الإعجاز التاريخي والزماني في نبوءة “بضع سنين”
الأربعاء/فبراير/2025
في القرن السابع الميلادي، عندما كانت الإمبراطورية البيزنطية (الروم) على وشك الانهيار أمام المد الفارسي الساساني، جاءت آيات من القرآن الكريم بتنبؤ مذهل يصعب تصديقه في ذلك الزمن: رغم الهزائم الساحقة التي تعرض لها الروم، سيعودون للانتصار في “بضع سنين”. لم يكن هذا مجرد تصريح عابر، بل جاء بتحديد زمني دقيق يخالف جميع التوقعات العسكرية والسياسية في ذلك العصر. لكن كما تخبرنا صفحات التاريخ، تحقق الوعد الإلهي بالدقة التي أخبر بها القرآن، مما يجعل هذه النبوءة واحدة من أقوى الأدلة على الإعجاز الغيبي.
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم: 2-5)
جاء في تفسير ابن كثير عند هذه الآية:
“﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي: بنصر الله للروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، فيغلبون المجوس، وهم عباد نار”.
1. كيف سقطت بيزنطة في قبضة الفرس؟
(610م – 618م): سقوط الروم وتوالي هزائمهم
بدأت سلسلة الهزائم البيزنطية مع استيلاء الفرس على أنطاكية عام 613م.
سقطت القدس عام 614م، وتم نهب “الصليب المقدس”، مما شكل ضربة نفسية كبرى للعالم المسيحي.
بحلول 618م، كانت مصر قد سقطت في أيدي الفرس، مما أدى إلى أزمة اقتصادية خانقة للروم.
وصلت القوات الفارسية إلى أبواب القسطنطينية، مما جعل سقوط الدولة البيزنطية يبدو حتميًا.
2. بداية انتصار الروم: كيف تغيرت الموازين؟
(622م – 627م): حملات هرقل واستعادة القوة
في عام 622م، بدأ الإمبراطور البيزنطي “هرقل” (Heraclius) أولى حملاته العسكرية الناجحة ضد الفرس.
كانت معركة إسوس (Isus) عام 622م أول انتصار للروم بعد تسع سنوات من الهزائم المتتالية.
في 627م، وقعت معركة نينوى الحاسمة التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية الفارسية.
في 628م، اغتيل الملك الفارسي كسرى الثاني، مما دفع الفرس إلى توقيع معاهدة سلام مع الروم.
3. دقة النبوءة: كيف تحقق وعد الله في “بضع سنين”؟
تحليل معنى “بضع” في اللغة العربية
تشير كلمة “بضع” إلى العدد بين 3 إلى 9 سنوات، وفقًا لمعاجم اللغة مثل لسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط للفيروزآبادي.
إذا كانت الهزيمة الكبرى قد بدأت عام 613م، وكان أول انتصار للروم عام 622م، فإن الفارق الزمني هو 9 سنوات، مما يتوافق تمامًا مع معنى “بضع”.
استحالة التنبؤ السياسي بانتصار الروم
في ذلك الوقت، كان الروم في حالة انهيار تام، ولم يكن أي مؤرخ أو قائد عسكري يتوقع انتصارهم في أقل من عقدين أو ثلاثة عقود.
التوقعات السياسية والعسكرية كانت تشير إلى سقوط الإمبراطورية البيزنطية بالكامل.
تحقق النبوءة بهذا الشكل الدقيق يؤكد أن مصدرها ليس بشريًا، بل وحي إلهي.
4. الدلالات والإعجاز في هذه النبوءة
الدقة التاريخية والتوافق الزمني
لم تكن النبوءة عامة أو غامضة، بل حددت فترة زمنية دقيقة، مما يزيد من صعوبة الادعاء بأنها مجرد صدفة.
تحقق النصر ضمن الإطار الزمني المحدد تمامًا وفق التسلسل التاريخي للأحداث.
الإعجاز في توقع انهيار الإمبراطورية الفارسية
لم تقتصر الآية على انتصار الروم، بل تضمنت إشارة ضمنية إلى ضعف الفرس وسقوطهم لاحقًا.
وهذا ما حدث بالفعل، حيث انهارت الإمبراطورية الفارسية بعد معركة نينوى (627م) ثم تم اجتياحها بالكامل من قبل المسلمين بعد عقد واحد فقط.
ربط النبوءة بالقوة الإلهية
﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم: 4-5)
تؤكد هذه الآية أن النصر والهزيمة بيد الله، وليست مجرد أحداث عسكرية أو سياسية عشوائية.
هذا المعنى يجعلها أكثر من مجرد خبر تاريخي، بل درس إيماني حول سيادة الله على مجريات الأحداث الكونية.
5. الخاتمة: كيف تثبت نبوءة “بضع سنين” الإعجاز القرآني؟
يثبت تحقق نبوءة “بضع سنين” أن القرآن الكريم ليس من تأليف بشر، بل هو وحي من عند الله. التحديد الزمني الدقيق، وسط ظروف سياسية تجعل الأمر مستحيلًا، هو دليل قاطع على الإعجاز الغيبي. كما أن هذه الحادثة التاريخية تثبت أن الأحداث تجري وفق مشيئة الله، بغض النظر عن التوقعات البشرية.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)
المراجع التاريخية
Warren Treadgold, A History of the Byzantine State and Society.
James Howard-Johnston, Witnesses to a World Crisis: Historians and Histories of the Middle East in the Seventh Century.
Walter Emil Kaegi, Heraclius: Emperor of Byzantium.
كتب التفسير مثل تفسير الطبري وابن كثير لتوضيح سياق الآية تاريخيًا.