حول شبهة دلالة كأنما يصعد في السماء

بقلم الأستاذ عبد الرحيم الشريف

دكتوراه في علوم القرآن والتفسير

بيان الشبهة باللفظ حرفياً:

” قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (الأنعام: 125) حيث يدعي الاعجازيون أن هذه الآية قد أخبرت بالحقيقة العلمية: أنه كلما ارتفع الإنسان في السماء انخفض الضغط الجوي وقلّت كمية الأكسجين مما يتسبب في حدوث ضيق في الصدر وصعوبة في التنفس. حيث أن التغير الهائل في ضغط الجو الذي يحدث عند التصاعد السريع في السماء، يسبب للإنسان ضيقاً في الصدر وحرجاً.

تعالوا لنرى حقيقة ما تقوله الكلمة محل الادعاء: (يَـصّـَـعّــَدُ فِي السَّمَاءِ): هل فعلا تعني الصعود إلى أعلى؟

الحقيقة هي أن (يَـصّـَـعّــَدُ فِي) معناها ليس ما يحاول أن يلصقها بها العالم الكبير….. يصعد بتشديد الصاد -ملحقة بـ:”في كذا”- تعني محاولة -على مشقة- في عمل شيء صعب أو مستحيل. ولك أن تطالع ما تقوله المعاجم في ذلك:

(تَصَعَّدَ) يتصعَّد، ويَصَّعَّد: تَصاعدَ. وفي الشيءِ: مضى فيه على مشقة. وفي التنـزيل العزيز: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاءِ}. والنَّفَسُ: صَعُبَ مَخْرَجُهُ. والشيءُ الرَّجلَ: جَهَده وبلغ منه.
فالمراد من الاية هنا هو تشبيه ضيق صدر الكافر نتيجة كفره بضيق الشخص الذي يحاول الصعود في السماء فلا يستطيع لاستحالة هذا!

الحقيقة لا أعرف فعلا هل وصلت جرأة الكذب بالاعجازيين الى درجة التغيير في معنى لغوي لكلمة يمكن لأي شخص التأكد منها من المصادر المتاحة؟ كما رأينا فمعنى اللفظ (يَـصّـَـعّــَدُ فِي) لا علاقة له إطلاقاً بالصعود، وإنما المحاولة على مشقة في عمل شيء مستحيل“.

الجواب:
لا يُعَد فهم عالم ما في زمن ما، حُجة على فهم باقي المسلمين لمعاني القرآن الكريم. بل لا يشترط لتحقق الإعجاز القرآني، أن يقول به كل علماء الإسلام.

فالأفهام والنظرات إلى الأمور تتغير بتغير الثقافة، وآفاق النظر إلى الآيات تختلف، فهناك من ينظر إلى الآيات من الزاوية الأخلاقية فيخرج بفهم ما، وهناك من ينظر إليها من حيث الإعجاز البياني، وهنالك من ينظر إليها بحسب ما يستنبط منها فقهياً.. وكل ذلك صواب، مأجور عليه، مأمور به.. لا يعيب من سلك إحداها منهم على الآخرين، كما لا يعيبون عليه.

والحَكَمُ هو النص القرآني المعجز، لا كلام العلماء.

أما عن الصعود في كتب اللغة:
” صعد السطح، وصعد إلى السطح، وصعد في السلم وفي السماء، وتصَّعَّد وتصاعد، وصَّعَّد في الجبل، وطال في الأرض تصويبي وتصعيدي. وأصَّعَّدَ في الأرض: ذهب مستقبل أرض أرفع من الأخرى “.[1]

” وصعَّدَ في الجبل وعليه وعلى الدرجة: رقي “.[2]

” صَعَّد في الجَبَلِ وصَعَّد عليه تَصْعيداً، كاصَّعَّدَ اصِّعَّاداً، بالتشديد فيهما.. أَصْعَد في الجَبَل، وصَعَّد في الأَرض: رَقِيَ مُشْرِفاً “.[3]

