صور من الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم
الأثنين/نوفمبر/2021
د.محمد العجرودي
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة للعالمين وبعد،،
وجه من أوجه إعجاز القرآن الكريم تأثيره على مخلوقات الله على اختلاف أشكالها.. فصنيع القرآن بالقلوب عجيب إذ له من الطمأنينة واستشعار الجمال بحال والمهابة واستشعار الجلال بحال آخر.. وكيف يجتمع الجمال مع الجلال أو الطمأنينة مع المهابة في كلام واحد إلا أن يكون قرآنا ؟
ولا عجب .. فكلام الله تعالى تتأثر به أقسى مخلوقات الله وأشدها وأصلبها وهي الجبال.. هذه الجبال الراسيات التي يثبت بها الله الأرض تخشع وتتصدع من خشية الله… بتأثير القرآن ، يقول رب العزة جل وعلا: “لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون” (الحشر 21).
والعجيب تأثير القرآن الكريم في عهد التنزيل على نساء المشركين وأطفالهم الذين تغشتهم سكينة القرآن فجمعتهم حوله، فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابتنى مسجدا بفناء داره ، وبَرز ، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم -والتقصف هو الازدحام والاكتظاظ- يَعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بَكّاءً لا يملك دَمعَهُ حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.[البخاري: 2297].
وليس النساء والأطفال فحسب الذين لامس القرآن شغاف قلوبهم فتأثروا والتفوا حوله ، بل من صناديد المشركين من تأثر بالقرآن تأثيرا عميقا .. فقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه أن جبير بن مطعم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يفاوضه في أسرى بدر، فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذا بالمسلمين في صلاة المغرب، وكان النبي إمامهم، فسمع جبير قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووصف كيف تأثر قلبيا وغلبت أحاسيسه سكينة القرآن، كما يقول هو:
(سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية “أم خُلقوا من غيرِ شيءِ أم همُ الخالقون، أم خَلَقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون” كاد قلبي أن يطير) [البخاري، 4854].
يا الله ! (كاد قلبي أن يطير !!)
أهكذا إعجاز التأثير عليه وهو مشرك ؟ وفي لحظة عداوة تستعر إثر إعياء القتال، وقد جاء يريد تسليمه أسرى الحرب؟
المعتاد أنه في خضم هذه الحالة يُستبعد أن يتأثر المرء بكلام خصمه، لكن للقرآن صنيع بالقلوب هزّه حتى كاد قلبه أن يطير على حد تعبيره ..
ومن مثل هذا شهادة الوليد بن المغيرة الشهيرة في القرآن المجيد وهو من ألد أعداء الإسلام آنذاك إذ قال: (إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه وما هو بكلام بشر).
وكذلك تأثير سماع القرآن الكريم في عتبة بن ربيعة الشهير بأبي الوليد والذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليه عروضا دنيوية ليصرفه عن الدعوة إلى دين الله.. فلما فرغ أسمعه النبي صلى الله عليه وسلم آيات صدر سورة فصلت فلما عاد للقوم وهم ينتظرون نتائج المفاوضات على أحر من الجمر وبدا عليه تأثير ما استمع إليه من آيات القرآن فقالوا : نقسم بالله أن أبا الوليد قد جاء بغير الوجه الذي ذهب به ! وسألوه : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ فقال: ورائى أنى سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعونى واجعلوها بى، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيى فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
أما الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم على المؤمنين، فلم تقتصر آثار المهابة القرآنية على قلوبهم فقط، بل امتدت إلى الجلود فصارت ترتجف وتقشعر من أثر جلال القرآن، وأثبت الله تعالى هذا التأثير الملموس على المؤمنين الذين يعيشون القرآن حين يسمعونه ، قال عز وجل: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد” (الزمر 23).
هذه مجرد نماذج يسيرة من الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم وصنيعه بالقلوب والأبدان والمعتقدات بل وتأثيره العجيب على كثير من مخلوقات الله كالجبال ..
إنما يتذكر أولو الألباب…
وما يعقلها إلا العالمون !