القاديانية، وحديث لا نبي بعدي
الثلاثاء/ديسمبر/2019
صورة لمدعي النبوة الكذاب غلام احمد القادياني |
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
أولاً- قال النُّوَيْرِيُّ في( نهاية الأرب في فنون الأدب ):” ادَّعت امْرأةٌ النُّبُوَّة على عهد المأمون، فأُحضِرَتْ إليه، فقال لها: من أنت ؟ قالت: أنا فاطمةُ النَّبِيَّةُ. فقال لها المأمون: أتؤمنين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: نعم. كلُّ ما جاء به، فهو حق. قال المأمون: فقد قال محمد صلى الله عليه وسلم:« لا نبيَّ بعدي ». قالت: صدق عليه الصلاة والسلام، فهل قال: لا نَبِيَّةَ بعدي؟ قال المأمون لمن حضره: أمَّا أنا فقد انقطعت، فمن كان عنده حُجَّةٌ، فليأتِ بها، وضحك حتى غطَّى وجهه “.
هذه المرأة، التي ادَّعت النُّبُوَّة على عهد المأمون لم تَتلقَّ وَحْيَ نُبُوَّتها من( لندن ) مَصْدَرِ الوَحْيِ، ومَنْبَعِه في العصر الحديث؛ كما تَلقَّى وَحْيَ نُبُوَّته منها المُتنبِّئُ ميرزا أحمد غلام القادياني؛ ولهذا لم تفهم معنى البَعدِيَّة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما فهمه هو، وأتباعه. ذلك الحديث، الذي نفى فيه عليه الصلاة والسلام، نفيًا جازمًا أن يكون نبيٌّ بعده إلى قيام الساعة؛ لأنه{ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ }؛ كما وصفه الله تعالى بذلك، ووصف هو به نفسه، في كثير من أقواله، المتواترة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه حين خلَّفه في أهله في غزوة تبوك:« أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي ؟ ».
فجاء قوله عليه الصلاة والسلام:« إلا أنه لا نبيَّ بعدي »مفسِّرًا لقول الله تعالى:﴿ خَاتَم النَّبِيِّينَ ﴾. وهذا ما اعترف به المدَّعي النبوة غلام أحمد القادياني، وأقرَّه في تأليفه( عمامة البشر )، فقال بعد أن ذكر قوله تعالى:﴿ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾، قال:”وفسَّره نبيُّنا صلى الله عليه وسلم في قوله:« لا نبيَّ بعدي » “. وقال في كتاب( البرية ):”كان الحديث:« لا نبيَّ بعدي »مَعروفًا، مُنتشِرًا بين الناس إلى حدٍّ، لا يمكن أن يشك في صحته أحدٌ “.
فهو يعترف بأن النبي محمدًا صلى الله عليه هو نبيُّه، وأن قوله:« لا نبيَّ بعدي » جاء مفسِّرًا لقوله تعالى:﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾، وأنه معروف، ومنتشر بين الناس إلى حدٍّ، لا يمكن أن يشك في صحته أحدٌ.
فالمشكلة- إذًا- عند القادياني المتنبي أحمد غلام ليست في صحة الحديث، وعدم صحته، وإن اسشتهد على صحة ادِّعائه النُّبُوَّة بأحاديث ضعيفة، وموضوعة؛ وإنما المشكلة عنده هي أن الآخرين لم يفهموا الحقيقةَ، والسرَّ الكامنَ في مفهوم خَتْم النُّبُوَّة لـ{ خَاتَم النبيينَ }؛ كما فهمه هو. ولم يفهموا البَعْدِيَّة، المنصوص عليها في الحديث الشريف؛ كما فهمها هو وأتباعه.
أما عن مفهوم { خَتْم النُّبُوَّة }فقد أعلن حضرته أنهم يؤمنون بكون النبي صلى الله عليه وسلم { خاتم النبيين }بالبصيرة التامة، التي يعلمها الله.ويؤكِّد بأن الله تعالى كشفعليهم حقيقة{ خَتْمِ النُّبُوَّةِ }، بحيث يجدون من شراب المعرفة، الذي سُقُوا إياه، لذةً لا يتصوَّرها أحدٌ، إلا الذين سُقُوا من ذلك النبع.