” صعد: إذا ارتقى، واصَّعَّد يَصَّعَّدُ إصّعّاداً فهو مصَّعَّد: إذا صار مستقبل حدور أو نهر أو وادٍ أو أرض أرفع من الأخرى. وصعّد في الوادي إذا انحدر.. والاصِّعَّاد عندي مثل الصُعُود؛ قال الله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. [الأنعام: 125] يقال: صَعَدَ واصَّعَّدَ واصَّاعَدَ بمعنى واحد “.[4]

والتفسير العلمي لسبب ذلك هو: زيادة الضغط الجوي، وقلة الأكسجين.. فالمعنيان يكملان بعضهما.

ومن هنا يتبين أن العرب استعاروا معنى الصعود ليدل على المشقة (لازمُ الصعودِ). وهذا من الأساليب المعهودة في العربية، وهي استعارة لازم الصفة للدلالة على معانٍ تشبهها.[5]

فالمشقة لازمة لصعود الجبال، فلا تنافي بين الأمرين، فأحدهما مسبَّب عن الآخر، والثاني أصل له.

فالأصل: الصعود، ولازمه: المشقة.

جاء في معجم مقاييس اللغة: ” الصاد والعين والدال أصلٌ صحيحٌ، يدلُّ على ارتفاعٍ ومشقّة. من ذلك الصَّعُود ـ خلاف الحَدُور ـ ويقال صَعِدَ يَصْعَد.

الإِصعاد: مقابلة الحَدُور من مكانٍ أرفع. والصَّعود: العقَبة الكَؤود، والمشقّة من الأمر “.[6]

شرح الإعجاز العلمي في الآية الكريمة:[7]

الآية الكريمة تعبِّر عن التغيير الكبير في الضغط الجوي المصاحب للصعود السريع إلى السماء، مما يؤثر في الإنسان وخاصة دورته الدموية وخاصة أهم جزء منها (القلب) الموجود في الصدر.

ووجه آخر للإعجاز العلمي في الآية الكريمة وهو لفظ يصَّعَّد (وأصله: يتصَعَّد) وهو من التفعُّل، أي كلما زاد الفعل، زاد أثره.. فكلما زاد الصعود، زاد الضيق (الحرج).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثانياً: دلالة ” أدنى الأرض ” على كون البحر الميت، أخفض منطقة في العالم:

بيان الشبهة حرفياً:

ادعاء آخر في منتهى السذاجة، وهو الادعاء بأن لفظ “ادنى الأرض” في سورة الروم يعني “اخفض منطقة في الأرض”.

رغم عدم الحاجة للتأكد من المعنى اللغوي لكلمة “أدنى” حيث أن أي طفل يعرف أن أدنى يعني أقرب وهي عكس أبعد. -ذهب كالعادة للتأكد من المعاني في المعاجم المختلفة-.

القاموس المحيط: (و دَنا): دُنُوًّا ودَناوَةً قَرُبَ (كأدنَى ودَنَّاه تَدْنِيَةً وأدْناهُ) قَرَّبَه.

لسان العرب: دَنا من الشيء دنُوّاً ودَناوَةً قَرُبَ. وبينهما دناوة أَي قَرابة. والدَّناوةُ القَرابة والقُربى. ويقال: ما تَزْدادُ منِّا إلا قُرْباً ودَناوةً؛ فرق بين مصدرِ دنا ومصدر دَنُؤَ، فجعل مصدر دَنا دَناوةً ومصدر دَنُؤَ دَناءَةً [8]

فكل المعاجم اتفقت على ان المعنى الوحيد لأدنى هو “أقرب”..

ولم أسمع في حياتي عن أن ادنى تعني اخفض[9]..أو أر مرجعا لغويا واحدا يقر بذلك“. أ.هـ

الجواب:

ليس كما قال؛ فأصل الدنو: الانخفاض.. ولهذا نقول الحياة الدنيا: أي أنها دون الآخرة..

