“كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” بين التفسير اللغوي والرؤية الفلكية الحديثة

الجمعة/أغسطس/2025
الملخص:
تتناول هذه الدراسة تفسير قوله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ في سياق علم الفلك المعاصر، مركزة على دلالة لفظ “فلك” بصيغة المفرد، وصيغة الفعل “يسبحون” بصيغة جمع العاقل، ومدى تطابق ذلك مع الحقائق الكونية المكتشفة حديثًا حول حركة الشمس والقمر والأرض والنجوم داخل مجرة درب التبانة. كما تُعرض أقوال كبار المفسرين، من الطبري وابن كثير والقرطبي والآلوسي والرازي، ووجوه الإعجاز البياني والعلمي الكامنة في تركيب الآية.
الدلالة اللغوية في قوله تعالى ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
جاءت الآية في سورة الأنبياء: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وفيها بيان لحركة هذه الأجرام ضمن نظام دقيق. والكلمة المفتاحية “فلك” جاءت مفردة، مع أن الأجرام المذكورة متعددة، مما يفتح باب التأمل اللغوي والبلاغي.
قال الطبري: “الفلك كهيئة حديدة الرحى، يدورون كما يدور المغزل في الفلكة” [1]. وفسر مجاهد الفلك بأنه “كفلكة المغزل”، مما يعزز فكرة المدار المستدير [1]. أما ابن كثير، فنقل عن ابن عباس قوله: “يدورون كما يدور المغزل في الفلكة”، وأضاف: “لا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل” [2].
وأورد القرطبي أن “الفلك” هو كل شيء مستدير، وأصله من الدوران، كفلكة المغزل. وذكر أقوالًا أخرى: منها أنه “موج مكفوف تجري فيه الكواكب”، أو أنه “مدار هذه النجوم” [3]. وأشار إلى أن “السباحة” لا تقتصر على الماء، بل تشمل كل حركة انسيابية منتظمة.
أما الآلوسي، فقد نقل أقوالًا متعددة، أبرزها أن الفلك مدار الأجرام، وأن حركتها كسباحة الأسماك في الماء [4]. وأورد أن اختيار الفعل “يسبحون” بصيغة جمع العاقل يدل على انتظام حركتهم وكأنهم عقلاء يؤدون مهامًا منتظمة.
أما الفخر الرازي، فقد فصّل في المسألة، فقال: “لا يجوز أن يُقال: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ إلا ويكون الضمير عائدًا على الشمس والقمر والنجوم جميعًا” [5]. كما ناقش إمكانيات الحركة الفلكية وخلص إلى أن الأجرام “تجري كما تسبح السمكة في الماء”.
الفلك في العلم الحديث
كشفت الفيزياء الفلكية أن الشمس تتحرك في مدار حول مركز مجرة درب التبانة بسرعة تقارب 828,000 كم/الساعة، وتكمل دورة كل 225–250 مليون سنة. وقد نُشر هذا البحث في مجلة “Annual Review of Astronomy and Astrophysics”، وهي إحدى أهم المجلات العلمية الدورية وأعلاها تأثيرًا، حيث تقدم مراجعات بحثية متعمقة لأبرز الخبراء في مجال الفيزياء الفلكية [6].
- الأرض والقمر، وجميع كواكب المجموعة الشمسية، تتحرك مع الشمس داخل هذا المدار.
- الليل والنهار نتيجة دوران الأرض، لكن الأرض نفسها تسبح مع الشمس في الفضاء، مما يجعل الليل والنهار أيضًا ضمن هذا النظام المتحرك.
وهكذا، فإن الشمس والأرض والقمر – بل والليل والنهار – جميعها تسبح داخل فلك كوني واحد، هو مجرة درب التبانة. هذا يتفق تمامًا مع التعبير القرآني المعجز: “كلٌّ في فلك“ مفرد، و**”يسبحون”** جمع.
نمط السباحة الموجية:
كشفت الأبحاث الحديثة أن حركة الشمس ليست فقط دورانية، بل أيضًا تموجية صعودًا وهبوطًا حول المستوى المتوسط للمجرة، وفق نمط يشبه حركة السباحة، تصعد الشمس مسافة 49–93 فرسخًا فلكيًا فوق المستوى المجري، ثم تهبط تحته، في دورة تكرارية تمتد 26–37 مليون سنة. ونُشرت هذه النتائج في مجلة “The Astrophysical Journal”، وهي من أعرق المجلات العلمية المُحكّمة في العالم وأكثرها شهرة في مجال علوم الفلك والفيزياء الفلكية، وتصدر عن الجمعية الفلكية الأمريكية [7].وهذه الحركة تشمل معها المجموعة الشمسية كاملة: الأرض، القمر، والكواكب، ما يجعلها تسبح جماعيًا في حركة متموجة ثلاثية الأبعاد.
هذا يتوافق بدقة مع التعبير القرآني: ﴿يَسْبَحُونَ﴾، الذي لا يعني مجرد الدوران، بل الحركة الانسيابية ذات الطابع الموجي. فالسباحة لغةً تشمل الصعود والهبوط كما يفعل السابح في البحر، وهي حركة منضبطة في وسط غير صلب، مما يجعل وصف الأجرام السماوية بالسابحة تعبيرًا بالغ الدقة.
