميق، حيث تمتد جذورها عميقًا في بحر من الصخور الحارة اللينة الأعلى كثافة؛ ورواسي السفن قديما هي صخور كبيرة تمتد عميقا تربطها حبال بجانبي السفينة لتثبيتها حتى لا تميد وتضطرب، فالدور الرئيسي إذن الذي تؤديه الجبال هو تثبيت ألواح الغلاف الصخري لا كوكب الأرض ذاته؛ والمعلوم أن لفظ الأرض في القرآن الكريم يأتي بدلالات متباينة يحددها السياق؛ كالكوكب والتربة والبلد، وقد يعني الغلاف الصخري المميز بالجبال أو ما يصطلح عليه في علوم الأرض Geology باسم الألواح القارية؛ وهو المعنى اللائق بجعل الجبال أوتادًا تثبت الأرض في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً﴾ [النبأ: 6-7]، وقد شاغب المتربصون وقالوا أن القرآن يصرح بثبات كوكب الأرض عن الحركة حول نفسه وحول الشمس في قوله تعالى: ﴿أَمّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾ [النمل: 61]، وقوله تعالى: ﴿اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً﴾ [غافر: 64]، وغفلوا عن تعدد دلالة لفظ (الأرض) بحسب قرائن السياق؛ وأنها لا تعني بالضرورة الكوكب، فلفظ (الأرض) في قوله تعالى: ﴿بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ [البقرة: 71]؛ في سياق يتعلق بوصف بقرة تثير الغبار أثناء أعمال الزراعة كالحرث وإدارة ساقية الماء يستقيم حمله على التربة لا الكوكب، ويستقيم حمل لفظ (الأرض) على الغلاف الصخري لا الكوكب؛ في سياق يتعلق بتمهيد غلافًا يحمي من الأخطار دونه بقرينة التمثيل بالبساط والمهاد في قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطاً﴾ [نوح: 19]، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً﴾ [النبأ: 6-7]؛ خاصة مع التمثيل بالرواسي في قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: 15+ لقمان:10]؛ وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ [الأنبياء: 31]، والسفن الطافية يمتد قاعها ورواسيها عميقا لئلا تميد فوق التيارات دونها، وهو نفس دور الجبال فوق تيارات عاتية دونها وفق صريح التعبير: ﴿أَأَمِنتُمْ مّن فِي السّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك: 16]، وتتحرك الألواح القارية ببطء ومعها الجبال، تدفعها تيارات الباطن؛ تمامًا كما تدفع تيارات الريح السحاب ليتحرك ببطء، ولا تفسير سوى الوحي لأوصاف القرآن الكريم تلك للغلاف الصخري وحركة قطعه المتجاورات التي تلتقي مع المعارف التي لم يدركها بشر سوى اليوم.
المراجع:
(1) تفسير القاسمي. (2) تفسير ابن عاشور. (3) تفسير الخطيب. (4) تفسير الشعراوي. (5) الموسوعة العربية العالمية. (6) موسوعة المعرفة. (7) Encyclopaedia Britannica 2008 Ultimate Reference Suite، (8) Encarta، (9) Wikipedia، (10) الانترنت.