تكون الجنين / دراسة مقارنة بين القرآن الكريم والعهد القديم
السبت/ديسمبر/2019
صورة لجنين بشري وهو في بطن أمه |
إعداد: د. عبد الرحيم الشريف
دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن الكريم
ملخص البحث:
أول ما يخطر ببال المسلم حين يدعو غير المسلم ـ مستخدماً وسيلة الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ـ هو بيان سبق القرآن الكريم في تحديد مراحل تكوُّن الجنين، بدقة ودون أي خطأ.
لكنه قد يُفاجأ بمن يزعم أن هذا الإعجاز مسبوق في الكتب المقدسة لليهود والنصارى، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخذ ذلك عنهم.
من هنا جاءت هذه الدراسة لعرض تلك الشبهة وبيان ضعفها، والله ولي التوفيق.
مقدمة:
يُقصَد بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم: اشتماله على إشارات تدل على معارف إنسانية اكتشفت حديثاً، وحقائق كونية لا يُتصَوَّر أن يتوقعها بشر من ذاته؛ لأنها اكتشِفت في عصور متأخرة.[1]
ولما كان بيان أوجه إعجاز القرآن الكريم، والكشف عن آياته البديعة، من أهم واجبات الأمة الإسلامية[2]، كان الدفاع عنها له الحكمُ ذاته، إن لم يكن أوجب.
فمنذ بداية التحدي بالقرآن الكريم، أخذ أعداء الإسلام يوجهون سهامهم إلى المحتوى المعجز للقرآن الكريم، محاولين النيل من هيبته في نفوس المؤمنين به ـ ومن يفكر في الإيمان به ـ بشتى الطرق.
ويُعَدُّ محتوى القرآن الكريم ـ سبب عزة الأمة العربية الإسلامية ونهضتها ـ شوكةً في حلق كل من تسول له نفسه التشكيك بإلهية مصدره، وتميز أسلوبه.. فكان ـ ومازال وسيبقى ـ الكتاب السماوي الوحيد الذي يحمل دليل صدقه بين دفتيه.
عرض الشبهة:
من الأمثلة على ما سبق، مقارناتٍ تُعقَد ـ بين حين وحين ـ بين أوجه الإعجاز الثابتة في القرآن الكريم ومزاعم إعجاز سبقت في كتب السابقين. وفي هذه الدراسة تحليل ونقد لما ورد في أحد مواقع الإنترنت الناطقة بالعربية حول أشهر دلائل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وهو: سبقه في تحديد مراحل خلق الجنين بدقة، بحسب محاضرات شهيرة لعالم الأجنة (كيث مور) عام 1404 هـ بعنوان: ” مطابقة علم الأجنة لما في القرآن والسنة “، عُقِدت في ثلاث كليات طبية بالمملكة العربية السعودية، ومما جاء في ذاك الموقع التنصيري:
” وقعت على موقع إسلامي يسمي نفسه باسم ” الإعجاز العلمي في القرآن ” وكان يعرض المعجزة العلمية في قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحما) سورة المؤمنون،12 ـ14
ومن أجل التفسير العلمي الأكاديمي، الذي لا يقبل الشك، فقد استقدم الموقع (أحد أكبر أساتذة علم الأجنة من أمريكا) والذي تقول الرواية، أنه ” ذُهل ” عندما علم أن هذه الحقائق العلمية ..
والواقع أن النص القرآني[3] (الذي حمله الفقهاء أكثر مما أراد الله نفسه) لم يورد أية معلومة جديدة، بل خاطب الناس بالمعلومات المتوافرة في عصرهم، ليبين لهم قدرة الله، وليس ليمنحهم معلومات في علم الأجنة، فمعلومة أن الجنين يوجد كاملا في نطفة الرجل، معلومة معروفة منذ زمن التوراة، وقد وردت في سفر أيوب على النحو التالي: ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن، كسوتني جلداً ولحما، فنسجتني بعظام وعصب، سفر أيوب 10/12 “.
نقد الشبهة:
والرد على تلك الشبهة من وجوه:
– الوجه الأول:
بيان نظرة الكتاب المقدس لليهود والنصارى إلى أصل الجنين:
في العهد الذي جُمِعت فيه أسفار العهد القديم، كانت نظرية ” الجنين القزم ” أقوى النظريات الفلسفية حول أصل ونشوء الجنين، وهي تزعم أن الإنسان حينئذٍ يكون كامل الخِلقة ولكنه ينمو باضطراد كما تنمو الشجرة الصغيرة إلى أن تكبر.