ويعترف أتباعه أيضًا بأن الفعل{ ختم }،في اللغة، يعني: أنهى وأغلق؛ كما يعني أيضًا: طبع. أما { خاتَم }، أو{ خاتِم }في اللغة، فتعني: ما يوضع في الإصبع للزينة. وما يستخدم للختم أو التصديق، أو ما يستعمل للختم أو الإغلاق.
إنهم يعترفون بذلك؛ ولكنهم يقولون:” وإذا أضيف{ خاتَم }، أو{ خاتِم }، أو{ خاتِمة } إلى جمع العقلاء، فلا يكون معناه إلا الأفضل والأكمل، الذي جاء بما لم يأتِ، ولن يأتي أحد من قبله، أو من بعده بمثله. كذلك تعني مَنْ جَمَع أفضل ما كان للسابقين من أعمال وآثار ومحاسن، ومن ثمَّ صاغها في أزين صورة، ثم ترك أثره وطابعه فيمن جاء بعده. وبهذا يكون قد وصل الكمال فيما نُسِبَ إليه، بحيث لا يصل إلى مرتبته أحد ممَّن كان قبله، أو ممَّن جاء بعده “.
وبناء على ما سبق فإنهم يجدون أن مفهوم { خاتم النبيين} يحدد ملامح النبوة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل واضح وجلي. وهذا المفهوم ما كان إلا لكي يبين علو شأن النبي بين الأنبياء من ناحية، واستمرار النبوة من بعده من ناحية أخرى وعدم انقطاعها. ولكنهم يقيِّدون النبوة بشروط، لم تكن موجودة سابقًا، ويحصرونها في الأمة الإسلامية. ويزعمون أن المتنبي غلام هو المسيح الموعود. وقد نقلوا عن حضرته في معنى{ خَاتَم النَّبِيِّينَ }قصة طريفة، لا تقل طرافة عن قصة المتنبية فاطمة مع المأمون، فقالوا:”يروي حضرة ميرزا طاهر أحمد- رحمه الله- الخليفة الرابع للإمام المهدي عليه السلام، أنه في سنوات دراسته الجامعية بـ( لندن ) كان له أستاذ مصري، يدرِّسه اللغة العربية. وفي إحدى المرَّات كتب حضرته في موضوع عن الدولة الأموية ما يلي:« كان مروان بن محمد خاتم خلفاء بني أمية ». فقال له أستاذه: لا، هذا ليس بصحيح، اكتُبْ:« كان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ». فابتسم حضرته، وقال لأستاذه: إذن لماذا تصرُّ على أن معنى{ خاتم النبيين }:هو آخرهم “.
ويضيف أتباعه قائلين:” بالمِثْل نستطيع أن نقول:« إن هارون الرشيد هو خاتم خلفاء بني العباس ». وهذا القول سيكون مقبولاً من السامع، وسيلقى استحسانًا؛ لأن هارون الرشيد كان أعظم خلفاء بني العباس، وقد أرسى قواعد الدولة وتميز في نواح شتى؛ ولكن لو قلنا:« إن المستعصم كان خاتم خلفاء بني العباس »، بصفته آخرهم، فإن السامع لن يتقبل ذلك أبدًًا “.
ويظهر من أقوال هذه الجماعة الكافرة بإجماع المسلمين أنهم لم يختلفوا عن غيرهم ممَّن سبقهم، وكان على شاكلتهم. فهم يعتمدون الأحاديث الضعيفة، والموضوعة، وأقوال من سبقهم ممَّن يزعمون أنهم من علماء السلف الرَّبَّانيِّين، وصلحائهم- على حدِّ تعبيرهم- في دعم أفكارهم العفنة، ونشرها بين صفوف العامَّة، ويتلاعبون بالألفاظ، فيضعون لفظًا مكان آخر دون أن يفرقوا بينهما في المعنى، ويختارون من النصوص ما يوافق هواهم، ويدعم أفكارهم.