جاء في معجم مقاييس اللغة: “الدال والنون أصلٌ واحد يدلّ على تطامُنٍ وانخفاض. فالأدَنُّ: الرجل المنحنِي الظَّهر. يقال منه قد دَنِنْتَ دَنَناً. ويقال بيتٌ أدنّ، أي متطامِنٌ. وفرسٌ أدَنّ، أي قصير اليدين. وإذا كان كذلك كان منْسجُهُ منْخفضاً ومن ذلك الدَّنْدَنَة، وهو أنْ تُسمَع من الرَّجل نَغْيَةٌ لا تُفْهَم، وذلك لأنّه يخفِض صوتَه بما يقوله ويُخفيه. ومنه الحديث: “فأمَّا دَنْدَنَتُكَ ودندنةُ مُعاذٍ فلا نُحْسِنُهُمَا ” “.[10]

والمشتق من (الدنو) كله يعود على القرب والانخفاض والصغر..

جاء في المفردات: ” الدنو: القرب بالذات، أو بالحكم، ويستعمل في المكان والزمان والمنزلة. قال تعالى: ” وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ” [الأنعام: 99]، وقال تعالى: “ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى” [النجم: 8]، هذا بالحكم. ويعبر بالأدنى تارة عن الأصغر، فيقابل بالأكبر نحو: ” وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ ” [المجادلة: 7]. وقرأ الحسن (ولا أكبر) وهي قراءة شاذة، وهي محل الاستشهاد، وتارة عن الأرذل فيقابل بالخير، نحو: “أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ” [البقرة:61]، وعن الأول فيقابل بالآخر، نحو: “خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ” [الحج: 11]، وقوله: “وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ” [النحل: 122]، وتارة عن الأقرب، فيقابل بالأقصى نحو: “إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى” [الأنفال: 42]. وخص الدنيء بالحقير القدر، ويقابل به السيئ؛ يقال: دنيء بيِّن الدناءة “.[11]كما يعبَّر عن الرجل الدنيء: بالسافل، منحط القدر. وقنوان النخل: الدانية القريبة، لأنها المنخفضة.

ومدح عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه رجلٌ فأفرط فقال عليّ رضي الله عنه وكان يتّهمه: “أنا دُونَ ما تقول، وفوقَ ما في نفسك“.[12]

والمقصود بالإعجاز العلمي في الآية الكريمة: وقوع بعض مراحل القتال الحاسمة بين الفرس والروم ـ الذي استمر عدة سنوات، في عدة أماكن ـ وتأثير نتيجته في تلك البقعة من الأرض، التي تعد أخفض بقعة في العالم.[13]

فإن فسرت الأدنى بالأخفض، فهي أخفض مكان على الأرض.

وإن فسرتها بالأقرب، فهي أقرب مكان على سطح الأرض إلى نواتها ومركزها (أصلها).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رابعاً: هل الجبال تمنع ” مَيَدان الأرض ” كما يقول القرآن، أم سبب الزلازل كما يقول العلم ؟

نص الشبهة حرفياً:

خصص د. بوكاي صفحات 206 – 208 من كتابه [القرآن الكريم والتوارة والإنجيل والعلم] ليتحدث عن (تضاريس الأرض)، وناقش الآيات القرآنية التى تحدثت عن الجبال، وقال: (يصف علماء الجيولوجيا الحديثون تعرجات الأرض بأنها تثبت الأجزاء البارزة التى تتراوح أبعادها من الكيلومتر إلى عشرة كيلومترات، ومن ظاهرة التعرج هذه ينتج ثبات القشرة الأرضية).  ويقتبس من سورة الأنبياء -وهي من العهد المكي الوسيط- { وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } (سورة الأنبياء 31) ومن سورة النحل: -من العهد المكي المتأخر- { وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } (سورة النحل 15)، ومن سورة لقمان -من العهد المكي المتأخر-: { وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } (سورة لقمان 10)، ومن سورة النبأ -من العهد المكي المبكر-: { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } (سورة النبأ 6 – 7).
ويقول: والأوتاد المشار إليها هنا هي تلك التى تستخدم فى تثبيت الخيام في الأرض) (ص 208).  ويقتبس من سورة الغاشية: { وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } (سورة الغاشية 19 – 20). وتقول هذه الآيات إن الله أرسى الجبال فى الأرض كأوتاد خيمة ليحفظها من أن تميد أى تميل وتضطرب).