نظرية الجنين القزم كانت ترى أن الإنسان يكون على شكل إنسان مصغر في نطفة الرجل (جنين قزم) ثم ينموا في داخل رحم المرأة |
لكن الفلاسفة تنازَعوا في شأنها وانقسموا إلى مذهبين:
هل الإنسان يوجد كاملاً في الحيوان المنوي للرجل ؟ أم كاملاً في دم حيض المرأة يشتد عُودُه بعد أن ينعقد بسبب ماء الرجل ؟
فبحسب الأول: الإنسان يكون كامل الأعضاء قزماً في الحيوان المنوي، ولكن الجنين صغير الحجم، لا ينمو إلا في تربة خصبة (الرحم).
أما الثاني: الإنسان يكون كامل الأعضاء قزماً في دم الحيض، لكنه ينتظر المني ليقوم بمهمة عقدِ الجنين وتغليظ قوامه.
كما تفعل الإنفحة[4] بالحليب (اللبن)، فتعقده وتحوله إلى جبن.. فليس للمني دَورٌ سوى أنه ساعد كمساعدة الإنفحة للحليب (اللبن) في صنع الجبن (التخثير كالجبن).
وعند البحث في كتب التاريخ، نجد أنه لم يقل أحد من علماء الغرب الموثوق بعلمهم، إن الجنين ناتج عن التقاء الحيوان المنوي للرجل مع بويضة المرأة قبل سنة 1775م. وتم تأكيد هذه النظرية في بداية القرن العشرين عند اكتشاف الكروموسومات.[5]
بينما القرآن الكريم سبق إلى تقرير ذلك، بأن أكد أن الجنين يتكون بسبب النطفة الأمشاج (المختلطة)[6] بين نطفة الرجل، وبويضة المرأة. قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ” نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [الإنسان: 2]. وبيَّن أنه ينتقل من طَور إلى طَور: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا”، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) [نوح: 13، 14]، لا جنيناً قزماً.
مصداقاً لقوله تعالى في سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) (5).
وفي سورة المؤمنون: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14) ).
وقد كانت نظرية الجنين القزم ـ بشقيها ـ راسخة كأنها حقيقة ثابتة لا جدال فيها، لكن ذلك لم يمنع علماءنا الكرام من تقديم النص القرآني عليها، ومنهم:
– ابن حجر في مقدمة شرحه لكتاب القدر في صحيح البخاري: ” وزعم كثير من أهل التشريح: أن مني الرجل لا أثر له في الولد، إلا في عقده. وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تُبطِلُ ذلك “.[7]
– وابن القيم: ” الجنين يُخلق من ماء الرجل وماء المرأة، خلافاً لمن يزعم من الطبائعيين، أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده “.[8]
– والقرطبي: ” بَيَّنَ الله تعالى في هذه الآية [يقصد قوله تعالى في سور الحجرات: إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ (13) ] أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى.. وقد ذهب قوم من الأوائل، إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم ويستمد من الدم الذي يكون فيه.. والصحيح: أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة؛ لهذه الآية، فإنها نصٌّ لا يحتمل التأويل “.[9]
فـــــائـــــدة:
من هنا يتبين أن علماء الإسلام يُقدِّمون الثابت القطعي من النصوص، على الظني من النظريات العلمية. كما يدل على قوة رأي علماء التشريح ـ في ذلك الزمان ـ الذين قالوا بنظرية الجنين القزم.
لكن قوة ذلك الرأي، لم تمنع علماءنا من تقديم النص القطعي على النظرية العلمية الظنية.. وفي ذلك درس بليغ لمن يتصدى للبحث في الإعجاز العلمي، فالأولوية للنص القرآني ولابد أن العلم سيكشف أن النص القرآني هو الأحكَم والأعلم.(َلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
ومن المخالفات العلمية المنهجية في موقع الإنترنت التنصيري الذي أثار تلك الشبهة: عدم الرد العلمي لما ورد في المحاضرة الشهيرة لعالم الأجنة (كيث مور) ومنه:
” لم تضِف في العصور الوسطى معلومات ذات قيمة في مجال تخلق الجنين، ومع ذلك فقد سجل القرآن الكريم في القرن السابع ـ وهو الكتاب المقدس عند المسلمين ـ أن الجنين البشري يتخلق من أخلاط تركيبية [أمشاج] من الذكر والأنثى..