ثانيًا- وقد سبق أن بيَّنت في مقالي السابق( الرد على القاديانية، وخاتم النبيين ) أن الخاتَم- بفتح التاء- هو الطين الموضوع على الشيء المختوم. وأُطلِقَ على القالَبِ المنقوش فيه علامة، أو كتابة، يُطْبَعُ بها على الطين، الذي يُختَم به، بحيث لا يخرج منه شيء، ولا يدخل فيه شيء. وأن الخاتِم- بكسر التاء- هو فاعل الخَتْم على الشيء المختوم. وبهما قرىء قوله تعالى:﴿ خَاتَِمَ النَّبِيِّينَ ﴾. يقال: خَتَم الإناءَ، أو الجَرَّةَ، فهو خاتِم، بكسر التاء، والإناءُ مَخْتومٌ، والآلةُ، التي استعملها الخاتِمُ في الخَتْم، هي الخَاتَمُ. فالفرق بين{ الخَاتَم }، بفتح التاء، و{ الخَاتِم }، بكسر التاء، واضحٌ، لا يخفى إلا على الصُّمِّ العُمْيِ، و﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾.
وذكرت أيضًا أن حقيقةَ الخَتْمِ- في اللغة- هي السَّدُّ على الإناء، والغَلْقُ على الكتاب، بطين ونحوه، مع وضع علامة مرسومة في خَاتَم؛ لِيَمْنَعَ ذلك من فتْح المختوم. والختم على الإناء لا يكون إلا بعد الانتهاء من إتمامه. وإذا خُتِمَ لا يخرج منه شيء، ولا يزاد عليه شيء. ولإفادة هذا المعنى، قال تعالى:﴿ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾، ولم يقل:{ آخَرِ النَّبِيِّينَ }؛ لأن الخَاتَم هو الطين، الذي يُخْتَمُ به، وهو الآلةُ، التي يَخْتِمُ بها الخَاتِمُ على الشيء عند الانتهاء منه، اسْتيثاقًا من ألاَّ يخرجَ منه شيءٌ، أو يدخلَ فيه شيءٌ؛ فلهذا كان قول{ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ }أبلغَ وأعمَّ من لفظ { آخَر النَّبِيِّينَ}، وأدقَّ منه في التعبير عن المراد؛ لأنه يجمع بين معنيين، فدل على أن كل{ خاتَم }هو { آخَر }، وليس كل { آخَر }هو { خاتَم }. وهذا يعني: أن لفظ{ آخر }لا يدل على معنى الخَتْم؛ كما يدلُّ عليه لفظ { خاتَم }،هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن{ الخَاتَمَ }اشتُقَّ اسمًا من الخَتْمِ؛ لِيُخْتَمَ به على الشيء، الذي يراد خَتْمُه، لا ليُتَزَيَّن به. هذا هو الأصل في المراد من اشتقاق لفظ{ الخَاتَم }، حتى الخَاطِبُ، الذي يضع{ الخَاتَم }في أصبعه في أيامنا هذه؛ إنما يضعه؛ لِيَرْمُزَ به إلى انتهاء مرحلة من مراحل حياته، هي مرحلة العزوبة؛ وليبدأ بعدها مرحلة أخرى من مراحل حياته هي مرحلة الزواج؛ فكأنه خَتَمَ بهذا الخَاتَم، الذي وضعه في أصبعه على مرحلةٍ من مراحل حياته، لا يمكن أن تعود بعد دخوله المرحلة الثانية.