ويعلق د. دافيد يونج على ما اقتبسناه من د. بوكاي في مطلع كلامنا هنا بالقول: (صحيح أن سلاسل جبال كثيرة تكونت من صخور متعرجة، ولكن ليس صحيحا أن هذه التعرجات تثبت الأجزاء البارزة.  بل إن وجود هذه التعرجات دليل على عدم ثبات أديم الأرض). وهذا يعنى أن الجبال لا تحفظ الأرض من أن تميل، بل إنها تجعل سطح الأرض يهتز!
وتقترح النظريات الجيولوجية الحديثة أن أديم الأرض الصلد مكون من أجزاء أو طبقات تتحرك مع بعضها ببطء، بسرعة تعادل سرعة نمو الأظافر، وتنفصل الطبقات أحيانا.
ويعتقد معظم الجيولوجيين أن هذا يوضح انفصال أمريكا الشمالية والجنوبية عن قارتي أوربا وأفريقيا. وفي بعض أنحاء الكرة الأرضية تتصادم هذه الطبقات وتنبعج وتتغضن وتنزلق فوق بعضها.  وتجد هذا في الشرق الأوسط حيث كان تحرك شبه الجزيرة العربية نحو إيران سببا فى ظهور سلسلة جبال زاجروس، وجبال أطلس فى المغرب، وجبال الألب التى تكونت بسبب تحرك الطبقات الأرضية
 “.

الجواب:
قوله هذا ناشئ عن عدم فهم وجه الإعجاز العلمي في وظيفة الجبال كما بينها القرآن الكريم.

وقد ذكر الدكتور زغلول النجار أن إرساء (تثبيت) الجبال للأرض ما هو إلا إرساء لأمرين:

” ‏أ‏.‏ تثبيت الجبال لألواح الغلاف الصخري للأرض:

في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، تمت بلورة مفهوم تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض،‏ فقد اتضح أن هذا الغلاف ممزق بشبكة هائلة من الصدوع، تمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات، لتحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة، بعمق يتراوح بين‏65‏ و‏150‏ كيلومتراً.‏ فتقسمه إلى عدد من الألواح الصخرية، التي تطفو فوق نطاق الضعف الأرضي، وتتحرك في هذا النطاق من نطق الأرض التيارات الحرارية، على هيئة دوامات عاتية من تيارات الحمل، تدفع بألواح الغلاف الصخري للأرض؛ لتباعد بينها عند أحد أطرافها، وتصدمها ببعض عند حوافها المقابلة لحواف التباعد،‏ وتجعلها تنزلق عبر بعضها عند الحافتين الأخريين‏.‏

ويتعين على تسارع حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض، دوران الأرض حول محورها أمام الشمس، كما يتعين على ذلك، اندفاع الصهارة الصخرية بملايين الأطنان عبر الصدوع الفاصلة بين حدود الألواح المتباعدة عن بعضها، فيتكون بذلك باستمرار أحزمة متوازية من الصخور البركانية التي تتوزع بانتظام حول مستويات الصدوع الفاصلة بين الألواح المتباعدة، في ظاهرة تعرف باسم: ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات‏. وتتكون الصخور الأحدث عمراً حول مستويات التصدع المتباعدة، باستمرار وتدفع الصخور الأقدم عمراً في اتجاه اللوح المقابل عند خط الاصطدام. وهنا يهبط قاع المحيط تحت القارة، إذا كان اللوح المقابل يحمل قارة بنفس معدل اتساع قاع المحيط، في كل جهة من جهتي الاتساع، حول مستوى تصدع وسط المحيط، الذي تتكون حوله سلاسل من الجروف البركانية، تمتد فوق قاع المحيط لعشرات الآلاف من الكيلومترات، وتعرف باسم حواف أواسط المحيطات‏.‏