وأول من درس جنين الدجاجة باستخدام عدسة بسيطة هو (هارفي) Harvey عام 1651 م، ودرس كذلك أجنة حيوان (الأيل). ولصعوبة معاينة المراحل الأولى للحمل، استنتج أن الأجنة ليست إلا إفرازات رحمية.
وفي عام 1672م اكتشف (جراف) Graaf حويصلات في المبايض ما زالت تسمى باسمه Graafian Follicles ، وعاينَ حجيراتٍ في أرحام الأرانب الحوامل تماثلها، فاستنتج أن الأجنة ليست إفرازات من الرحم وإنما من المبايض.
وفي عام 1675م عاين (ملبيجي) Malpighi أجنة في بيض دجاج ظنه غير محتاج لعناصر تخصيب من الذكر، واعتقد أنه يحتوى على كائن مصغر ينمو ولا يتخلق في أطوار.
وباستخدام مجهر أكثر تطوراً اكتشف (هام) Hamm و(ليفنهوك) Leeuwenhoek الحوين المنوي للإنسان للمرة الأولى في التاريخ عام 1677م ولكنهما لم يدركا دوره الحقيقي في الإنجاب، وظنا أيضاً أنه يحتوي على الإنسان مصغراً لينمو في الرحم بلا أطوار تخليق [ الجنين القزم].
وفي عام 1759م افترض (وولف) Wolff تطور الجنين من كتل أولية التكوين ليس لها هيئة الكائن المكتمل.
عام 1775م انتهى الجدل حول فرضية الخلق المكتمل ابتداءً، واستقرت نهائياً حقيقة التخليق في أطوار. وأكدت تجارب (إسبالانزاني) Spallanzani على الكلاب على أهمية الحوينات المنوية في عملية التخليق.. وقبله سادت الفكرة بأن الحوينات المنوية كائنات غريبة متطفلة، ولذا سميت بحيوانات المني Semen Animals.
عام 1827م ـ بعد حوالي 150 سنة من اكتشاف الحوين المنوي ـ عاينَ (فون بير) von Baer البويضة في حويصلة مبيض إحدى الكلاب.
عام 1839م تأكد (شليدن) Schleiden و(شوان) Schwann مِن تكوُّن الجسم البشري من وحدات بنائية أساسية حية ونواتجها، وسميت تلك الوحدات بالخلايا، وأصبح من اليسير لاحقاً تفهُّم حقيقة التخلق في أطوار من خلية مخصبة ناتجة عن الاتحاد بين الحوين المنوي والبويضة..
عام 1878م اكتشف (فليمنج) Flemming الفتائل الوراثية Chromosomes داخل الخلايا.
عام 1883م اكتشف (بينيدن) Beneden اختزال عددها في الخلايا التناسلية.
وفي القرن العشرين تم التحقق نهائياً من احتواء الخلية البشرية الأولى Zygot على العدد الكامل من تلك الأخلاط الوراثية من الذكر ومن الأنثى وعُرِفَ عددها ” .[10]
وهذا ما أكده د. عدنان الشريف بقوله: ” إذا استثنينا علماء المسلمين الذين شرَحوا تكون الجنين، من خلال شرحهم الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تطرقت إلى هذا العلم، فلقد ظلت الإنسانية حتى أواسط القرن التاسع عشر تأخذ بمعلومات خاطئة عن تكون الجنين. لقد كتب أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد ـ وهو الذي ظلت كتبه وآراؤه مقدسة في الأوساط العلمية حتى القرن السابع عشر ـ أن الجنين يتخلق من اتحاد المني مع دم الحيض.. ويكفي [لنقده] التذكير بقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) [البقرة: 222]..
وكتب الطبيب (مَلبيجي) Malpighi في سنة 1675م أن البويضة تحمل الجنين بصورة مصغرة، وأن السائل المنوي لا وظيفة له إلا تنشيط البويضة. واعتقدَ العالمان (هام وهوك) ـ مكتشفا المجهر والحيوان المنوي ـ أن الجنين موجود بصورة مصغرة جداً في الحيوان المنوي، ولا وظيفة للبويضة إلا في تغذيته وتنشيطه “.[11]
– الوجه الثاني:
سَبْق القرآن الكريم في بيان أن نطفة الرجل هي التي تقرر جنس الجنين: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) [النجم: 45، 46].