هذا وقد بيَّنتْ قِراءةُ بن مسعود رضي الله عنه:﴿ولَكِنْ نَبِيًّا خَتَمَ النَّبَيِّينَ ﴾ المراد من قوله تعالى:﴿ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾بيانًا لا لبس فيه، ولا غموض﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾؛ كما بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر، رواه مسلم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:« فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطيتُ جَوامعَ الكلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وأُحِلَّتْ لي الغنائمُ، وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا، وأُرْسِلْتُ إلى الخلْق كافَّةً، وخُتِمَ بي النبيُّون ».فكيف يُختَمُ به- عليه الصلاة والسلام- النبيون، إن لم يكن هو خَاتَمُهم، وآخر نبي فيهم ؟ وكيف لم يُغلَق بَابُ النُّبُوَّة، وقد ختمه الله تعالى بخاتَم النبيين ؟
بقي أن نعلم أن الخَتْمَ على الشيء لا يزول أبدًا إلا بأمر من الله تعالى؛ لأنه هو واضع الخَتْم سبحانه وتعالى. فليس للإنسان يدٌ في فضِّه، أو إزالته، خلافًا لمن يدَّعي ذلك؛ ولهذا ذكرت في مقالي السابق أن الخَتْمَ على القلوب يمنع من الإيمان منعًا تامًّا، بخلاف الطَّبْع؛ ولهذا أيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:«وخُتِمَ بي النبيُّون »، بالبناء للمجهول، فلا يُبعَث بعده نبيٌّ، ولا رسولٌ. ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد بن حُمَيْدٍ عن الحسن- رضي الله عنه- في قوله تعالى:﴿ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾، قال:”ختم الله النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكان آخَر من بُعِثَ “. وقال البيهقي في( شعب الإيمان ):”والخاتم: الذي لا نبي بعده؛ كما ليس بعد خاتمة الأمر منه شيءٌ، وليس بعد ختْم الكتاب نشرٌ، وليس بعد ختْم الكيس إخراجُ شيء منه “.
ولهذا كله أقول: ليس لمدَّع بعد هذا البيان أن يدَّعي أن المراد بـ:﴿ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾: زينة النبيين، أو أحسنهم، وأكملهم، وأفضلهم. وليس: آخَرهم، وأن باب النُّبُوَّة لم يُغلَق؛ إلا إذا كان المدَّعي مُتَنَبِيًا، قد تلقَّى علومه في جامعات لندن، وباريس، ونيويورك،؛ لأن تلك الجامعات هي مصدر الوحي والإلهام الرباني في العصر الحديث لمثل أولئك. ولعلها هي التي أوحت للقاديانيين أن { الخاتَِم }، إذا أضيف إلى جمع العقلاء فلا يكون إلا بمعنى: الأفضل والأكمل.
وليت شعري ماذا يقولون في إضافة لفظ { خَاتَم }إلى { ربِّ العالمين }في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:« آمين، خَاتَمُ رَبِّ العالمينَ على لسان عباده المؤمنين ». قال أَبو بكر معناه: أنه طابَعُ الله على عباده؛ لأنه يدفع به عنهم الآفات والبلايا، فكان كخَاتَم الكتاب، الذي يصونه، ويمنع من فساده، وإظهار ما فيه لمن يكره علمه به، ووقوفه على ما فيه !
ثالثًا- وأما البَعْدِيَّةالمنصوص عليها في قوله عليه الصلاة والسلام:« لا نبيَّ بعدي » فقد فهموا منها ما لم تفهمه فاطمة النَّبيَّة، التي ظهرت على عهد المأمون؛ لأنها لم تُسْقَ من شراب المعرفة، الذي سُقِيَ منه المتنبي غلام القادياني في( لندن ). ولهذا قالت للمأمون، لما احتجَّ عليها بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم، الذي تؤمن بأن ما جاء به حقٌّ، يقول:« لا نبيَّ بعدي ». فقالت:«صدق عليه الصلاة والسلام ! فهل قال: لا نَبِيَّةَ بعدي ؟ ». أما المتنبي غلام وأتباعه فقد فهموا أن المراد بـ« لا نبيَّ بعدي»:{ لا نبيَّ غيري }.
ثم يحتجُّون بأثرٍ مرويٍّ عن عائشة- رضي الله عنها- ينقضون به قولهم السابق، وهو قولها:« قولوا خاتم النبيين، ولا تقولوا لا نبي بعده »، وهو نصٌّ صريحٌ على البَعْدِيَّة الزمانية. وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدُّرِّ المنثور، ونقلوه هم عنه، ثم عقَّبوا عليه بقولهم:” لماذا رأت عائشة- رضي الله عنها- حاجة إلى هذا الشرح والإيضاح ؟ من الواضح جليًّا أنها خشيت أن يسيء البعضُ فهمه، وكانت تعرف أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد من« لا نبي بعدي »أنه لن يكون بعده نبي من أي نوع “.