وينتج عن هبوط قاع المحيط تحت اللوح الصخري الحامل للقارة، تكوُّن أعمق أجزاء هذا المحيط على هيئة جُبٍّ عميق، يعرف باسم: الجب البحري‏.‏ ونظراً لعمقه، يتجمع في هذا الجب كم هائل من الرسوبيات البحرية، التي تتضاغط وتتلاحم مكونة تتابعات سميكة جداً من الصخور الرسوبية، ويتبادل مع هذه الصخور الرسوبية، ويتداخل فيها  كم هائل من الصخور النارية، التي تعمل على تحول أجزاء منها، إلى صخور متحولة‏.‏ وتنتج الصخور البركانية عن الانصهار الجزئي لقاع المحيط المندفع، هابطاً تحت القارة. وتنتج الصخور المتداخلة جزئيا عن الصهارة الناتجة عن هذا الهبوط، وعن الإزاحة من نطاق الضعف الأرضي بدخول اللوح الهابط فيه‏.‏

هذا الخليط من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة، يكشط باستمرار من فوق قاع المحيط بحركته المستمرة تحت اللوح الصخري الحامل للقارة، فيطوى ويتكسر. ويضاف إلى حافة القارة مكوناً سلسلة أو عددا من السلاسل الجبلية ذات الجذور العميقة، التي تربط كتلة القارة بقاع المحيط فتهدئ من حركة اللوحين، وتعين على استقرار اللوح الصخري الحامل للقارة، استقراراً -ولو جزئياً- يسمح بإعمارها‏.‏

وتتوقف حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض بالكامل، عندما تصل دورة بناء الجبال إلى نهايتها حين تتحرك قارتان مفصولتان بمحيط كبير، في اتجاه بعضهما. حتي يستهلك قاع المحيط كاملاً بدخوله تحت إحدى القارتين حتى تصطدما‏.‏ فيتكون بذلك أعلى السلاسل الجبلية ارتفاعاً، كما حدث عند ارتطام اللوح القاري الحامل للهند، باللوح الحامل لقارتي آسيا وأوروبا، وتكوَّنت سلسلة جبال الهيمالايا‏.‏

من هنا اتضح دور الجبال في إرساء ألواح الغلاف الصخري للأرض وتثبيتها، ولولا ذلك ما استقامت الحياة على سطح الأرض أبدا‏ًً؛ لأن حركة هذه الألواح كانت في بدء خلق الأرض على درجة من السرعة والعنف لا تسمح لتربة أن تتجمع، ولا لنبتة أن تنبت، ولا لحيوان أو إنسان أن يعيش‏.‏ خاصة وأن سرعة دوران الأرض حول محورها، كانت في القديم أعلى من معدلاتها الحالية بكثير، لدرجة أن طول الليل والنهار معاً عند بدء خلق الأرض، يقدر بأربع ساعات فقط، وأن عدد الأيام في السنة كان أكثر من‏2200‏ يوماً، وهذه السرعة الفائقة لدوران الأرض حول محورها، كانت -بلا شك- تزيد من سرعة انزلاق ألواح الغلاف الصخري للأرض فوق نطاق الضعف الأرضي‏.‏ وهي تدفع أساساً بظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات، وبملايين الأطنان من الصهارة الصخرية، والحمم البركانية المندفعة عبر صدوع تلك القيعان‏.‏

وبتسارع حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض، تسارعت الحركات البانية للجبال‏. وبتسارع بنائها هدأت حركة هذه الألواح، وهيأت الأرض لاستقبال الحياة‏. وقبل مقدم الإنسان كانت غالبية ألواح الغلاف الصخري للأرض قد استقرت، بكثرة تكون السلاسل والمنظومات الجبلية، وأخذت الأرض هيأتها لاستقبال هذا المخلوق المكرم الذي حمله الله تعالي مسئولية الاستخلاف في الأرض‏.‏