كما أشار القرآن الكريم إلى أن غدد الذكر الجنسية المنتجة للخصيتين تنشأ من منطقة الظهر: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ).. [الأعراف: 172].
إضافة إلى السبق في دقة وصف وترتيب كل مرحلة من مراحل خلق الجنين: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام، ثم كسو اللحم العضلات، ثم الإنشاء خلقاً آخر.[12]
قال تعالى في سورة المؤمنون: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ..(14)).
أين هذا الإعجاز الفريد مما جاء من تخيلات وأفكار مغلوطة في كتب الأقدمين ؟!
– الوجه الثالث:
التحريف الواضح المقصود في النقل عن العهد القديم:
من يراجع النص المذكور سابقاً من العهد القديم، يتأكد له التحريف وعدم صدق النقل. كما يؤكد استمرار التحريف المقصود: ما زعمَ القمُّص[13] زكريا بطرس في موقع إنترنت تنصيري آخر:
” أقول لك هذه الآيات القرآنية، أليست هي: سورة المؤمنون 12 ـ 14 “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين” ، ثم جعلناه نطفة (المني أي الحيوان المنوي) في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة (قطعة الدم التي يتكون منها الجنين) فخلقنا العلقة مضغة (قطعة من اللحم) فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظم لحما ثم أنشأناه خلقا آخر…” وسورة النحل 4 “خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين” ” وسورة الحج 5 “… فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مُخَلَّقَةٍ لنبين لكم، ونُقر في الأرحام ما نشاء، إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشُدَّكُم..” وسورة القيامة37 “ألم يك نطفة من مًنِيِّ يُمنَى” والواقع يا عزيزي أن القرآن ليس أول من ذكر أطوار خلقة الإنسان، وإليك الحقيقة:
من الكتاب المقدس: (في سفر أيوب 1 / 8ـ12) “يداك كونتاني وصنعتاني كلي… إنك جبلتني كالطين… ألم تَصُبَّني كاللبن (السائل المنوي)، وخثرتني كالجبن (أي صار كياني مثل قطعة الجبن)، كسوتني جلدا ولحما، فنسجتني بعظام وعصب، منحتني حياة ورحمة، وحفظت عنايتك روحي”. {كتب سفر أيوب بما يزيد عن (2000) سنة قبل الميلاد أي قبل الإسلام بما يزيد عن 2600 سنة}
(مزمور 139/ 13ـ16) “… نسجتني في بطن أمي، أحمدك لأنك صنعتني بإعجازك المدهش، لم تختفِ عنك عظامي حينما صنعتُ في الرحم، أبدعتني هناك في الخفاء رأتني عيناك عَلَقَةً وجنينا وقبل أن تخلق أعضائي كُتِبَتْ في سفرك يوم تصورتها” {كتبت المزامير بما يزيد عن 500 سنة قبل الميلاد أي قبل الإسلام بما يزيد عن 1100 سنة}..
ألا ترى معي أن الإسلام لم يأت بجديد، بل أخذ عن الكتاب المقدس ما قاله قبل القرآن بما يزيد عن 2600 سنة ؟؟!! “.
الجواب:
قام القمص زكريا بطرس بتحريف في النصوص الذي استشهد بها، وحتى تتكون نظرة متكاملة للموضوع، سيتم نقل النص من العهد القديم:
أولاً: سفر أيوب [10/8-13]: يزعمون أن أيوب أخذ يعاتب ربه (!!) بما يلي:
” (8) قد كوَّنتني يداك وصنعتاني بجُمْلتي، والآن التفتَّ إليَّ لتسحقني! (9) اذكر أنك جبلتني من طين، أترجعني بعد إلى التراب؟ (10) ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن؟ (11) كسوتني جلداً ولحماً، فنسجتني بعظام وعصب (12) منحتني حياة ورحمة، وحفظت عنايَتُك روحي (13) لكنك كتمت هذه في قلبك “.
بربط النص الصحيح من سفر أيوب بما سبق بيانه في الوجه الأول من نقد الشبهة، يتبين المقصود بعبارة ” التخثير كالجبن “، وعلاقتها بنظرية ” الجنين القزم “.