وقد ذكر الإمام السيوطي في تفسير قول الله تعالى:﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾عدة أحاديث صحيحة، مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تدل دلالة صريحة على انقطاع الرسالة والنبوة، بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ومنها ما أخرجه أحمد، والترمذي، وصححه عن أبيٍّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:« مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا، فأحسنها وأكملها وأجملها، وترك فيها موضع هذه اللبنة، لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويعجبون منه، ويقولون: لو تمَّ موضع هذه اللبنة ! فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة ».
ومنها: ما أخرجه ابن مَرْدَوَيْهِ، عن ثَوْبَانَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي ».
ومنها ما أخرجه أحمد، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« في أمتي كذابون ودجالون: سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين، لا نبي بعدي ».
ومن العجيب أن المدَّعي النبوة غلام القادياني يمرُّ بهذه الأحاديث الصحيحة، التي لا مطعن فيها ولا غبار عليها، ولا يذكرها ولا يلتفت إليها؛ لأنها تخالف هواه. وإذا مرَّ بما رُوِيَ عن عائشة- رضي الله عنها- من قولها:« قولوا: خاتم النبيين، ولا تقولوا: لا نبي بعده »، عَضَّ عليه بالنواجذ، شأنُه في ذلك شأنَ من نزل فيهم قول الله تعالى:﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾(البقرة:85).
هذه الروايات، التي ذكرها السيوطي في تفسيره، هي غيضٌ من فيض، وقطرة من بحر؛ وإلا ففي دواوين السنة الصحيحة المعروفة لدى أهل العلم عدد كبير من الأحاديث، التي هي أقوى إسنادًا، وأكثر شهرة، ممَّا ذكره السيوطي، نذكر بعضًا منها؛ لزيادة العلم، وإقامة الحجة على من خالف ذلك، منها: ما أخرجه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الستة من حديث طويل، وهو حديث الشفاعة، وفيه:« فيقولون: يا محمد ! أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء ».
وأخرج ابن حبانفي صحيحه عن العرباض بن سارية الفزاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:« إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين، وإن آدمَ لَمُنْجَدِلٌ في طينته وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي، التي رأت حين وضعتني، أنه خرج منها نورٌ أضاءت لها منه قصور الشام ». ومنجدل: مُلقًى على الجَدالَة، وهي الأرض.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام:« لا نبي بعدي » فرواه البخاري ومسلم مرفوعًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء، فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فُوْا ببيْعَةِ الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، الذي جعل الله لهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ».
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:« لا يبقى بعدي من النبوة شيء إلا المبشرات. قالوا: يا رسول الله ! وما المبشرات ؟ قال الرؤيا الصالحة، يراها الرجل، أو تُرَى له ». ولفظ رواية أبي هريرة عند البخاري:« لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات ؟ قال: الرؤيا الصالحة ». وفي رواية ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ذلك في مرضه، الذي مات فيه:« يا أيها الناس ! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو تُرَى له ».
وقد دلَّ حديث عائشة رضي الله عنها دلالة واضحة لا خفاء فيها على انقطاع النبوة بجميع أنواعها، ويؤيِّده ما رواه أبو هريرة، وبن عباس- رضي الله عنهم- من الأحاديث المرفوعة الصحيحة، التي أخرجها مالك، والبخاري، ومسلم، فلا بد من تقديم هذه الأحاديث على أثر عائشة رضي الله عنها، الذي تقول فيه:« ولا تقولوا لا نبي بعده »، من وجوه:
أحدها-إذا وقع التعارض بين الحديث الصحيح المرفوع، والأثر الموقوف، فالواجب تقديم المرفوع على الموقوف؛ لأن المرفوع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف من كلام الصحابي، ولا شك أن قول النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم يقدم على قول الصحابي.
وثانيها-إن الراوي، إذا خالف قوله ما روى من الحديث، فالواجب تقديم روايته على قوله، ورأيه؛ كما تقرر ذلك في مصطلح الحديث، وعلم الأصول.
وثالثها-أثر عائشة رضي الله عنها ذكره السيوطي في تفسيره، دون سند؛ ولكن قال: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي شيبة أخرجه في مصنفه في باب ( من كره أن يقول: لا نبي بعد النبي )، مرويًّا عن حسين بن محمد، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:« قولوا: خاتم النبيين، ولا تقولوا: لا نبي بعده ». وجرير هذا لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، فهو منقطع. ومن الواضح أن الأثر الموقوف على الصحابي، لا يقاوم الحديث المرفوع الصحيح، وكيف، إذا كان ذلك الأثر منقطعًا. ولا شك أن المنقطع من أقسام الضعيف.
