شبهة وجود الأحجار الكريمة في المياه العذبة
السبت/ديسمبر/2019
الشبهة حرفياً:
” مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
أليست هذه الحقيقة ظاهرة طبيعية معروفة لدى كل صياد بسيط يصيد في نهر عذب يصبّ ماءه في بحر مالح؟.. لقد قام محمد برحلات تجارية في خدمة خديجة، وسافر حتى حلب شمالي دمشق، ولعله في رحلةٍ من هذه ذهب إلى ساحل سوريا أو لبنان، وسمع من بحّار عن عدم امتزاج الماءين المالح والعذب.
وهل إذا صدق الإعجاز في النصف الأول من الآية يَصْدق أيضاً في النصف الثاني منها، والذي يقول إن اللؤلؤ والمرجان يخرجان منهما (أي العذب والمالح) وهو ما يخالف الحقائق العلمية ؟ “.
” مَرَج البحريْن يلتقيان، بينهما برْزخٌ لا يبغِيان، فبأيِّ آلاء ربكما تكذّبان، يخرج منهما اللؤلؤ والمَرْجان (آيات 19- 23). ومن كلٍ تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حِلْيةً تلبسونها (فاطر12).
أخطأ القرآن في تقرير أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من الماء المالح لا من العذب، ثم يقرر أنهما يخرجان من الاثنين معاً يخرج منهما أي العذب والمالح. وفي آية فاطر قرر نفس المعنى إذ قال ومن كلٍ (أي من البحرين) تأكلون لحماً طرياً وهذا صواب، لكنه أضاف وتستخرجون حِلْيةً تلبسونها أي اللؤلؤ والمرجان “.
الرد على الشبهة :
حار المفسرون في توجيه الآية الكريمة، فالقدماء لا يعلمون اللؤلؤ والمرجان إلا في البحار المالحة.[1]لكن تبيَّن بعد اكتشاف أراضٍ جديدة، وجود اللؤلؤ والمرجان.. وتبر الذهب ( الحُليّ )، في رواسب جداول وأنهار وبحيرات عذبة في أمريكا وشمال أوروبا.
وهذا من شواهد الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ودليل ربانية مصدره.
وسبحان منزل القرآن !
انظر المقال التالي: [2]
كنتُ أَعِسّ ( بتعبير ابني ) في أرجاء المشباك [ الإنترنت ] منذ أيام فإذا بي أجد نفسي في أحد المواقع وجهًا لوجهٍ أمام معجمٍ فرنسي عنوانه: “Dictionnaire des religions et des mouvements philosophiques associés“، فقلت: أَدْخُل وأُلْقِي نظرة لعلي أستفيد شيئا، فوجدت عنوانا جذبني إليه هو: “Coran et Sience” بقلم كاتبٍ اسمه yohanfraisلم يسبق أن سمعت به، فوقفت أحملق قليلا في العنوان، ثم استجمعت عزيمتي وتوكلت على الله وشرعت أقرأ، فألفيت أن الكاتب يتناول النصوص القرآنية التي يرى العلماءُ المسلمون أنها تتحدث عن موضوعات علمية، واقفا أمام كل نص من هذه النصوص محللا إياه لينتهي من التحليل إلى أنْ ليس في القرآن أي نص مما يمكن أن يقال عنه بحق إنه يتحدث عن موضوعٍ علمي . وفكرتُ في ترجمة أحد الموضوعات التي عالجها الكاتب تحت العنوان المذكور والتعليق عليه، واخترتُ الموضوع الخاص بما تتحدث عنه بعض آيات القرآن بشأن التقاء البحرين مع وجود برزخ يمنعهما أن يبغي أحدهما على الآخر.
وهذه أولاً ترجمتي للنص المذكور:
” تحدث القرآن في ثلاثة مواضع منه عن حاجزٍ يفصل بين بحرين عَذْبٍ ومِلْحٍ يلتقيان دون أن يمتزج أحدهما بالآخر (الفرقان/ 53، وفاطر/ 12، والرحمن/ 19- 21). وهذه هي النصوص المذكورة:
1- “مَرَجَ البحرين يلتقيان* بينهما برزخٌ لا يبغيان* فبأي آلاء ربكما تكذّبان؟” (الرحمن/ 19- 21).وجدير بالذكر أن كلمة “برزخ” المترجمة هنا بـ”zone intermediaire” تعني : “فاصلا، حاجزا، خندقا، مانعا، عائقا، بوغازا”. 2- “وهو الذي مرج البحرين: هذا عذبٌ فراتٌ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ، وجعل بينهما برزخا وحِجْرًا محجورا” (الفرقان/ 53). 3- “وما يستوي البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ. ومن كلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا، وتستخرجون حِلْيَةً تلبسونها. وترى الفُلْك مواخرَ فيه، ولِتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون” (فاطر/ 12).
وحسبما يقول بعض المفسرين فإن هذه الآيات تكشف عن وجود مانع يحول دون اختلاط مياه الأنهار عند مصابها بمياه البحار، لأن هذا الاختلاط لا يتم في حالاتٍ معينةٍ إلا في عُرْض البحر بعيدا عن الشاطئ. ومن الممكن أن يكون هذا صحيحا، لكنْ أَلَسْنا هنا بإزاء ملاحظة بسيطة لظاهرة طبيعية يعرفها كل أحد، ألا وهي عدم اختلاط مياه دجلة والفرات بمياه البحر مباشرةً عند مصبهما في الخليج الفارسي ؟ ومن الممكن أن نلاحظ عند مدينة البصرة بالعراق كيف أن مياه دجلة العذبة تصبّ في المحيط الهادي . وفي حالات المدّ العالي نشاهد طبقة مائية مالحة ذات لون أخضر تلامس طبقة من ماءٍ عذبٍ ضاربٍ إلى الحمرة دون أن يكون بينهما أدنى امتزاج. ولا شك أن القارئ يوافقني على أن هذا المشهد المثير للاهتمام بالنسبة لنا اليوم لا بد أنه كان شيئا هائلا في نظر أهل القرن السابع الميلادي !
والآن علينا أن ننظر فيما تقوله لنا الحكاية الأسطورية البابلية التالية التي يرجع تاريخها لما قبل القرآن بثلاثة آلاف من الأعوام: “في البدء لم يكن هناك إلا “نامُّو” التي كانت تتخذ صورة البحر الأصلي ، أو فلنقل: المحيط الكوني . وقد أنجبت “نامُّو” هذه “أَنْ” (السماء)، و”كِي ” (الأرض)… وأخيرا “أونكي ” الإله الخاص بالماء العذب الذي كان يناوئ الماء الملح في نامّو (البحر الأصلي )، فكان لا بد أن يُنْقَل إلى السماء على هيئة مطر”.
ومن هذه الحكاية يتبين أن القرآن لم يكشف لنا شيئا في الواقع! وإذا كان بعض المسلمين يزعمون أن هذه الآيات القرآنية تكشف عن إحدى الحقائق العلمية، فينبغي حينئذ أن نتخذ نفس الموقف إزاء الأساطير البابلية، وأن نستخلص أن ثمة وحيًا كان ينزل على البابليين الوثنيين أيضا. إنني لا أتصور أنه ينبغي الوصول في تفكيرنا إلى هذا المدى، بل كل ما علينا هو أن نكون شرفاء وأن نصرّ على القول بأن هذه الآيات لم تنبع إلا من ملاحظة بسيطة لظاهرة من الظواهر الطبيعية تحدَّث عنها ناس آخرون ينتمون لحضارات سابقة على محمد بآلاف السنين.