أي: دم الحيض سائل، وحين يلتقي به الحيوان المنوي يخثِّره كما تخثِّر الإنفحةُ الحليبَ (اللبن) فتجعله جبناً.
وكما أن المادة الرئيسة في تكوين الجبن هي الحليب (اللبن)، وما الإنفحة إلا كعاملٍ مساعدٍ في التخثير. فإن الحيوان المنوي ـ بحسب تلك النظرية المغلوطة ـ ليس له إلا دَور ثانوي في تكوين الجنين.
لكن الحق المجمع عليه أن لكل من الحيوان المنوي والبويضة دور مشيج (خليط) في تكوُّن الجنين، فكل منهما يحمل ثلاثة وعشرين زوجاً من الصبغيات (الكروموسومات)، بل للحيوان المنوي الدور الرئيس في تحديد جنس الجنين.[14]
وحين تسأل علماء أهل الكتاب عن تفسير عبارة ” التخثير كالجبن ” الواردة في سفر أيوب، تجد كتاب ” التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ” ملتزماً الصمت !
بينما جاء في موسوعة ” ينبوع الحياة ” تحت عنوان : ” خثر ” ما يلي:
” الكلمة بالعبرية: קָפַּא : جَعْلُ السائلِ جامداً “.
وأكدت ذلك ” دائرة المعارف الكتابية ” تحت مادة ” خثر ” : ” خثر اللبن خثرًا وخثورًا: غلظ. وتضاف خميرة المنفحة إلى اللبن؛ ليتخثر وليصنع منه الجبن. ويقول أيوب:” ألم تصبني كاللبن وخثرتني كالجبن ؟ ” “.
ثانياً: المزامير [139/13-16]: يزعمون أن داود أخذ يناجي ربه بما يلي:
” (13) لأنك أنت اقتنيت كليتيّ، نسجتني في بطن أمي (14) أحمدك من أجل أني قد امتزت عجباً، عجيبة هي أعمالك ونفسي تعرف ذلك يقيناً (15) لم تختف عنك عظامي حينما صنعت في الخفاء ورقمت في أعماق الأرض (16) رأت عيناك أعضائي وفي سفرك كلها كتبت يوم تصورت إذ لم يكن واحد منها “.[15]
أين: ” صنعتني بإعجازك المدهش ” ؟ و ” الرحم ” ؟ و ” علقة ” ؟ و ” جنيناً ” ؟
لقد قام بذلك التحريف؛ ليصرف الانتباه عن اتفاق النص المذكور أولاً (من سفر أيوب)، مع الفكرة المغلوطة حول الجنين القزم.
خاتمة البحث:
كلام البشر يعتريه النقص والخلل، فهو مبني على تجارب الناس وعلومهم، وفي هذه الدراسة مثال على الفرق بين الكلام الإلهي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من لدن عليمٍ حكيم، وبين كلام البشر الذي يعتريه ما يعتري البشر من نقص في العلم.
كما تثبِت أنه لا كتاب كاملٌ سوى القرآن الكريم، كلام الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل، بعكس ما سواه من الكتب التي تدخلت يد الناس لإصلاح أخطائها.
كيف لا ؟ والحق : ” أنه لا يكتب إنسان كتابه في يومِه، إلا قال في غدِه: لو غيِّر هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ لكان يُستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو ترِك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليل على استيلاء النقص على جُلة البشر”.[16]
وفي الختام:
نصيحة توجه لمن يلجأ إلى المغالطة والتحريف في كتبه المقدسة؛ ليستر عورتها وليقينه بضعفها:
أنتم أحرار في نظرتكم إلى كتبكم والتعديل عليها وفق أهوائكم، لكن ابتعدوا عن توجيه سهامكم نحو القرآن الكريم؛ حرصاً عليكم لأنها سترتد إليكم يقيناً.
وصدق الله العظيم في وصفهم: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُم وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [آل عمران: 69].
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ عَلَينا وَتَسكينَةٍ شاهِدُ”
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ [17]
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ” مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ..) [الحج: 54].
للتواصل:
د. عبدالرحيم الشريف
[1] انظر: مباحث في إعجاز القرآن، أ.د. مصطفى مسلم، ص158.