وتعقيبًا على أثر عائشة قال الشيخ بكر أبو زيد في ( معجم المناهي اللفظية ):”وهذا الأثر منقطع، جرير بن حازم، لم يسمع من عائشة، رضي الله عنها “. وقال في موضع آخر، بعد أن ذكر نصَّ هذا الأثر:”فإلاَّ تكن ذهبت إلى نزول المسيح، فما أعرف له وجهًا؛ إلا أن تكون قالت: لا تغيِّروا ما سمعتم، وقولوا كما قيل لكم، والفظوا بمثله سواء “.
وجاء في تخريج هذا الأثر قول ابن قتيبة في( تأويل مختلف الحديث ):”وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول:« قولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خاتم الأنبياء، ولا تقولوا: لا نبي بعده ». وهذا تناقض. قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا تناقض، ولا اختلاف؛ لأن المسيح صلى الله عليه وسلم نبيٌّ متقدِّمٌ، رفعه الله تعالى، ثم ينزله في آخر الزمان علمًا للساعة. قال الله تعالى:﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾(الزخرف:61). وقرأ بعض القراء:﴿ وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِّلسَّاعَةِ ﴾. وإذا نزل المسيح عليه السلام، لم ينسخ شيئًا، ممَّا أتى به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتقدم الإمام من أمته؛ بل يقدمه، ويصلي خلفه. وأما قول عائشة رضي الله عنها:« قولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خاتم الأنبياء، ولا تقولوا: لا نبي بعده »، فإنها تذهب صلى الله عليه وسلم:« لا نبي بعدي »؛ لأنه أراد: لا نبي بعدي، ينسخ ما جئت به؛ كما كانت الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، تبعث بالنسخ. وأرادت هي: لا تقولوا: إن المسيح لا ينزل بعده “.
ومن العجيب أن أتباع المتنبي ميرزا غلام نقلوا من قول ابن قتيبة هذا ما يوافق هواهم، وأسقطوا الباقي؛ فقالوا:”ويورد الإمام ابن قتيبة رحمه الله قول عائشة رضي الله عنها، ويعلق عليه، ويقول:” وليس هذا من قولها ناقضًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:« لا نبي بعدي »؛ لأنه أراد: لا نبي بعدي، ينسخ ما جئت به “. ( كتاب تأويل مختلف الأحاديث/ ص: 127 / دار الكتاب العربي بيروت )
والأعجب من هذا أن أتباع المتنبي ميرزا غلام نقلوا هذا الأثر من الدر المنثور، ولم يلتفتوا إلى قول المغيرة، الذي ذكره السيوطي بعد أثر عائشة- رضي الله عنها- وكأنه تفسير لقولها، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، مرويًّا عن الشعبي رضي الله عنه، قال:”قال رجل عند المغيرة بن أبي شعبة: صلى الله على محمد، خاتم الأنبياء، لا نبيَّ بعده، فقال المغيرة: حَسْبُكَ، إذا قلت: خاتم الأنبياء، فإنا كنا نحدِّث أن عيسى عليه السلام خارج. فإن هو خرج، فقد كان قبله، وبعده “. ومعناه: أن من كره أن يقال: لا نبي بعده؛ إنما كره لأجل أنه قد ثبت بأحاديث صحيحة صريحة نزول عيسى بن مريم عليهما السلام، قبل يوم القيامة؛ كما ورد في الصحيح لمسلم. فما يدل عليه قول المغيرة من نزول عيسى عليه السلام صحيح ثابت، لا شك في ذلك، وفيه رد على القاديانية، الذين لا يؤمنون بنزوله عليه السلام؛ ولأجل ذلك لا يذكرون هذا الأثر في مؤلفاتهم.