كذلك لا بد من التنبيه إلى أن هناك مفسِّرين آخرين قد ذهبوا أبعد من هذا وادّعَوْا أن القرآن يكشف لنا هنا عن وجود طبقات مائية يختلف بعضها عن بعض في درجة حرارتها، وفي ملوحتها، وفي كائناتها الحية، وفي مدى ذوبان الأوكسيجين فيها…إلخ. والآن لنفحصْ ما قاله القرآن: إنه يتحدث هنا عن عدم اختلاط الماء الحلو (العذب الفُرَات السائغ شرابه) بالماء المِلْح (الأُجَاج)، بيد أنه لا يقول شيئا عن اختلاف درجات الحرارة أو الكائنات الحية أو ذوبان الأوكسيجين. إن هذا كلام لا أساس له في القرآن في الوقت الذي يصف نفسه فيه بأنه تبيان وتفصيل لكل شيء، وأنه ما من شيء إلا وهو موجود في آياته.
إن القرآن إنما يتحدث عن ماء عذب سائغ شرابه، لكن هذا القول شيء، والقول بوجود بحار عذبة شيء آخر! ذلك أنه من الخطورة بمكان على البشر أن يعتقدوا في مثل هذه الأشياء، فشرب الماء المالح في الواقع من شأنه أن يجعل الشخص عرضة للجنون… ومما لا ريب فيه أن البحث في القرآن عن الحقائق العلمية هو أمر ليس في صالحه، وبخاصة إذا وضعنا في الاعتبار ما قلناه قبلا من أنه إذا استمر البعض في الزعم مع ذلك بوجود إشارات علمية في القرآن، فينبغي أن نقف ذات الموقف من الأسطورة البابلية، وهو ما يترتب عليه أن القرآن لم يُوحِ في هذا المجال بشيء، وأنه لم يزد على أن ردّد ما قالته تلك الأسطورة قبله بما يزيد على ثلاثة آلاف عام! وهكذا نجد أنفسنا قد وصلنا إلى نفس النتيجة، ألا وهي أن الآيات القرآنية لا تقدم لنا شيئا آخر غير الملاحظة البسيطة لإحدى الظواهر الطبيعية.
وفي الختام نحب أن نؤكد أنه خلافا لما يؤكده بعض المفسرين المسلمين فإن قراءة تلك الآيات يترتب عليها جهل وتخليط من شأنه، إذا نظرنا إليه على أنه معجزة علمية، الإضرار حتى بحياة الإنسان (جرّاء الاعتقاد بوجود بحار ذات ماء عذب). ولكن إذا أصر البعض مع ذلك على أن يَرَوْا في هذه الآيات كشفا علميا، فعليهم في هذه الحالة أن ينظروا إلى الحكاية البابلية بنفس العين… وهكذا تُخْتَزَل المعجزة القرآنية الوحيدة فلا تعدو أن تكون تكرارا لما سبق أن قاله الآخرون من قبل…”.
وأول كل شيء نفعله بعد أن ترجمنا ما قاله الكاتب هو أن نبين الأخطاء المعرفية والمنهجية التي وقع فيها: فقد ذكر أن في كتاب الله ثلاثة مواضع تتحدث عن حاجز يفصل بين بحرين عذبٍ وملحٍ يلتقيان دون أن يقع بينهما مع ذلك أي تمازج، وهي : الفرقان/ 53، وفاطر/ 12، والرحمن/ 19-21. ونظرة سريعة إلى الآيات التي استشهد بها تدلنا على أنه لا توجد في سورة “فاطر” أية إشارة إلى الحاجز المذكور، إذ الكلام فيها مقصور على الاختلاف الملاحَظ بين ماء البحر وماء النهر. ومع ذلك فهناك فعلا نص ثالث في القرآن الكريم يشير إلى وجود مثل هذا الحاجز لم يذكره الكاتب، ألا وهو قوله تعالى في الآية 61 من سورة النمل: ” أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ “، فهذه واحدة.
أما الثانية فهي مقارنة الكاتب بين ما جاء في الأسطورة البابلية وما ذكرته النصوص القرآنية، والخروج من ذلك بأن القرآن لم يأت بشيء جديد، فها هي ذي الأسطورة البابلية قد سبقته منذ بضعة آلاف من الأعوام إلى هذا الذي قال. والواقع أنه لا وجه للمقارنة بين النصين، فالحكاية الخرافية تتحدث عن خلاف بين الماء المالح والماء العذب استتبع رفع الماء العذب إلى طبقات الجو العليا وتحويله إلى أمطار. فأين في القرآن ما يمكن أن نقارن به هذا الكلام؟ إن القرآن يتحدث عن إجرائه تعالى البحر والنهر بما يؤدي إلى التقائهما، ولكن دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وهذا شيء مغاير تماما لما جاء في الخرافة البابلية، وهو من الوضوح بمكان، ولا أدرى كيف سقط الكاتب الهمام في هذه الغلطة! ثم هل الماء العذب مقصور على طبقات الجو العليا؟ فماذا نقول في الأنهار والجداول والآبار والعيون إذن؟
وهنا نأتي إلى الخطأ الثالث الذي ارتكبه المؤلف، وهو ما فهمه من أن الآيات القرآنية تتحدث عن التقاء بين النهر والبحر دون أن يتم بينهما امتزاج، وهذا الزعم أيضا لا وجود له في القرآن. القرآن يقول إنه قد جعل بين البحرين (أي البحر والنهر) حاجزا أو برزخا يمنعهما من طغيان أي منهما على الآخر، لكنه لم يقل إنه لا يحدث بينهما امتزاج عند اللقاء. وسوف أوضح هذا المعنى فيما بعد، لكني أحب أن أركز هنا على أن الكاتب قد نسب للقرآن ما لم يقله القرآن! لقد فهم النصَّ القرآني خطأً أو اعتمد على ترجمةٍ فهم صاحبُها ذلك النصّ فهمًا خاطئًا، فكان أَنْ خطّأ القرآن الكريم، والقرآن من الخطإ براء! وقد يكون تعمَّد هذا تعمُّدا!
وهناك خطأ رابع وقع فيه الكاتب أيضا، وهو محاسبة النص القرآني على أساسٍ من فهم بعض المفسِّرين المسلمين كما قال. ولعله يقصد د. موريس بوكاي الطبيب الفرنسي المسلم الذي فسّر الآيات القرآنية المذكورة على أساس أن المقصود بالبحرين هما دجلة والفرات من جهة، والخليج العربي من جهة أخرى، وسوف أعود إلى هذه النقطة لاحقًا (انظر موريس بوكاي / القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم/ دار المعارف/القاهرة/ 1982م/ 205). وليس في النصوص القرآنية ما يُفْهَم منه أن ذلك هو معنى البحرين الواردين فيها، ومن ثَمَّ فليس للكاتب أي عذر في التهكم الذي وجَّهه للقرآن حين أكد أن ما يقوله الكتاب الكريم في هذا الشأن لا يزيد عن ملاحظةٍ بسيطةٍ جدا لظاهرة طبيعية يمكن كلَّ من يقف عند مصب هذين النهرين في الخليج العربي أن يلاحظها، وأن الخرافاتِ البابليةَ قد سبقت القرآنَ إلى هذه الملاحظة منذ آلاف السنين، فلا إعجاز إذن ولا يحزنون!
