حين تنهار المناعة الداخلية… تتداعى الأمم علينا

الأثنين/سبتمبر/2025
في واحد من أعظم أحاديث النبي ﷺ التي تصف واقع الأمة، يقول:
يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها ، قيل : يا رسولَ اللهِ ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ ؟ قال لا ، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم ، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم ؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ…».( ” رواه أحمد وأبو داود واللفظ ،صحيح الجامع للالباني
هذا الحديث ليس مجرد توقع للمستقبل، بل يضع قاعدة واضحة: متى ما فقدت الأمة قوتها الحقيقية، فإن الأمم الأخرى ستتكالب عليها كما يتكالب الجائعون على الطعام.
الحديث لا يحكي واقعة تاريخية بعينها، بل يضع قانوناً يتكرر في كل مرة تمر فيها الأمة بحالة من الضعف الداخلي.
في هذا المقال، سنحاول فهم هذا الحديث من زوايا مختلفة، ونتأمل كيف تنطبق كلماته على مراحل مهمة من تاريخنا، خاصة في زمن الاستعمار الأوروبي الحديث.
معنى الحديث… بلغة قريبة
الحديث يبدأ بكلمة “يوشك”، أي أن الأمر قريب الحدوث، لكنه لا يعني الفورية. ثم يشبّه النبي ﷺ حال الأمة يومذاك بأنها “قصعة طعام”، والناس من حولها يتكالبون عليها.
ولما سُئل النبي ﷺ: هل سيكون هذا بسبب قلة عدد المسلمين؟
قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل».
يعني أن المشكلة ليست في العدد، بل في الفاعلية. مثل الرغوة التي يحملها السيل، كثيرة في الشكل، لكنها لا تساوي شيئاً.
ثم يوضّح أن السبب العميق لهذا الضعف هو:
حب الدنيا وكراهية الموت.
أي أن المسلمين في تلك المرحلة يعيشون من أجل الراحة، ويخافون من التضحية، فتُنزَع مهابتهم من قلوب أعدائهم، ويُقذف في قلوبهم الوهن.
من الضعف الداخلي… إلى التداعي الخارجي
ما يقدمه الحديث هنا هو سلسلة مترابطة من الأحداث:
- الوهن الداخلي (حب الدنيا وكراهية الموت)
↓ - فقدان الهيبة في أعين الأعداء
↓ - تداعي الأمم وتكالبها على الأمة
فالعدو لا يهجم إلا حين يشعر أن الطرف المقابل لا يمتلك القوة ولا الإرادة للمقاومة.
عصر الانحدار: كيف بدأت الأمة تضعف؟
في القرنين التاسع عشر والعشرين، عاش العالم الإسلامي واحدة من أضعف فتراته، وكانت الدولة العثمانية – التي كانت تمثل آخر مظاهر الوحدة – في حالة تراجع كبير.
بعض مظاهر هذا التراجع:
- فساد إداري واسع: المناصب تُباع، والكفاءة تُهمَّش، والحكام ينشغلون بالترف.
- ضعف عسكري واضح: لم تُواكب الجيوش التطور الصناعي في الغرب.
- ركود فكري: توقف الاجتهاد، والخوف من العلوم الحديثة، والجمود في التفكير.
كل هذا انعكاس لحالة “حب الدنيا وكراهية الموت” التي تحدّث عنها النبي ﷺ.
تجسد الحديث: كيف تقاسمت الدول الاستعمارية العالم الإسلامي؟
أوضح مثال على “تداعي الأمم” ما حصل خلال حقبة الاستعمار الأوروبي، حيث اجتمعت دول كبرى، وتعاونت علنًا وسرًا، من أجل السيطرة على الأراضي الإسلامية.
سايكس – بيكو: الخطة التي قسمت الشام والعراق
في عام 1916، وقّعت بريطانيا وفرنسا (بموافقة روسيا القيصرية) اتفاقية سرية لتقسيم مناطق النفوذ في المشرق العربي:
- بريطانيا تأخذ جنوب العراق، الأردن، فلسطين.