ب.‏ تثبيت الجبال للأرض كلها ككوكب:

تساءل العلماء عن إمكانية وجود دور للجبال في اتزان حركة الأرض ككوكب وجعلها قراراً صالحا للحياة، وجاء الرد بالايجاب؛ لأنه نتيجة لدوران الأرض حول محورها، فإن القوة الطاردة المركزية الناشئة عن هذا الدوران، تبلغ ذروتها عند خط استواء الأرض، ولذلك فإن الأرض انبعجت قليلاً عند خط الاستواء حيث تقل قوة الجاذبية، وتطغى القوة الطاردة المركزية‏.‏ وتفلطحت قليلاً عند القطبين، حيث تطغى قوة الجاذبية، وتتضاءل القوة الطاردة المركزية.‏ وبذلك فإن طول قطر الأرض الاستوائي يزداد باستمرار، بينما يقل طول قطرها القطبي‏ ـ‏ وإن كان ذلك يتم بمعدلات بطيئة جداً؛ إلا أن ذلك قد أخرج الأرض عن شكلها الكروي إلى شكل شبه كروي.

وشبه الكرة لا يمكنها أن تكون منتظمة في دورانها حول محورها، وذلك لأن الانبعاج الاستوائي للأرض يجعل محور دورانها يغير اتجاهه رويداً رويداً في حركة معقدة، مردها إلى تأثير جاذبية أجرام المجموعة الشمسية -خاصة الشمس والقمر- على الأرض، وتعرف هذه الحركة باسم الحركة البدارية‏ ـ‏ أو حركة الترنح والبدارية‏ ـ.‏

وتنشأ هذه الحركة عن ترنح الأرض في حركة بطيئة تتمايل فيها من اليمين إلى اليسار، بالنسبة إلى محورها العمودي الذي يدور لولبياً، دون أن يشير طرفاه الشمالي والجنوبي إلى نقطة ثابتة في الشمال أو في الجنوب‏.‏ ونتيجة للتقدم أو التقهقر، فإن محور دوران الأرض يرسم بنهايته دائرة حول قطب البروج، تتم في فترة زمنية قدرها نحو 26.000‏ سنة من سنيننا‏.‏

ويتبع ترنح الأرض حول مدارها، مسار متعرج بسبب جذب كل من الشمس والقمر للأرض، ‏وتبعاً للمتغيرات المستمرة في مقدار واتجاه القوة البدارية لكل منهما. ويؤدي ذلك إلى ابتعاد الدائرة الوهمية التي يرسمها محور الأرض أثناء ترنحها، وتحولها إلى دائرة مؤلفة من أعداد من الأقواس المتساوية، التي يبلغ عددها في الدورة الكاملة‏1400‏ ذبذبة ‏(أو قوس‏).‏ ويستغرق رسم القوس الواحد 18.6 سنة، أي أن هذه الدائرة تتم في ‏(26040)‏ سنة‏،‏ وتسمى باسم: حركة الميسان‏ (النودان أو التذبذب‏).‏ وقد أثبتت الدراسات الفلكية أن لمحور دوران الأرض عدداً من الحركات الترنحية، التي تستغرق أوقاتاً مختلفة، يبلغ أقصرها عشرة أيام، ويبلغ أطولها 18.6 سنة من سنيننا‏.‏

ووجود الجبال ذات الجذور الغائرة في الغلاف الصخري للأرض، يقلل من شدة ترنح الأرض في دورانها حول محورها، ويجعل حركتها أكثر استقراراً وانتظاماً وسلاسة، تماماً كما تفعل قطع الرصاص التي توضع حول إطار السيارة لانتظام حركتها، وقلة رجرجتها، وبذلك أصبحت الأرض مؤهلة للعمران‏ ‏”.‏ ا. هـ