ثم خطأٌ خامس، وهو أن كاتبنا يشير إلى مسألة وجود طبقتين من الماء في حالات المدّ العالي إحداهما طبقة مالحة خضراء اللون تلامس طبقة عذبة مائلة للحمرة دون أن تمتزج بها بوصفها أمرا يستطيع الرجل العادي أن يلاحظه بسهولة، وهو ما لا أظنه أبدًا صحيحا، وإلا لذكره كل إنسان، ودعنا من أنه كان من سكان البصرة في أيام ازدهار الثقافة الإسلامية علماء أجلاء وشعراء وأدباء كمحمد بن سيرين (مولى أنس بن مالك) والحسن البصري وعمرو بن عبيد والفرزدق وجرير وقَطَرِي بن الفُجَاءة ورؤبة بن العجّاج وبشار وأبي نُوَاس وابن المقفَّع والأصمعي والمفضَّل الضّبَّي والخليل بن أحمد وسيبويه والنظّام وواصل بن عطاء والجاحظ وابن سلام وابن قتيبة وابن دُرَيْد والباقلاني مثلا ممن لم يكن من الممكن أن تفوتهم ملاحظة مثل هذه الظاهرة لو كان إدراكها سهلا إلى هذا الحد الذي يصوره لنا الكاتب، وبخاصة أنها كانت بالنسبة للقدماء أمرا هائلا كما يقول. والحقيقة أن هذه الملاحظة لم يتنبه لها إلا العلماء في العصر الحديث بعد رحلات وأبحاث ودراسات مضنية استعانوا فيها بآلات التصوير الحراري التي لم يكن لها أي وجود قبل القرن العشرين حسبما كتب العلماء المسلمون في هذه المسألة على ما سيأتي بيانه، ولولا الصورة المرفقة لحالة المدّ المشار إليها لما دار ذلك بخاطري ، أما بالنسبة للقدماء فلم تكن لتلفت أنظارهم لأنها ليست مما يُدْرَك بالعين المجردة على خلاف ما يحاول الكاتب أن يوهم قراءه. وحتى لو غالطنا أنفسنا كما يريد منا وقلنا إنها قد لفتت منهم الأنظار، فكيف يا ترى كان لهم أن يعرفوا أن اللونين المختلفين يمثلان طبقتين من الماء إحداهما حلوة، والأخرى مالحة؟ وعلى أية حال فلم يكن الرسول من سكان منطقة البصرة حيث كان من الممكن أن يشاهد هذه الظاهرة لو كانت مشاهدتها ممكنة بالنسبة للرجل العادي فعلا كما يزعم الكاتب، بل كان عليه السلام من سكان مكة آنذاك، ومن ثم فلا يمكن أن يقال إنه في هذه النصوص القرآنية قد تكلم عن ملاحظة بسيطة لظاهرة طبيعية يعرفها كل أحد!
والواقع أني لم أكتف بهذا، بل ذهبتُ فقلّبت كل ما أتيح لي من “معاجم البلدان” وقرأت ما كُتِب فيها عن “البصرة” ونَهْرَيْها لعلي أعثر على ما يمكن أن يُفْهَم منه، ولو على سبيل التأويل والتمحُّل البعيد، أن أجدادنا قد لاحظوا هذه الظاهرة التي يصرّ الكاتب في جرأة عجيبة على أنها مما تراه العين العادية للرجل العادي ، فلم أجد شيئا بالمرة. ومن الكتب التي راجعتُها لهذا الغرض: “المسالك والممالك” لابن خرداذبة (من أهل القرن الثالث الهجري )، و”الأعلاق النفيسة” لابن رستة (من أهل القرن الثالث الهجري أيضا)، و”معجم البلدان” لياقوت الحموي (من أهل القرنين الساس والسابع)، و”أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” للمقدسي (من أهل القرن السابع)، و”آثار البلاد وأخبار العباد” للقزويني (من أهل القرن السابع أيضا)، و”الروض المعطار في خبر الأقطار” لمحمد بن عبد المنعم الحِمْيَري (من أهل القرنين السابع والثامن)، و”مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” لابن فضل الله العُمَري (من أهل القرن الثامن الهجري ) و”Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia” لــJ. G. Lorimer(من أهل القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين). ولقد تناول كلامُ هؤلاء الكتاب عن البصرة موقعَها وتاريخَها وجوّها وأنهارَها وأطعمتها وسكانها ومشاهيرَها وحيوانها وطيورَها ومَدّها وجَزْرها وما قيل في مدحها وذمها، لكني لم أقرأ كلمة واحدة، كلمة واحدة يتيمة، عن تلك الظاهرة التي ادَّعى الكاتب أنها مما لوحظ من قديم الزمان قبل القرآن ببضعة آلاف من السنين، رغم أن بعض هؤلاء الكتاب قد أورد في الحديث عن مدّها وجَزْرها الخرافات والأساطير مثل المقدسي ، الذي نقل ما سمعه من أن ثمة مَلَكًا إذا وضع إصبعه في النهر حدث المدّ، وإذا رفعه جاء الجَزْر، أو أن الحوت إذا أخذ نفَسا سحب الماء إلى منخريه فكان الجَزْر، فإذا أخرجه كان المدّ” (المقدسي / أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم/ ط2/ بِرِيل/ 1906م/ 3)! بل لقد تحدث القزويني عن ملوحة ماء البصرة قائلا: “وماء دجلة والفرات إذا انتهى إلى البصرة خالطه ماء البحر فيصير ملحا” (القزويني / آثار البلاد وأخبار العباد/ دار صادر ودار بيروت/ 1389هــ- 1969م/ 309)، أي أنه قد اقترب تماما من النقطة التي نتحدث عنها الآن، ورغم هذا فإنه لم ينبس بأي شيء مما يزعم الكاتب أنه ظاهرة طبيعية بسيطة لاحظها القدماء بكل سهولة، وليس فيها ما يمكن أن يُعَدّ إعجازا بحال! إن الزعم أمرٌ هيّن الشأن لا يكلف صاحبه شيئا، بخلاف البناء والتثبت، فإنه يتعب من يرومه ويجشّمه من أمره جهدا ومشقّة ونَصَبا. إن كاتبنا لم يكلف نفسه أكثر من أنه تركها تزعم ما يحلو لها دون أن تقدِّم على ما تقول أي برهان، وهو أمر لا يعجز عنه أي شخص مهما يكن حظه من العلم، أو فلنقل بالأحرى: مهما يكن حظه من الجهل. كل ما هنالك أنه ينبغي أن يتدرع بالاندفاع واللامبالاة، ثم لا عليه بعد ذلك من شيء! أما الذين يحرصون على سمعتهم ويلتزمون بقِيَم الدين والعلم والخلق الكريم فلا يستطيعون أن يخطّوا حرفا إلا بعد اللَّتَيّا والتي خشيةَ الخطإ وتحرُّزًا من الوقوع في التدليس. وصدق المثل القائل إنّ رَمْى حجر في بئر لا يحتاج إلى أكثر من مجنون واحد، أما إخراج الحَجَر من البئر فيحتاج إلى ألف عاقل!
