السباق العظيم للفوز العظيم

 
الثلاثاء/ديسمبر/2019
   

 

 

      السباق العظيم للفوز العظيم

  في مشهد حركي حسي لنيل الجائزة الكبرى يقف المتسابقون في حلبة السباق العظيم وقد شدت أبصارهم وأعصابهم وأجسامهم ونفوسهم تجاه أدوات السباق , وهنا يأتي الإذن الإلهي إليهم ليبذل كل منهم أقصى طاقته للفوز العظيم بالجائزة الكبرى فيقول الله تعالى لهم: ” وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{133} ” (آل عمران 133).

   يا له من سباق عظيم في حلبة عظيمة لغاية عظيمة وبإذن من رب عظيم، ينادي عباده سبحانه (وَسَارِعُواْ): المسارعة من السرعة المتزايدة التي تزيد فيها المسافة المقطوعة في الزمن المحدد، فالزمن ثابت لأن الأجل محدد والسرعة متزايدة لقطع المسافة في اقل زمن ممكن , والسرعة كما قال الأصفهاني رحمة الله في مفردات ألفاظ القرآن: ضد البطء، ويستعمل في الأجسام والأفعال، يقال: سرع فهو سريع وأسرع فهو مسرع، وأسرعوا صارت إبلهم سراعاً، نحو: أبلدوا، وسارعوا، وتسارعوا قال تعالى: ” وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ” (آل عمران 133) ” وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ” (آل عمران 114).

   قال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي رحمه الله: (ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض، فكيف بطولها التي أعدها الله للمتقين فهم أهلها؟).

   وقال الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله في التفسير المنير (ثم أمر عز وجل بالمبادرة إلى ما يوجب مغفرة الذنوب ) وقبول الأعمال(ودخول الجنان الواسعة الفسيحة التي أعدها الله للمتقين).

         قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير (والسرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة، ويجوز أن تكون السرعة حقيقية وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند النفير… والمسارعة، على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة، وأسباب دخول الجنة… وجيء بصيغة المفاعلة، مجردة عن حصول الفعل من جانبين، قصد المبالغة في طلب الإسراع… وتنكير (مغفرة) ووصلها بقوله (من ربكم) لقصد الدلالة على التعظيم).

   وهكذا وقف المتسابقون يترقبون والله تعالى يعظم لهم الجائزة، ويحكم سبحانه بينهم بالحق والانجازات التي عليهم القيام بها في أقل وقت وأتقن حال هي:

الإنفاق: (في السراء والضراء).

كظم الغيظ.

العفو عن الناس والإحسان إليهم.

الاستغفار الفوري من الذنوب.

 عدم الإصرار على المعصية بمحض إرادتهم.

   قال تعالى: ” الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{134} وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ{136} “ (آل عمران 134-136).

   وبهذا تم وصف المتسابقين والانجازات التي يجب عليهم الإسراع في انجازها في الوقت المحدد لهم في الحياة الدنيا فهم (يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء): أي في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وان أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم، وهو امتلاء قلوبهم من الحنق الموجب للانتقام بالقول والفعل هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية (وبقانون الفعل ورد الفعل) بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.

(وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)): يدخل في العفو عن الناس العفو عن كل من أساء (إليهم) بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع المسامحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله وعفا عن عباد الله رحمة بهم وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه ويكون أجره على ربه الكريم لا على العبد الفقير كما قال تعالى “فمن عفا وأصلح فأجره على الله” (الشورى 40).

   ثم ذكر حالة أعم من غيرها وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان فقال تعالى (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (فالإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق والإحسان إلى المخلوق.

   فالإحسان في عبادة الخالق فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) رواه مسلم.

   وأما الإحسان إلى المخلوقين فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندي وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله تعالى به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور فقد قام بحق الله وحق عبيده.

         ثم ذكر (الله تعالى) اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ)؛ أي: صدرت عنهم أعمال سيئة كبيرة أو ما دون ذلك، بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم وما توعد به العاصين، ووعد به المتقين فسألوه المغفرة لذنوبهم والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها، فلهذا قال (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، (أُوْلَـئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات (جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ) تزيل عنهم كل محذور، (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) فيها النعيم المقيم والبهجة والسرور والبهاء والخير والقصور والمنازل الأنيقات العاليات والأشجار المثمرة البهية والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات، (خَالِدِينَ فِيهَا) لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلا ولا يغير ما هم فيه من النعيم، (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا فعند الصباح يحمد القوم السرى وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفورا، انتهى.

   وبهذا ينتهي السباق وينتهي موقف توزيع الجوائز الربانية، ويفوز المتسابقون والمتسارعون بالنعيم المقيم جزاء مسارعتهم في الخيرات فعلى كل منا أن يتمثل هذا الموقف العظيم ويعد نفسه الإعداد العلمي الإيماني للسباق وعندما يسمع النداء يسارع ويجتهد ليكون من الفائزين المتقين، جعلنا الله سبحانه وتعالى معهم ومنهم.

   وعلى كل منا أن ينقل هذا المشهد للسباق العظيم إلى أبنائه وأحبابه وتلاميذه ويشترك معهم الاشتراك الفعلي فالمسابقة مفتوحة لكل المؤمنين وكل المتقين من الشباب والشابات والنساء والرجال والعجزة والشيوخ والأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء، انه السباق العظيم بنداء رب العالمين ” وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{133} ” (آل عمران 133).

   وكما قال تعالى: ” سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{21} “ (الحديد 21).

أ.د. نظمي خليل أبوالعطا موسى

www.nazme.net

أخبار الخليج – مع الصائمين– العدد(11828)- الأربعاء 1 رمضان1431هـ – 11 أغسطس 2010م.


الوسوم:

مقالات ذات صلة