الآية الكريمة لا تتحدث عن مساحات صغيرة من الكرة الأرضية -أو إقليماً تقوم الجبال بحفظه من الاهتزازات-لا تكاد تقاس بالنسبة إلى عِظَمِ حجمها، بل الآية الكريمة تتحدث عن نفع جنس الجبال بشكل عام، لمجمل الكرة الأرضية.. وسبحان الله منزل القرآن! أ.هــ
الهوامش:

 [1] أساس البلاغة، الزمخشري، 2/92 ص ع د.

[2] المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده، 1/285أبواب العين مع الصاد .

[3] تاج العروس، الفيروزآبادي 2/397 صعد.

[4] انظر: لسان العرب، ابن منظور، 3/253 صعد، وانظر معنى صَعَّدَ: المعجم الوسيط، د. إبراهيم أنيس، ص514.

[5] استعارت العرب لفظ يَصَّعَّد ليدل على المشقة، ولا يمنع من أن يكون على المعنى الأصلي للصعود وهو الارتقاء، وهذا مما تعرفه العرب. خذ مثلاً كلمة المجد فأصلها: امتلاء بطن الدابة بالعلف، ثم استعير ليدل على الرِّفعة.. لأنه دليل على امتلاء الإنسان بالخصال الحميدة، فأخذت الاستعارة لازم المجد وهو الامتلاء، ولا يُخطئ من عبَّر به عن امتلاء بطن الدابة؛ لأنه ذكر أصلها. انظر: المعرب في القرآن الكريم، د. محمد بلاسي، ص13.

[6] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس 3/221 صعد وأطال في ذكر ما اشتق من هذا الأصل، وتفرع عنه.

[7] انظر: موسوعة الإعجاز العلمي، يوسف الحاج أحمد، ص347-349.

[8] لقد قام ببتر النص كعادتهم.. وما حذفه هو: ” ومصدر دنأ دناءة كما ترى ابن السكيت يقال لقد دنأت تدنأ أي سفلت في فعلك ومجنت وقال تعالى: ” أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ” [البقرة: 61]. قال الفراء: هو من الدناءة، والعرب تقول: ” إنه لدني “، في الأمور -غير مهموز يتبع خساسها وأصاغرها.. “. انظر: لسان العرب، ابن منظور1/78 دنأ.

[9] صدق فيه قول أبي نواس:    فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً       حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ

ويُقال له: بم تفسر دون في قوله تعالى في سورة الأعراف: ” وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ.. 168 “. وفيها: ” وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ205 ” ؟ وسبحان من أنزل القرآن ليرد عليهم دون الحاجة إلى الرجوع إلى كتب المعاجم !

[10] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس 2/196 دن والحديث رواه أبو داود في الصلاة باب في تخفيف الصلاة 792. وابن ماجه في إقامة الصلاة باب ما يقال بعد التشهد.. 910 وابن خزيمة في صحيحه في الصلاة باب الاستغفار بعد التشهد 725 عن أبي هريرة t. قال الكناني في مصباح الزجاجة 1/112: ” إسناده صحيح ورواته ثقات “، وانظر: صحيح سنن أبي داود للألباني1/210.

[11] المفردات، الراغب الأصفهاني، ص172.

[12] البيان والتبيين، الجاحظ، 2/87.  وموضع الشاهد هنا: استخدام فوق مقابل دون. إلا إن زعم ذاك الملحد كاتب تلك الصفحة أعلاه ولقبه في منتديات الحوار الديني: الختيار ـ أنه أفصح من علي بن أبي طالب رضي الله عنه والجاحظِ ناقلِ الحكاية !!

[13] انظر: موسوعة الإعجاز العلمي، يوسف الحاج أحمد، ص269-272 وأطلس القرآن، د. شوقي أبو خليل، ص164. وملحق: 4.


الوسوم:

مقالات ذات صلة