ثم يضيف الكاتب أن من المسلمين من يقول بوجود بحارٍ ذات ماء عذب صالح للشرب ( eau de mer potable)، قائلا إن الاعتقاد بهذا والشرب بناء عليه من ماء البحر المالح يؤدي إلى الجنون. ولست أدري من أين أتى الكاتب بهذا الكلام الذي ينسبه لبعض المفسرين المسلمين. لقد كان ينبغي أن يذكر لنا أسماء من قالوا بذلك ويحدد السياق الذي ورد كلامهم فيه، وعلى أي أساس قالوه. أما أن يتركنا في عماية من الأمر متصورا أننا ينبغي أن نلقي إليه بمقاليد طاعتنا ونصغي إليه أسماعنا وأفئدتنا دون دليل أو توضيح فأمر لا يصحّ، ومن شأنه أن يدفعنا إلى تكذيبه فيما يقول نظرا لغرابته البالغة، إذ لا يعقل أن يكون بين المفسرين المسلمين في العصر الحديث ولا في أي عصر آخر من يُقْدِم على كتابة هذا الكلام المضحك مهما تبلغ قلة بضاعته من المعرفة. إن هذا الكلام يعرف كذبَه أي عامي فَدْم، فما بالنا بمن يتصدى لتفسير كتاب الله المجيد؟ ولقد رجعتُ إلى ما نشره “موقع الإيمان على شبكة الإنترنت” في هذا الموضوع فوجدت ما أورده الكاتب المذكور وعمل على تفنيده من تفسير علماء المسلمين المعاصرين للآيات القرآنية التي نحن بصددها، لكني لم أعثر البتة على أي شيء يومئ من قريب أو من بعيد ولو على سبيل التوهم إلى ما يمكن أن يُفْهَم منه أنهم يقولون بوجود بحارٍ (بحارٍ كالبحر المتوسط أو البحر الأحمر أو بحر قزوين أو خليج المكسيك أو المحيط الهندى أو الأطلسي مثلا) ذات مياه عذبة، بل الذي قالوه، وهو صحيح مائة في المائة على ما سنوضّح لاحقا، هو أن كلمة “البحر” قد تُطْلَق في لسان العرب على ما نسميه عادة: “النهر”. وهذا غير ذاك كما هو واضح، لكن الكاتب إما أنه لم يفهم كلامهم، وهو ما أستبعده لأنه قد فهم بقية ما قالوه فهما سليما يدل على أنه يعرف ماذا قالوا بالضبط سواء اطّلع عليه مباشرة في لغته الأصلية أو ترجمه له مترجم، وإما أنه فهم هذا الكلام لكنه أراد السخرية والتشكيك فيما قالوه برُمّته لينعكس ذلك على نظرة قارئ كلامه للقرآن أيضا، وهذا ما أرجّحه.
وقد استخدم القرآن كلمة “البحرين” للدلالة على ما نعرفه الآن بــ“النهر والبحر”،إذ “البحر” في اللغة العربية “هو الماءُ الكثيرُ، مِلْحًا كان أو عَذْبًا، وهو خلافُ البَرِّ، أو هو المِلْحُ فَقَطْ، وقد غَلَب عليه حتى قَلَّ في العَذْب” حسبما نقرأ في “لسان العرب” و”تاج العروس” وغيرهما من المعاجم. وقد يكون الكتاب المجيد استخدمها على سبيل التغليب كقولنا مثلا: “العُمَران” لأبي بكر وعمر، و”الحَسَنان” للحسن والحسين، و”القَمَران” للشمس والقمر، و”الأَبَوان” للأب والأم. فقول علمائنا إن البحر قد يكون عذب الماء كما قد يكون مالحها هو كلام لا خطأ فيه، ولا يمكن أن يتوهم متوهم أنهم يقصدون أن الماء الملح يطفئ الظمأ حتى يخاف كاتبنا على البشر من هذا أن يصيبهم الجنون جرَّاءَ تصديقهم لذلك الكلام وكَرْعهم من ثَمّ من هذا الماء، بل المقصود هو ما نعرفه الآن بــ”النهر”، وهذا كل ما هنالك. ونحن في مصر كثيرا ما نطلق على “النهر” اسم الــ”بحر” كقولنا: “بحر النيل”، وفي قريتنا “كتامة الغابة” بمحافظة الغربية نسمي الترعة الواصلة بين بلدنا وطنطا: “بحر عاص”، كما نسمى الترعة الأخرى التي تمر بالقرب من “شفاقرون” المجاورة لنا: “بحر شفاقرون”. وبالمثل نسمع الناس يقولون لفرع النيل القريب من “بسيون”: “بحر القُضّابة” على اسم قرية “القُضّابة” التي تقع عليه، ولفرع النيل المارّ بدسوق: “بحر سيدي إبراهيم” على اسم إبراهيم الدسوقي الولي المعروف المدفون بالمدينة المذكورة، وللترعة التي تقوم على شاطئها قرية “سديمة”: “بحر سيدي أبو اليزيد” على اسم “أبو اليزيد البسطامي “، إذ في اعتقاد أهل المنطقة أن الضريح الموجود في تلك البلدة هو لذلك الصوفي المشهور. ويوجد في القاهرة شارع اسمه “شارع البحر الأعظم”، كما يوجد في طنطا شارع يسمَّى: “شارع البحر” إشارة إلى ما كان يوجد في كل من المكانين من مجرًى للنيل. ولهذه الحكمة ذاتها كان العامة في مصر يسمّون “البحر المتوسط”: “البحر المالح”، وهو دليل آخر على أن هناك في أذهانهم “بحرا عذبا” مثلما أن هناك “بحرا مالحا”. بل لقد وجدت بدر الدين العيني يستخدم هذه التسمية في كتابه: “عِقْد الجُمان في تاريخ أهل الزمان” عدة مرات، ومرة واحدة على الأقل تسمية “البحر المِلْح”. كذلك استعمل نشوان الحميري هذه التسمية الأخيرة في “الروض المعطار في خير الأقطار” عند تعريفه بمدينة “الإسكندرية”، وذلك في قوله: “مدينة عظيمة من ديار مصر بناها الإسكندر بن فيلبش فنسبت إليه، وهي على ساحل البحر الملح”. وبالمثل نقرأ في “ثمرات الأوراق” لابن حجة الحموي أن ملك بحر الأردن خاف على ابنته من أردشير حين أرسل يخطبها منه فــ” أرسلها إلى بعض الجزائر في البحر الملح”. وهذه مجرد أمثلة قليلة. وإذا كانت كلمة “mer” الفرنسية لا تعني إلا البحر الملح، فينبغي ألا نحمّل لغة الضاد هذه المسؤولية، فلكلّ لغةٍ أوضاعها التي كثيرا ما تختلف فيها وبها عن غيرها من اللغات كما هو معروف.
ومن الشواهد التي تجري هذا المجرى قوله تعالى: ” أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا” (المائدة/ 96)، ومعروف أن السمك يخرج من البحر والنهر كليهما لا من البحر فقط، وكذلك قوله عز شأنه: ” قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ …؟ ” (الأنعام/ 63)، حيث وُضِع البحر مقابل البرّ مما يدل على أن المقصود به النهر والبحر معا. وقرأت في “الحيوان” للجاحظ هذه العبارة: “ومررتُ به وهو جالسٌ في يوم غِمق حارٍّ ومِدٍ، على باب داره في شروع نهر الجُوبار بأردية، وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه”. فانظر كيف ذكر أولا “النهر”، ثم كيف سماه بعد ذلك: “”بحرا”. وجاء في “كتاب الصناعتين” لأبي هلال العسكري : “ولولا كراهةُ الإطالة وتخوف الإملال لَزِدْتُ من هذا النوع، ولكن يكفي من البحر جرعة”. والبحر هنا لا يمكن أن يكون إلا الماء العذب، فالإنسان لا يجرع إلا من النهر. وفي “الفرج بعد الشدة” للقاضي التنوخي نقرأ هذه العبارة: “فلا شدة أعظم من أن يُبْتَلَي الناس بمَلِكٍ يذبّح أبناءهم، حتى ألقت أم موسى ابنها في البحر مع طفوليته، ولا شدة أعظم من حصول طِفْل في البحر”. ويقول الشابشتي في وصف دير القصير بمصر من كتاب “الدِّيَارات”: “وهو مطل على القرية المعروفة بشهران وعلى الصحراء والبحر. وهذه القرية المذكورة قرية كبيرة عامرة على شاطىء البحر، ويذكرون أن موسى uولد فيها، ومنها ألقته أمه إلى البحر في التابوت”. ويقول أيضا عن “دير طمويه”: “وطمويه في الغرب بإزاء حلوان. والدير راكب البحر، وحوله الكروم والبساتين والنخل والشجر. فهو نَزِهٌ عامرٌ آهل. وله في النيل منظر حسن. وحين تخضر الأرض، فإنه يكون بين بساطين من البحر والزرع”. وفي “فوات الوَفَيَات” لابن شاكر الكتبي أن توران شاه لمّا حاصرته مماليك أبيه في البرج عند المنصورة رمى بنفسه وهرب إلى النيل “ونزل في البحر إلى حلقه” فقتلوه. والمقصود بــ”البحر” في هذا كله: “النيل” كما هو واضح. وعندنا من الشواهد الشعرية الكثير، ومنها قول أبي الشيص الخزاعي : بَحرٌ يَلوذ المُعتَفونَ بِنَيْله فَعْمُ الجَداول مُتْرَع الأَحواضِ
وقول ابن الرومي : هو بحرٌ مِنَ البحورِ فُرَاتٌ ليس مِلْحًا وليس حاشاه ضَحْلا
وقول ابن حَيّوس: وَمَنْ جادَ بِالآمالِ عَنكَ فَإِنَّني أَرى كُلَّ بَحرٍ مُذ رَأَيتُكَ جَدْوَلا
وقول ابن درّاج القسطلي : وإِن أَرْفَهَتْ فِي بَحْرِ جُودِكَ شِرْبَها فَمِنْ ظِمْءِ عَشْرٍ فِي الهجيرِ إِلَى تِسْعِ
وقول البحتري : بَحْرٌ مَتى تَقِف الظِماءُ بِمَورِدٍ مِنهُ يَطيبُ لَهُم جَداهُ وَيَعذُبِ
وقول الحيص بيص: ولكنهُ بَحْرٌ يَلَذُّ لشارِبٍ ويُكرِمُ مَثْوىً من مُسِيفٍ ومُرْمِلِ
وقول ظافر الحداد الشاعر المصري : تأمَّلْتُ بحرَ النيلِ طولا، وخَلْفَه من البركةِ الغَنّاء شكلٌ مُدَوَّرُ
وقول البوصيري : وَكلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفًا مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ
وقول المتنبي : قَوَاصِدُ كافورٍ تَوَارِكُ غيره ومن قَصَدَ البحرَ استقلّ السواقيا
ثم كيف يمكن أن يتوهم متوهِّم هذا الذي يخشاه الكاتب (أو بالأحرى: هذا الذي يزعم أنه يخشاه)، ويذهب فيَعُبّ من الماء الملح عَبًّا؟ ويبقى تأكيده أن شرب هذا الماء يصيب الشخص بالجنون، ولا أعرف مدى صحة هذا الكلام من الناحية الطبية، وإن كنت أستغربه غاية الاستغراب، وبخاصة أنه من غير المعقول أو المتصوَّر أن يستمر أي إنسان في شرب ذلك الماء بمجرَّد أن يذوقه ويحس ملوحته! لكن الذي أنا متأكد منه أن الذي يَعُبّ من الماء الملح يكون قد أُصِيبَ بالجنون فعلا، وانتهى أمره والعياذ بالله، لا أنه سيصاب به بعد الشرب، إذ لا يفعل ذلك عاقل بحال من الأحوال!
والآن نأتي لتفسير الآيات المذكورة لنرى أفيها ما لم تكن العرب بل ما لم تكن البشرية كلها تعرفه أو لا، ونبدأ بقوله تعالى: ” وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ” (الفرقان/ 53)،إذ هو من الوضوح بمكان بحيث لا يثير مشاكل وخلافات حول المقصود بالبحرين هنا: أهما بحران مِلْحان أم بحرٌ عَذْبٌ وآخر مِلْح؟ وقد فسره بوكاي قائلا: “معروفةٌ تلك الظاهرة التي كثيرا ما نشاهدها عند عدم الاختلاط الفوري لمياه البحر الملحة بالمياه العذبة للأنهار الكبيرة. ويرى البعضُ أن القرآن يشير إليها لعلاقتها بمصبّ نَهْرَي دجلة والفرات، اللذين يشكلان بالتقائهمابحرًا، إذا جاز القول، طوله 150 كم هو شط العرب. وفي الخليج ينتج تأثيرُ المدّ ظاهرةً طبيعيةً هي انحسار الماء العذب إلى داخل الأراضي ، وذلك يضمن رِيًّا طيبا” (موريس بوكاي / القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم/ 205).
والحق أن هذا التفسير، رغم احترامي الكامل للدكتور بوكاي ، هو تفسير غير مقنع: فمن الناحية اللغوية يصعب علي أن أوافق العالم الفرنسي على أن أداة التعريف في كلمة “البحرين” هنا للعهد، الذي قيل على أساسه إن “البحرين” المذكورين هما شط العرب والخليج الذي يصب فيه. ذلك أن الآيات السابقة تتحدث عن الظل والرياح والماء والأنعام والأناسي ، وهي مفاهيم عامة لا تشير إلى ظلٍّ بعينه ولا رياحٍ محدَّدة ولا أنعامٍ وأنَاسِي مخصوصة، فلِمَ يقال إذن إن “البحرين” هنا هما بحران معينان (الخليج وشط العرب)؟ إن السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة هو سياق عام، ومن ثم فإن بلاغة الكلام تقتضي أن يكون “البحران” أيضا هنا هما “النهر والبحر” بإطلاق، أي أن “أل” فيهما هي “أل” الجنسية لا العهدية. وقد يظن قوم أن كلمة “فُرَات” الواردة في النص القرآني هنا تشير إلى نهر الفرات، ومن ثم يستغربون قولي بعدم وجود قرينة تدل على أن السياق هنا سياق خاص لا عام، لكن لا بد أن نعرف أن كلمة “فُرَات” في النص ليست عَلَمًا على النهر المعروف في بلاد الرافدين، بل صفة للبحر الأول من البحرين المذكورين معناها “الشديد العذوبة”. كذلك فماء النهر، مهما توغَّل بقوة اندفاعه إلى مدًى بعيد في داخل البحر أو المحيط واحتفظ أثناء ذلك بخصائصة وعذوبته، يختلط في النهاية بمائهما ويتحول من ثم إلى ماءٍ ملحٍ أُجَاج. فظاهر الأمر إذن أن النهر يبغي في البداية على البحر (حين يشق ماءه الملح ويزيحه عن طريقه) ليعود البحر فيبغي في النهاية عليه (حين يختلط ماؤه العذب بماء البحر الملح الذي يُفْقِده خاصة العذوبة ويعطيه بدلا منها ملوحته)، فأين البرزخ يا ترى والحِجْر المحجور؟
أما “المنتخب في تفسير القرآن الكريم” فإنه يقول، في هامش خصَّصه للتعليق على هذه الآية، إنها ربما “تشير إلى نعمة الله على عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار في الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تامّا، بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق: يطفو العذب منهما فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بَغْي أحدهما على الآخر وحِجْرًا محجورا، أي حاجزا خفيّا مستورا لا نراه”. لكن ثمة نقطة هامة يظهر أن كاتبَي هذا التعليق، رغم جدته وطرافته بالنسبة لي على الأقل، قد أغفلاها، إذ إن الماء العذب والماء الملح اللذين يلتقيان في الصخور على هذا النحو لا يمكن تسميتهما: “بحرين”. ثم إذا كان الماءان في هذه الظروف لا يلتقيان، فإنهما في عُرْض البحر يلتقيان ويتمازجان ويصبحان في النهاية ماءً واحدًا كما قلنا من قبل.
يبدو لي ، والله أعلم، أن البرزخ المذكور في الآية الكريمة هو القوانين التي بمقتضاها بَقِي كل من الماء العذب والماء الملح كلَّ هذه الدهور المتطاولة التي لايعلم مداها إلا الله، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما هو لا يتغير. فالأنهار تصب في البحار والمحيطات، وكان المفروض، لو أن الأمر انتهى عند هذا الحد، أن يختلط الماءان اختلاطًا دائمًا فلا ينفصلا بعد ذلك أبدا، ويصبح كل الماء الموجود على سطح الأرض من ثَمَّ ماءً مِلْحًا. بَيْدَ أن التقدير الإلهي قد شاء أن يقوم البَخْر بحمل ماء البحار والمحيطات فتسوقه الرياح ليسقط على الجبال وينحدر إلى الأنهار ماءً عذبًا كما كان…وهكذا دواليك. وهكذا أيضا يبقي الماء العذب والماء الملح كما هما، ويتعايش البحران دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويقضي عليه. فهذا هو البرزخ، وهذا هو الحِجْر المحجور فيما أفهم، والله أعلم. وهو، كما نرى، برزخٌ وحِجْرٌ غير مادي . إنه حاجز من قوانين لا من أحجار أو مسافات أو تضاريس. ومن الحواجز المعنوية أيضا “برازخ الإيمان” التي جاء في المعاجم أنها تفصل بين الشك واليقين أو التي تفصل ما بين أول الإيمان وآخره، والبرزخ الذي يفصل بين الدنيا والآخرة، و”الحِجْر” المذكور في القرآن على لسان المشركين: “وقالوا: هذه أنعامٌ وحرثٌ حِجْرٌ لا يطعمها إلا من نشاء”،أي محرَّم أكلها حسبما نصت الآية الكريمة، والتحريم (كما هو معروف) حاجزٌ معنوي لا مادي . كما أن قوله تعالى في الآية 22 من سورة “الفرقان”: ” حِجْرًا مَحْجُورًا “معناه: “حرامًا محَرَّمًا”…وهكذا. ولهذا قالت المعاجم وكتب التفاسير في البرزخ الفاصل بين البحرين إنه حاجز خفي من قدرة الله. ولا ننس أن القرآن لم ينف التقاء البحرين رغم وجود البرزخ، بل قال بصريح اللفظ: “مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ(20)” كما جاء في الآيتين 19- 20 من سورة “الرحمن”. فالبرزخ موجود، ولكن الالتقاء حاصل أيضا لأن البرزخ في النص القرآني إنما يمنع بَغْي أحد البحرين على الآخر لكنه لا يمنع اللقاء بينهما.
وبنحو الذي قلناه فَسَّر الطبري الآيتين المذكورتين فقال: “قَوْله: “هَذَا عَذْبٌ فُرَات”، الفُرَات : شَدِيد الْعُذُوبَة. يُقَال : هَذَا مَاءٌ فُرَات، أَيْ شَدِيد الْعُذُوبَة. وَقَوْله: “وَهَذَا مِلْح أُجَاج”، يَقُول: وَهَذَا مِلْحٌ مُرّ، يَعْنِي بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ مِيَاهَ الأَنْهَار وَالأَمْطَار، وَبِالْمِلْحِ الأُجَاجِ مِيَاهَ الْبِحَار. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ، مِنْ نِعْمَته عَلَى خَلْقه وَعَظِيم سُلْطَانه، يَخْلِط مَاء الْبَحْر الْعَذْب بِمَاءِ الْبَحْر الْمِلْح الأُجَاج، ثُمَّ يَمْنَع الْمِلْح مِنْ تَغْيِير الْعَذْب عَنْ عُذُوبَته وَإِفْسَاده إِيَّاهُ بِقَضَائِهِ وَقُدْرَته لِئَلاّ يَضُرّ إِفْسَاده إِيَّاهُ بِرُكْبَانِ الْمِلْح مِنْهُمَا فَلا يَجِدُوا مَاء يَشْرَبُونَهُ عِنْد حَاجَتهمْ إِلَى الْمَاء، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ” وَجَعَلَ بَيْنهمَا بَرْزَخًا “،يَعْنِي حَاجِزًا يَمْنَع كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ إِفْسَاد الآخَر. “وَحِجْرًا مَحْجُورًا”،يَقُول : وَجَعَلَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَى صَاحِبه أَنْ يُغَيِّرهُ وَيُفْسِدهُ”. على أن هذا التفسير لا يمنع أن يدخل فيه التقاء ماء دجلة والفرات بماء الخليج العربي بوصفه إحدى الحالات التي يتبدَّى فيها القانون الذي شرحتُه آنفا لا بوصفه الحالة الوحيدة المقصودة في القرآن كما جاء في كلام الدكتور بوكاي ، فضلا عن أن التفسير الذي ذكره يختلف عن تفسيري أنا حسبما وَضَّحْت.
وفي رأيي المتواضع أن آيات سورة “الرحمن” تدل على نفس هذا المعنى، لكن كاتب مقال “البرزخ المائي بين البحرين” في “موقع الإيمان على شبكة الإنترنت” يرى أن “البحرين” هنا بحران مالحان. وهذا نَصّ كلامه: “قال تعالى: ” مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ” (الرحمن/ 19- 22)،وقال تعالى: “وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ” (النمل/61).لقد توصل علماء البحار، بعد تقدُّم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخًا يفصل بين كل بحرين ويتحرك بينهما، ويسميه علماء البحار: “الجبهة” تشبيهًا له بالجبهة التي تفصل بين جيشين. وبوجود هذا البرزخ يحافظ كلُّ بحرٍ على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسبًا لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة. ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطًا بطيئًا يجعل القَدْر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياه العابرة من بحرٍ إلى بحرٍ ليبقى كل بحرٍ محافظًا على خصائصه تدرج العلم البشري لمعرفة حقائق اختلاف مياه البحار وما بينها من حواجز:
اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافًا بين عيناتٍ مائيةٍ أُخِذَتْ من البحار المختلفة في عام 1284هـ- 1873م على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة ودرجة الحرارة ومقادير الكثافة وأنواع الأحياء المائية. ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم. وقد جمعت الرحلةُ معلوماتٍ من 362 محطة مخصَّصة لدراسة خصائص المحيطات، وملأت تقاريرُ الرحلة 29.500 صفحة في خمسين مجلدًا استغرق إكمالها 23 عاما. وإضافةً إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي فإنها أظهرت كذلك ضآلة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر.
بعد عام 1933م قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عددا كبيرا من هذه المحطات تعطي معلوماتٍ موحَّدةً عن خصائص الماء في تلك المنطقة من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، بينما أعطت بقيةُ المحطات معلوماتٍ موحَّدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة تشالنجر.
وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض. لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوّتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام مثل الموجات السطحية والداخلية والتيارات المائية والبحرية؟ ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام 1361هـ-1942م، فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن اكتشاف حواجزَ مائيةٍ تفصل بين البحار الملتقية، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة والأحياء المائية والحرارة وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء. وبعد عام 1962م عُرِف دورُ الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز. ويبين الشكل التالي حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والمِلْحة عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة والأقل مُلُوحة منها.
وأخيرًا تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار المِلْحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسمًا واحدًا، إلا أن هناك فروقًا كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة تظهر بألوانٍ مختلفة تبعًا لاختلافها في درجة الحرارة. وفي دراسة ميدانية للمقارنة بين مياه خليج عمان والخليج العربي بالأرقام والحسابات والتحليل الكيمائي تبين اختلاف كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية والنباتات السائدة في كل منهما ووجود البرزخ الحاجز بينهما. وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة اشترك فيها المئات من الباحثين، واستُخْدِم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة، بينما جَلَّى القرآنُ الكريمُ هذه الحقيقةَ قبل أربعة عشر قرنا. قال تعالى: “مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ” (الرحمن/ 19- 22)،وقال تعالى: “وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا” (النمل/61)”.
هذا ما جاء في المقال المنشور على موقع “الإيمان على شبكة الإنترنت”. والواقع أنني أميل إلى تفسير “البحرين” في سورتي “الفرقان” و”الرحمن” بأنهما بحران مختلفان، وأوثر هذا التفسير على القول بأن البحرين في هذه السورة هما بحران مالحان كلاهما، وعلى هذا فإني أرى أن البحرين في آيات سورة “الرحمن” أيضا هما البحر العذب والبحر الملح. والسبب في ذلك هو حرصي على أن يكون هناك انسجام بين آيات القرآن مراعاةً للسياق القرآني العام، إذ القرآن يفسّر بعضُه بعضًا كما هو معروف، وعلى هذا أرى أن تكون النصوصُ التي حددت البحرين بأنهما البحر العذب والبحر الملح حاكمةً على النصوص التي لم تحددهما. ولكني رغم ذلك لا أستطيع أن أخطّئ من يقولون بهذا التفسير مادامت الآية تقبله على وجه من الوجوه، إذ ليس في النص الكريم ما يجعل التفسير الثاني مرفوضا، بل الأمرُ أمرُ تفضيلِ تفسيرٍ على تفسيرٍ كما أوضحت. أما الحجة التي استند إليها من فسَّروا “البحرين” في النص الأخير بأنهما كليهما بحران مالحان، وهي أن المَرْجان قد ذُكِر فيه، وهو لا يُسْتَخْرَج إلا من المياه الملحة، فلست أراها حجة كافية، إذ المَرْجان عند معظم اللغويين والمفسرين القدماء هو صغار اللؤلؤ أو كباره، واللؤلؤ يُسْتَخْرَج من الأنهار أيضا مثلما يُسْتَخْرَج من البحار على ما سوف أُبَيِّن بعد قليل. لكني مع ذلك لا أجد، كما قلت، مانعا أن يفسرها الآخرون بغير ما فسرتُها به ما دامت تقبل هذا التفسير. إنyohanfraisيشير إلى أن النص القرآني لا يذكر اختلاف مياه البحار من حيث درجة الملوحة ودرجة الحرارة ومقادير الكثافة وأنواع الأحياء المائية، وكلامه صحيح بلا جدال، لكنْ صحيحٌ أيضا أن علماء المسلمين الذين يتحدثون عن هذه الفروق لا يقولون إن القرآن قد ذكر هذا، بل كلّ مقصدهم أن دلالة الآية تشمله، فلا داعى من ثم إلى اتهامهم بأنهم يُقَوِّلون النص القرآني ما لم يقله.
هــذا، وقد اختتم كاتبُ المقــال المنشور على “موقــع الإيمان على شبكة الإنترنت” كلامه بالملاحظات التاليــة: “1- أن القرآن الكريم الذي أُنْزِل قبل أكثر من 1400سنة قد تضمَّن معلومات دقيقة عن ظواهرَ بحريةٍ لم تُكْتَشَف إلا حديثًا بواسطة الأجهزة المتطورة، ومن هذه المعلومات وجود حواجزَ مائيةٍ بين البحار. قال تعالى: “مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ” (الرحمن/ 19- 20).2- يشهد التطور التاريخي في سير علوم البحار بعدم وجود معلومات دقيقة عن البحار، وبخاصة قبل رحلة تشالنجر عام 1873م، فضلاً عن وقت نزول القرآن قبل ألف وأربعمائة سنة الذي نزل على نبيٍّ أمِّيٍّ عاش في بيئة صحراوية ولم يركب البحر. 3- كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين، وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين. وقبل ذلك كان البحر مجهولا مخيفا تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة. وما عرف الإنسان أن البحار المِلْحة بحارٌ مختلفةٌ إلا في الثلاثينات من هذا القرن بعد أن أقام الدارسون آلافَ المحطات البحرية لتحليل عينات من مياه البحار، وقاسُوا في كلٍّ منها الفروقَ في درجات الحرارة، ونسبة الملوحة، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كل المحطات فأدركوا بعدئذٍ أن البحار المِلْحَة متنوعة. 4- وما عرف الإنسانُ البرزخَ الذي يفصل بين البحار المِلْحَة إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية المشار إليها، وبعد أن قضى وقتًا طويلاً في تتبع وجود هذه البرازخ المتعرجة المتحركة التي تتغير في موقعها الجغرافي بتغير فصول العام. 5- وما عرف الإنسان أن ماءَيِ البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي ومختلطان في نفس الوقت إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركةَ المياه في مناطق الالتقاء بين البحار، وقام بتحليل تلك الكتل المائية في تلك المناطق. 6- وما قرر الإنسان هذه القاعدة على كل البحار التي تلتقي إلا بعد استقصاء ومسح علمي واسع لهذه الظاهرة التي تحدث بين كل بحرين في كل بحار الأرض.
فهل كان يملك رسول الله rتلك المحطات البحرية، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبع حركة الكتل المائية المتنوعة؟ وهل قام بعملية مسح شاملة، وهو الذي لم يركب البحر قط، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان، وخاصة في ميدان البحار؟ وهل تيسر لرسول الله rفي زمنه من أبحاثٍ وآلاتٍ ودراساتٍ ما تيسر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة؟ إن هذا العلم الذي نزل به القرآن يتضمّن وصفًا لأدق الأسرار في زمنٍ يستحيل على البشر فيه معرفتها لَيَدُلّ على مصدره الإلهي كما قال تعالى: ” قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ” (الفرقان/ 6).كما يدل على أن الذي أُنْزِل عليه الكتاب رسولٌ يُوحَى إليه. وصدق الله القائل: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ” (فصلت/ 53)”.
والآن، وبعد أن نقلنا ما خرج به كاتب المقال المشار إليه من نتائج، نأتي إلى آية سورة “فاطر”: “وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا”.ولسوف أتناولها من زاوية أخرى لأنها، كما سبق القول، لا تذكر شيئا عن البرزخ أو الحِجْر المحجور الذي يمنع أحد البحرين من البغي على الآخر. لقد قرأتُ هذه الآية مرات لا تحصى، لكني لم أكن ألتفت إلى ما تؤكده من أن الحلي تُسْتَخْرَج من البحر والنهر كليهما، بل كنت أتصور أن اللؤلؤ والمرجان لا يوجدان إلا في البحار الِملْحة. ومنذ عدة سنوات كنت أقرأ هذه الآية، وفجأة تنبهتُ لما كان غائبا عني ، فتساءلت: هل توجد الحلي حقا في مياه الأنهار كما هي موجودة في البحار؟ وقد رجعتُ يومها إلى ترجمة عبد الله يوسف علي للقرآن إلى الإنجليزية، فألفيتُه، في تعليقه على هذه الاية في الهامش، يذكر من أنواع الحلي النهري العقيقَ وبرادةَ الذهب وغيرهما. ثم رجعتُ بعد ذلك إلى “Encyclopaedia Britannica” (الطبعة الرابعة عشرة) فقرأتُ في مادة “Pearls“أن اللؤلؤ يوجد أيضا في المياه العذبة. وبعد هذا وقع في يدي “المنتخَب في تفسير القرآن الكريم”، الذي أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، فقرأتُ في التعليق العلمي الموجود بأسفل الصفحة على الآية المذكورة الكلام التالي الذي يبدو وكأنه كُتِب خصيصا لي : “قد يستبعد بعض الناس أن تكون المياه العذبة مصدرًا للحلي ، ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك: أما اللؤلؤ فإنه، كما يُسْتَخْرَج من أنواع معينة من البحر، يُسْتَخْرَج أيضا من أنواع معينة أخرى من الأنهار، فتوجَد اللآلئ في المياه العذبة في إنجلترا وأسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان…إلخ، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة. ويدخل في ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية الصلادة كالماس، الذي يُسْتَخْرَج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة. ويوجد الياقوت كذلك في الرواسب النهرية في موجوك بالقرب من بانالاس في بورما العليا. أما في سيام وفي سيلان فيوجد الياقوت غالبا في الرواسب النهرية. ومن الأحجار شبه الكريمة التي تُسْتَعْمَل في الزينة حجرُ التوباز، ويوجد في الرواسب النهرية في مواقعَ كثيرةٍ ومنتشرةٍ في البرازيل وروسيا (الأورال وسيبريا)، وهو فلورسيليكات الألمونيوم، ويغلب أن يكون أصفرَ أو بُنّيًّا. والزيركون (circon) حَجَرٌ كريمٌ جذابٌ تتقارب خواصه من خواص الماس، ومعظم أنواعه الكريمة تُسْتَخْرَج من الرواسب النهرية”.
ولكي يقدِّر القارئ رد فعلي الأول حق قدره أذكر أن بعض المترجمين الأوربيين أنفسهم في العصر الحديث قد استبعدوا أن تكون الأنهار مصدرًا من مصادر الحلي . وقد تجلَّى هذا في ترجمتهم لهذه الآية: فمثلا نرى رودويل الإنجليزي يترجم الجزء الخاص بالحلي منها هكذا: “yet from both ye eat fresh fish, and take forth ornaments to wear“. فعبارة “from both” لا تعطي المعنى الموجود في الآية، وهو أن كلا من البحرين فيه حلي لا أن الحلي تستخرج منهما معا بما يمكن أن يكون معناه أنه يخرج من مجموعهما حتى لو لم يخرج في الواقع إلا من أحدهما، وهو ما قد يصلح لترجمة قوله تعالى في سورة “الرحمن”: ” يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلؤُ وَالمَرْجَانُ ” (لاحظ: “منهما” لا “من كل منهما”). كذلك ينقل رُودِي بارِيتْ المستشرق المعروف هذه العبارة إلى الألمانية على النحو التالي: “Aus beiden esst ihr frishes Fleish“.إلى هنا والترجمة صحيحة، فهذه العبـارة تقابـل قوله تعالى: “ومن كلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا”، وإن استخـدم بارِيتْ في مقابل “طريـًّا” كلمة “frishes“،ومعناها الدقيق “طازج”. لكن فلْننتبه لترجمة الجزء التالي الذي يقول فيه: “und (aus dem Salzmeer) gewinnt ihr Schmuck…um ihn eukh anzulegen“، والذي تَرْجَمَته: “وتستخرجون (من البحر الملح) حلية تلبسونها”. ويرى القارئ بوضوح كيف أن المترجم قد أضاف من عنده بين قوسين عبارة “من البحر الملح: aus dem Salzmeer“،وهو ما يوحي باستبعاده أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر اللؤلؤ والعقيق وغيرهما من أنواع الحلي على ما تقول الآية الكريمة. أما ترجمتا جورج سِيلْ وبَالمَْرْ الإنجليزيتان وترجمتا كازيمريسكي وماسون الفرنسيتان، وكذلك ترجمتا ماكس هننج ومولانا صدر الدين الألمانيتان على سبيل المثال، فقد ترجمت كلُّها النصَّ القرآني كما هو، لكنها التزمت الصمت فلم تعلق بشيء.
ويرى القارئ من هذه الآية كيف أن القرآن قبل أربعة عشر قرنا قد أشار إلى حقيقة علمية يستبعدها ناس مثلي ومثل المستشرق الإنجليزي رودويل ونظيره الألماني رُودِي بارِيت ممن يعيشون في هذا العصر الذي بلغ فيه التقدم العلمي والتقني آمادا مذهلة، فكيف عرفها الرسول الكريم إذن وأدّاها بهذه البساطة لو كان هو مؤلف القرآن، وبخاصة أن الأنهار التي ذُكِر أن اللؤلؤ وغيره من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة تُسْتَخْرَج منها تقع في بلاد سحيقة بالنسبة للجزيرة العربية، بل إن بعضها كالبرازيل مثلا لم يُكْتَشَف إلا في العصور الحديثة؟
ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أن المفسرين القدامى، كالطبري والقرطبي وابن كثير والجلالين على سبيل المثال، قد وقفوا حائرين إزاء هذه الآية وأمثالها حيث يقررون أن الحلي إنما تُسْتَخْرَج من البحر المِلْح فقط، وإن كان القرآن قد ذكر البحرين معا. يريدون أن يقولوا: إن العرب كانت تغلّب في مثل هذه الحالة أحدَ الطرفين على الآخر. بل إن بعضهم، محاولةً منهم الالتصاقَ بالآية وعدم الرغبة في اللجوء إلى المجاز هنا، قد قالوا إن المقصود بالبحر العذب هو ماء المطر، بمعنى أن اللؤلؤ والمَرْجان لا يتم تكونهما إلا إذا نزل ماء المطر على صَدَفهما في البحر فانعقد لؤلؤا ومَرْجانا. وهذا كله خَبْطٌ خاطئ، فالمطر لا يُسَمَّى: “بحرا”، فضلا عن أن القرآن الكريم قد نَصَّ على أن الحُلِي تُسْتَخْرَج من كلٍّ من البحرين، لا من مجموعهما كما يقول مفسرونا القدامى، ولهم العذر رغم أنهم جاؤوا بعد الوحي بعِدّة قرون كانت الحضارة الإسلامية قد قطعت أثناءها أشواطا في مجال العلم والفكر فسيحة، إذ إن المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع لم تُكْشَف إلا في العصر الحديث كما بيّنّا في الفقرات الأخيرة. وقد كانت هذه الحجة جاهزة في يدي في إحدى المناظرات التلفازية التي شاركتُ فيها منذ أعوام ضد من ينادون بإبعاد العلوم الطبيعية عن القرآن الكريم وعدم الاستعانة بها في تفسيره بشبهة أنه كتاب عقيدة وتشريع وأخلاق لا كتاب كيمياء أو فيزياء أو فلكٍ أو طبٍّ مثلا، إذ ها هم أولاء كبار المفسرين واللغويين يتجاهلون التركيب النحوي الواضح للعبارة القرآنية بسبب عدم توفر المادة العلمية بين أيديهم، فيعاملون تركيب ” وَمِنْ كُلٍّ…” على أن المراد به: “ومن مجموعهما…”، مع أن هذا غير ذاك تمامًا.
[1]فحملوا قوله تعالى: ” يَخْرُجُ مِنْهُمَا” أي: من أحدهما، وهو الماء المالح. انظر: الكشاف، الزمخشري 4/241. والمحرر الوجيز، ابن عطية 5/229. وأحكام القرآن، الجصاص 3/397. وبحر العلوم، السمرقندي 2/232. ومفاتيح الغيب، الرازي 29/ 90. ومدارك التنزيل، النسفي 2/177. وأنوار التنزيل، البيضاوي 3/161. وروح المعاني، الآلوسي 9/267. والتحرير والتنوير، ابن عاشور 18/4250.
[2]بتصرف عن دراسة قدمها الدكتور إبراهيم عوض، المدرس في كلية الآداب، جامعة قطر. في موقع ملتقى أهل التفسير على الرابط:
http://tafsir.org/books/open.php?cat=88&book=932