حركة الشمس في المجرة ليست دائرية فقط، بل متموجة صعودًا وهبوطًا حول المستوى المجري، كما يظهر بالخط الأخضر الحقيقي مقابل المسار الدائري المثالي بالخط المتقطع.
وجه الإعجاز العلمي والبلاغي
إفراد كلمة “فلك“:
- تأتي كلمة “فلك” بصيغة المفرد رغم أن الحركات الظاهرة للأجرام متعددة: الشمس تدور حول المجرة، والأرض حول الشمس، والقمر حول الأرض. ومع ذلك لم يقل القرآن: “كلٌّ في أفلاك”. وهذا يدل على أن هذه الحركات جميعها تجري داخل نظام كوني واحد هو فلك مجرة درب التبانة. فكل هذه الحركات الجزئية مدمجة داخل مسار مجري واحد، وليس في أفلاك مستقلة كما كان يُظن.
- الإفراد هنا إذًا إعجاز بياني يعبّر عن حقيقة كونية لم تُكتشف إلا في العصور الحديثة.
جمع العاقل في “يسبحون“:
- يُعبّر عن الحركة المنتظمة والمنسجمة، وكأنها صادرة عن إرادة ووعي.
- بلاغيًا، فيه تشريف لهذه الأجرام وإبراز دقة أدائها.
استخدام “السباحة” بدلاً من الدوران:
- السباحة تفيد الانسياب في وسط غير صلب، مع صعود وهبوط.
- وهذا يطابق الحركة الحقيقية للشمس والأرض والقمر في المجرة، والتي تتم وفق نمط ثلاثي الأبعاد يشمل الارتفاع والانخفاض، لا الدوران المسطح فقط.
رسم توضيحي لحركة الشمس حول مركز مجرة درب التبانة، مبيِّنًا تموجها صعوداً وهبوطاً عبر المستوى المجري.
رابعًا: آراء الفلاسفة حول حركة الأجرام
تناول الفلاسفة القدماء موضوع حركة الأجرام السماوية، فظهرت عدة تصورات:
- قال أرسطو (384–322 ق.م) إن السماوات تتحرك في دوائر كاملة وثابتة حول الأرض، ورأى أن الأجرام السماوية مثبتة في كرات صلبة شفافة (الأفلاك)، لا تتحرك بذاتها، بل تدور كجزء من فلكها [8].
- الفيلسوف بطليموس تبنّى هذا النموذج وأضاف له تعقيدات رياضية، مثل الدوائر التدويرية (epicycles)، ليُفسّر بها الظواهر الفلكية المرصودة، لكنه ظل متمسكًا بمركزية الأرض وعدم استقلال حركة الأجرام [9].
- فلاسفة الإسلام مثل الفارابي وابن سينا تأثروا بالنموذج الأرسطي، لكنهم أقرّوا بأن هذه الكرات ليست مادية بالمعنى الكامل، بل نورانية لا تقبل الخرق ولا التغير، واستمر هذا الفهم حتى جاءت الثورة الكوبرنيكية.
في المقابل، يُظهر النص القرآني أن الأجرام ليست مجرد أجسام ثابتة تتحرك كأجزاء من فلك، بل إنها “تسبح” – أي تتحرك بذاتها في فلك واسع غير صلب، مما يضع القرآن في موضع السبق على جميع النماذج الفلسفية آنذاك.
إنَّ التعبير القرآني في قوله: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يُمثِّل ذروة الإعجاز البياني والعلمي، حيث عبَّر عن وحدة النظام الكوني، وانسيابية حركة الأجرام، وترابطها في فلك واحد، بكلمات قليلة جامعة. وقد جاءت أقوال المفسرين لتعزز هذا الفهم عبر تصويرات دقيقة لحركة الأجرام، تتوافق اليوم بشكل مدهش مع ما أظهره علم الفلك من نظم مدارية مجرية مترابطة. وهذا التوافق بين الوحي والعلم شاهد جديد على أن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
المراجع:
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) ،ج16، ص،265 ، مركز البحوث والدراسات العربية والاسلامية القاهرة، 2001
- تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) 1-9 مع الفهارس ج5 ، ص297 ، دار الكتب العلمية 2018
- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن،ج6، ص158، دار الفكر للطباعة والنشروالتوزيع 2019
- تفسير الألوسي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) 1-11 مع الفهارس، ج7 ص38، دار الكتب العلمية 214
- تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب) 1-16 ج21-22 م11، ص176، دار الكتب العلمية 2020
- Bland-Hawthorn, J., & Gerhard, O. (2016). The Galaxy in Context: Structural, Kinematic, and Integrated Properties. Annual Review of Astronomy and Astrophysics, 54, 529–596. [DOI: 10.1146/annurev-astro-081915-023441]
- Gies, D. R., & Helsel, J. W. (2005). Ice Age Epochs and the Sun’s Path Through the Galaxy. The Astrophysical Journal, 626(2), 844–848. [DOI: 10.1086/430201]
- Aristotle, On the Heavens, Book II.
- Ptolemy, Almagest, ca. 150 AD.