رابعًا- وأما قولهم:” لا نبي غيري “، في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرَّم الله وجهه:« أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي »فقد استدلوا عليه بقول ولي الله شاه المحدِّث الدهلوي في تفسيره، فقد قال- على حدِّ قولهم- ما تعريبه:” إن مدلول هذا الحديث إنما هو جَعلُ سيدنا علي رضي الله عنه نائبًا، أو أميرًا على المدينة أثناء غزوة تبوك فقط، وتشبيه استخلافه باستخلاف هارون عليه السلام لموسى لدى سفره إلى الطور. و{ بعدي }– هنا- لا تعني الـ{ بعد }، من حيث الزمن؛ بل تفيد:{ غيري }؛ كما في قوله تعالى:﴿ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ﴾(الجاثية:24). فقوله تعالى:{ مِنْ بَعْدِ اللهِ} يعني:{ من غير الله } “.
ثم قالوا:”ويضيف ولي الله الدهلوي، ويقول: وليس المراد- هنا- البَعْديَّة الزمنية؛ ذلك لأن هارون عليه السلام ما عاش بعد موسى عليه السلام حتى تثبت البعدية الزمنية، فيما قيل لسيدنا علي رضي الله عنه“. ويعقِّبون على ذلك بقولهم:” إن هذا العالم الجليل قد قدم قرينة، تؤكد أن { بعدي }– هنا- لا تفيد البعدية الزمانية مطلقًا، ليس فقط من خلال تتبع مناسبة هذا الحديث؛ وإنما أيضًا لأن هارون لم يعش بعد موسى عليهما السلام “.
أما القول بأن{ بعدي }في الحديث الشريف معناه:{ غيري }فهو قول لم يقل به أحد من العلماء. وأما القول بأن{ من بعد }في قوله تعالى:﴿ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ﴾معناه:{ من غير الله }فهو قول بعض المفسرين. فبعضهم ذهب إلى أن المعنى: من غير الله. وبعضهم ذهب إلى أن المعنى: من دون الله. وجمهور المفسرين على القول بأن معنى الآية: من بعد إضلال الله إياه. وحكى الألوسي القولين في تفسير الآية، فقال:”أي: من بعد إضلاله تعالى إياه. وقيل: المعنى: فمن يهديه غير الله سبحانه “.
والصواب هو القول الأول منهما؛ لأن الغيريَّة، أو الدونيَّة مفهومة من سياق الآية، وأنه لا فائدة في الإخبار عنها في الآية الكريمة. ألا ترى إلى قول الله تعالى:﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾(الأنبياء:22).
وكذلك يقال في الحديث الشريف:« لا نبي بعدي »، فلا يجوز أن يفسَّر بقولهم:{ لا نبي غيري }. أو بقولهم:{ لا نبي معي }؛ لأن ذلك معلوم لعلي رضي الله عنه، وللمسلمين جميعًا، فلا فائدة في الإخبار عنه، بخلاف قوله عليه الصلاة والسلام:{ لا نبي بعدي }. تأمل ذلك فيما روي عن عامر بن الطفيل بن صعصعة العامري من أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ! أمَا والله، لئنْ دخلتُ فى دينك، ليدخلنَّ مَنْ خلفي، ولئنْ امتنعتُ، ليمتنعنَّ مَنْ خلفي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« فما تريد »؟ قال: أتَّبعك على أن تجعل لي الوَبَرَ، ولك المَدَرُ. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لا شرك فى الإسلام ». فقال: فاجعل لي الخلافة بعدك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لا نبيَّ بعدي ». فقال: فأريد أن تفضلني على أصحابك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لا، ولكنك أخوهم، إن أحسنت إسلامك ». فقال : فتجعلني أخا بلال ، وخبِّابِ بْنِ الأَرَتِّ، وسلمان الفارسيٍّ.. قال:« نعم » !فغضب، وقال: أمَا، والله، لأثيرنَّ عليك ألفَ أشقرَ، عليها ألفُ أمردُ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:« وَيْحَكَ ! تُخَوِّفُنِي» ؟
فلما طلب عامر بن الطفيلالشركة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لا شرك فى الإسلام ». ولما طلب أن يخلفه في النبوة، قال عليه الصلاة والسلام:« لا نبيَّ بعدي ».فلو كان معنى:{ بعدي }: { غيري }، لقال له:{ لا نبي غيري }، ولو قال له ذلك، لكان خلفًا من القول، لا يتناسب مع ما أوتي عليه الصلاة والسلام من جوامع الكلم.. فليُتَأمَّلْ !