- فرنسا تأخذ سوريا ولبنان.
- روسيا كانت تخطط لأخذ أجزاء من الأناضول، لكنها انسحبت لاحقًا.
الاتفاقية لم تكن سوى تقسيم “القصعة” التي تحدث عنها النبي ﷺ.
خريطة التداعي الأوروبي
لكن الأمر لم يتوقف عند سايكس – بيكو، فقد انضمّت دول كثيرة إلى هذا التداعي:
الدولة المستعمِرة | المناطق التي سيطرت عليها | طريقة السيطرة |
بريطانيا | الهند، مصر، السودان، العراق، فلسطين، الخليج | احتلال، حماية، انتداب |
فرنسا | الجزائر، تونس، المغرب، سوريا، لبنان | احتلال مباشر، حماية |
إيطاليا | ليبيا، الصومال، إريتريا | احتلال |
إسبانيا | شمال المغرب، الصحراء الغربية | حماية |
البرتغال | موزمبيق، سواحل عُمان، شرق إفريقيا | مستعمرات بحرية |
روسيا | القوقاز، آسيا الوسطى، القرم | احتلال وضم |
هولندا | إندونيسيا | استعمار مباشر |
الولايات المتحدة | الفلبين | احتلال |
كل هذه الدول اجتمعت – ولو اختلفت دوافعها – على استغلال ضعف الأمة والسيطرة عليها.
وليس الاستعمار فقط… بل تكرر المشهد قبل ذلك
الحروب الصليبية
في القرن الحادي عشر، كان المسلمون في حالة انقسام شديد:
- خلافة عباسية ضعيفة في بغداد
- دولة فاطمية في مصر
- سلاجقة في الشام
هذا التمزق كان فرصة ثمينة للصليبيين، الذين شنّوا حملات متتالية لاحتلال بيت المقدس، مستغلين ضعف الأمة وانقسامها.
وهنا أيضاً، تداعت عليهم الأمم، لأن الوهن كان قد بدأ في الداخل.
الغزو المغولي
قبل أن يهاجم المغول العالم الإسلامي، كانت الدولة الخوارزمية مفككة، والخلافة العباسية بلا هيبة، فدخل المغول مدن المسلمين واحدة تلو الأخرى، حتى أسقطوا بغداد وقتلوا الخليفة.
المغول لم يكونوا ليجرؤوا على ذلك لولا أن الداخل كان قد انهار.
ما الذي يعلّمنا إياه هذا الحديث اليوم؟
- الكثرة لا تعني القوة: المهم هو النوع، لا العدد.
- العدو الخارجي ليس المشكلة الأولى: بل الضعف الذي نسمح له أن يبدأ في داخلنا.
- الهيبة لا تُشترى بالسلاح فقط: بل تُبنى بالقيم، والثقة، والاستعداد للتضحية.
- الإصلاح الحقيقي يبدأ من داخل النفس والمجتمع: لا يمكن للأمة أن تتماسك إذا كانت مفككة من الداخل.
الحديث لا يُحبطنا… بل يُوقظنا
حديث النبي ﷺ عن “تداعي الأمم” ليس للتخويف أو زرع اليأس، بل هو جرس إنذار مبكر، يخبرنا بأن الهزيمة لا تبدأ حين يدخل العدو… بل حين ندخل نحن في مرحلة الوهن.
وعلينا أن نفهم أن أول خطوة للنهوض ليست السلاح، ولا الاقتصاد، بل استعادة الروح القوية، والإرادة الصادقة، والإيمان العميق.
فكما أن “حب الدنيا” كان بداية السقوط، فإن حب الحق، والاستعداد للتضحية من أجله، هو بداية الصعود من جديد.
“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“
(القرآن الكريم – الرعد: 11)