[2] قال القاضي الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن ص22: ” ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواماً، ولقاعدة توحيدهم عماداً ونظاماً، وعلى صدق نبيهم r برهاناً، ولمعجزته ثبتاً وحجة. لا سيما والجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستولٍ على الآفاق. والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهلهم في جفوة الزمن البهيم، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشتيم [كريه المنظر]. حتى صار ما يكابدونه قاطعاً عن الواجب من سلوك مناهجه، والأخذ في سبيله “.
قلت: إن كان ذلك كلام الباقلاني المتوفى سنة (403هـ) عن حال العلم في مجتمعه، وتلك استغاثته بعلماء ذلك الزمان، مع أنه كان للإسلام دولة تنتصر له، وعلماء أكفاء يذودون عن حياضه، لا يخافون لومة لائم.. فكيف بنا في هذا الزمان ؟
[3] يُكثر الكُتاب العرب العلمانيون المتتلمذون على أيدي المنصرين والمستشرقين من إطلاق عبارة ” النص القرآني ” على آيات القرآن الكريم، ويزعمون بذلك أن: ” النص تدوين لروح العصر من خلال تجارب فردية وجماعية في مواقف معينة متعددة متباينة، فهو عمل إنساني خالص؛ لأنه يتحدث بلغة إنسانية نسبية، فالوحي على ذلك تأنسَنَ عندما تحول عبر الرسول إلى كلمة إنسانية. إن النصوص الدينية تأنست منذ تجسدت في التاريخ واللغة، وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد، وإنها محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متغيرة في المفهوم “.
انظر عرض ذاك الزعم ونقده في كتاب: موقف الفكر العربي العلماني من النص القرآني / دعوى تاريخية النص نموذجاً، أحمد إدريس الطعان الحاج، أطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة، 2003م.
[4] قال ابن منظور في لسان العرب 2/622: ” إِنْفَحة الجَدْي وإِنْفِحَتَه وإِنْفَحَّتُه ومِنْفَحَتُه: شيءٌ يخرج من بطنه أَصفر يُعصر في صوفة مبتلة في اللبن، فيغلظ كالحُبْن “.
[5] انظر: موسوعة الإعجاز العلمي، يوسف الحاج أحمد، ص98-130.
[6] قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني 10/190: ” أمشاج .. أي: أخلاط، جمع خلط بمعنى: مختلط ممتزج. يقال: مشجت الشيء، إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج، وهو صفة لنطفة، ووصفت بالجمع ـ وهي مفردة ـ؛ لأن بها مجموع ماء الرجل والمرأة “.
[7] فتح الباري11/480.
[8] تحفة المودود، ص272.
[9] الجامع لأحكام القرآن 16/342.
[10] للاطلاع على النص الكامل لمحاضرة العالِم (كيث مور) انظر موقع: موسوعة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة ( www.quran-m.com ).
[11] مِن علم الطب القرآني، د. عدنان الشريف، ص33-34.
[12] للتفصيل والصور التوضيحية، انظر: المرجع السابق، فصل: أطوار الجنين، ص49-70.
[13] القُمُّص (Higoumen): لقب تمنحه الكنيسة القبطية لبعض الكهنة. انظر: معجم الإيمان المسيحي، الأب صبحي حموي، ص 383. وزكريا بطرس أحد أشهر المنصرين في القنوات الفضائية التنصيرية ومواقع الإنترنت.
[14] انظر مقال: نسبة النوع عند الولادة، د. كريم حسنين، مؤتمر الإعجاز العلمي السابع، ص6.
[15] جاء في كتاب: ” التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ” تفسير تلك العبارة بما يلي: ” إن طبيعة الله تتغلغل في كيان كل شخص. فعندما تشعر بضآلتك، أو عندما تبدأ تكره نفسك، اذكر أن روح الله، لديه الاستعداد في أن يعمل فيك ليجعل طبيعتك منسجمة مع إرادة الله. فالله يفكر فيك دائماً، فيجب أن يكون لدينا احترام لذواتنا، مثل ما لدى خالقنا من احترام نحونا “. وهذا التفسير يزيد التأكيد أنْ لا إعجاز في النص أعلاه البتة!
[16] قاله القاضي الفاضل عبدالرحيم البيساني في رسالة للعماد الأصفهاني، معتذراً عن كلام استدركَه عليه. انظر: كشف الظنون، حاجي خليفة1/14. وأبجد العلوم، القنوجي 1/70.
[17] البيتان لأبي العتاهية، انظر: ديوانه، د. شكري فيصل، ص 104.