وإن جاز تفسير{ من بعد }بـ{ من غير }في آية الجاثية، فإنه لا يجوز في غيرها؛ كما في قوله تعالى حكاية عن بني يعقوب عليه السلام:﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِيقَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾(البقرة:133). وقوله تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾(الصف:6).
وكذلك لا يجوز أن يفسَّر { لا نبي بعدي }في الحديث الشريف بقولهم:{ لا نبي غيري }؛ لأنه يفيد نَفْيَ النبوة عن جميع الأنبياء عليهم السلام، قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده. وهذا ليس في صالحهم؛ وذلك لأن لفظ { غير }يدل على المغايرة، وإذا وقع خبرًا لـ{ لا }النافية للجنس، أفاد معنى حصر الاسم بعدها في الخبر، وأفاد الإثبات؛ لأنه مستلزم للنفي، ونفيُ النفْيِ: إثبات. فعلى هذا يكون معنى{ لا نبيَّ غيري }: { لا نبيَّ إلا أنا }. وهذا القول باطل، والنبي صلى الله عليه وسلم منزَّه منه. ومن المعلوم أن { لا }النافية للجنس تنفي جنس ما بعدها على سبيل الاستغراق والشمول؛ فإذا قيل: لا شاعر بعدي، أفاد نفيَ جنس الشعراء بعده، على سبيل الاستغراق والشمول والدوام؛ ولكنه لا ينفي وجود شعراء قبله؛ لأن لفظ { بعد }خلاف لفظ { قبل }. أما إذا قيل:{ لا شاعر غيري } فإنه يفيد نفيَ جنس الشعراء، قبله وبعده، على سبيل الاستغراق والشمول.. ولهذا لما أراد فرعون أن يخبر قومه عن تفرُّده بالإلهيَّة دون الله جل وعلا، قال لعنه الله:﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾(القصص:38)، فقال:{ من إله غيري }، ولم يقل:{ من إله بعدي، أو قبلي }.
فتأمَّل ذلك، ثم تأمل قول الله تعالى:﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ﴾(الأنعام:46)، لعلك تعرف الفرق بين{ بعد }،{ غير }! ثم تأمل قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:« إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ». قالوا: يا رسول اللَّه ! كيف تأمُر مَنْ أدرك منَّا ذلك؟ قال:«تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ».( أخرجه مسلم في صحيحه عن جرير، عن الأعْمَشِ، عن زيد بن وَهْبٍ، عن عبد اللَّه ).
وأختم بالحديث، الذي أخرجه البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:« بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ». قال الرازي:”معناه:« لا نبي بعدي »؛ فإن زماني يمتد إلى قيام الساعة، فزماني، والساعة متلاصقان كهاتين، ولا شك أن الزمان زمانُ النبي صلى الله عليه وسلم. وما دامت أوامره نافذة، فالزمان زمانه، وإن كان ليس هو فيه؛ كما أن المكان الذي تنفذ فيه أوامر الملك مكان الملك، يقال له: بلادُ فلانٍ. فإن قيل: كيف يصِحُّ حمله على القُرْبِ بالمعقول، مع أنه مقطوع به ؟ قلت: كما صحَّ قولُه تعالى:﴿ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً ﴾(الأحزاب:63)؛ فإن { لعل }للترجي، والأمر عند الله معلوم، وفائدته: أن قيام الساعة ممكن، لا إمكانًا بعيدًا عن العادات؛ كحملِ الآدمي في زماننا حِمْلاً في غاية الثقل، أو قطعِه مسافة بعيدة في زمان يسير؛ فإن ذلك ممكن إمكانًا بعيدًا “.
وفي ذلك كفاية لمن أراد الهداية. أما الكافر الملحد فإنك لو ظلِلْتَ العمر كله تؤكد له الحقيقة، لبقي قلبه أغلفَ؛ كصخرة صماءَ، لا يؤثر فيه شيء؛ فذلك الذي﴿ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾(الجاثية:23).
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن