أواخر هود… والوصية الإلهية لنجاة الأمة الإسلامية
الأربعاء/ديسمبر/2019
غلاف كتاب الإسلام المدني الذي صدر مؤخرا عن وزارة الخارجية الأمريكية |
الشيخ هشام طلبة
دعاية إسلامي مصري
قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)}.
من إعجاز القرآن أن تكون لكل سورة محورها وموضوعها ؛ من ذلك يرى المتأمل سورة هود وقد ركزت على عرض صور من هلاك الأمم السابقة وأسباب ذلك الهلاك.
ثم نجد أن الله تعالى في أواخر السورة ؛ وكأنه عز وجل يستجيب لتساؤل قارئي ما تقدم من السورة:
كيف تنجو الأمة الإسلامية مما أصاب غيرها من الأمم؟
وللإجابة على هذا التساؤل ولتجنيب أمتنا ما حاق بغيرها، أوصانا الله وصية في أواخر سورة هود مكونة من خمسة بنود:
1 – {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}
يدعونا الله أولًا إلى إصلاح المنهاج لأنه أساس كل إصلاح، وذلك وفقًا للمنهاج الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي لتكن طريقة حياتكم وفقًا للطريقة النبوية الإسلامية كما قال تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَألَّو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)} [ الجن ]، وهي قريبة أيضًا من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [ يوسف ]، وكذلك قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} [ الشورى ]؛ أي أن أول بنود النجاة: الاستقامة على الطريقة المحمدية والسبيل الإلهي ” شرع الله ” وكذلك الدعوة إليه ؛ فالدعوة للإسلام من أبلغ الأسلحة في أيدي المسلمين خاصةً في وقتنا هذا الذي نفتقد فيه القوة العلمية والاقتصادية والعسكرية ثم السياسية تبعًا لذلك، فحين تدعو من له أيًّا من هذه القوة صارت لك، ويدرك المتابع مدى انتشار الإسلام عالميًّا هذه الأيام بقوته الذاتية، وكلما حورب زاد انتشارًا:
وَإِذا أَرادَ اللَهُ نَشرَ فَضيلَةٍ طُوِيَت أَتاحَ لَها لِسانَ حَسودِ
فكما ذكرت محطة NBC الأمريكية أن عشرين ألفًا من الأمريكان يدخلون في دين الإسلام سنويًّا في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكانوا قبل هذه الأحداث عشرة آلاف، فما بالنا لو أنفق على هذا الأمر معشار ما ينفق على سلاح قد صدأ في ظل حكومات الخيار الاستراتيجي للسلام ؟.
وهذه الاستقامة تعني الاعتدال وعدم التجاوز والطغيان ؛ والطغيان يكون إما للداخل بالغلو، وإما إلى الخارج بالتفريط والتقصير، وهو ما عبر عنه بعد ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وقد رأينا كيف أضر بهذه الأمة الغلو في الدين والانكفاء على الذات والاكتفاء بتفاصيل شديدة الهامشية وقضايا ليست ذات بال في نفس الوقت الذي تتعرض فيه الأمة لمخاطر الاستئصال وإن انتقدتهم اتهمت بالانتقاص من السُّنة.
وهل الاهتمام بأمر المسلمين ليس سنة من السنن؟ وصار منهم مَنْ ينكر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ويراه بدعة – وقد أسلم به خلق كثير -، ثم يتمنون من على منابرهم أن ينتصر أشد الناس عداوة للذين آمنوا على فريق من المسلمين وإن ضلُّوا ؛ فخدموا بذلك مصالح الأعداء من حيث لا يدرون.
كما أن هناك طائفة أخرى حادت عن الاستقامة لكن إلى الخارج، وذلك إما شعورًا بالدونية تجاه تقدم الغرب وإما عمالةً له، وهذا الفريق أخطر كأن الله تعالى يقول لأصحابه: [ لا تطغوا باتباعكم هديًا غير هدي النبي، ولا تخالفوا أحكامه فتقبلوا بعضها وترفضوا البعض ] وقد سبق هذه الفقرة قوله تعالى عن كتاب موسى: {فَاخْتُلِفَ فِيه} [ هود: 110 ] أي أن من أشد الطغيان العمل ببعض الكتاب ورفض البعض وكأن هؤلاء الطغاة يريدون أن يغيروا بعض أحكام شرع الله.
وهل ننسى وكيلة برلمان الدولة العربية المحورية التي طالبت بمساواة المرأة بالرجل في الشهادة ومطالبة سيدة أخرى بانتساب الرجل لأمه في نفس الزمن الذي نجح نظراء لهم في استصدار قانون للطفل يمنع من هم دون الثامنة عشر من الزواج ويعطي الحق للطفل في استدعاء الشرطة إن ضربه أبوه و يسمح للأم بتسجيل ولدها دون عقد زواج وقد شاركت جهات غربية كنسية في صياغته. يتم هذا في نفس الوقت الذي سعت فيه إدارة بوش لما سمته ” حرب الأفكار ” و ” القوة الناعمة ” و ” التغيير في الإسلام “Change Within Islam أي تغيير الإسلام نفسه لا تغيير تخلف المسلمين. وفي إطار ذلك استخدمت د. أمينة ودود لإمامة المسلمين في صلاة الجمعة ورفع امرأة أخرى للأذان، وقد قامت بذلك مرتين خلال بضع سنين وفي خلال ذلك تم قبول أول قاضية وأول مأذونة مسلمة!.
في إطار ذلك سعت أمريكا بثقلها لتحقيق بنود تقرير استراتيجي لوزارة خارجيتها بعنوان ” الإسلام المدني الديمقراطي – الموارد، الاستراتيجيات، الشركاء” ( Civil Democratic Islam: Partners, Resources, and Strategies ).(أي أنهم يرون الإسلام همجيًّا يريدون تمدينه ودمقرطته، ولن يتم ذلك إلا بدعم فئات – سموهم الشركاء – ألا وهم:
1 – التصوف؛ لتحجيم حركية الأمة ودعم الخرافات فيها.
2 – دعم الإعلاميين الذين يهدمون الرموز الإسلامية.
3 – دعم المفكريين الحداثيين ومساعدتهم في نشر أفكارهم في الصحف ووسائل الإعلام بل ومقررات المدارس – حسب نص التقرير – لعل ذلك يفسر كيف أن صحيفة يومية قاهرية جديدة وفي رمضان الفائت كانت تستكتب يوميًّا من دُعي مفكر إسلامي يهدم ثوابت الإسلام، كما تكتب يوميًّا عن الطرق الصوفية المتطرفة وتروج لهم.
** العجيب أن الغرب أدرك أهمية هذا العنصر الخطير لصحوة الأمة الإسلامية (إصلاح منهاج الحياة) فادعت أوربا لنفسها المثل الأوربية وتدعي أمريكا أن لها: ” القيم الأمريكية “. وحين ضربت لندن في تفجيرات 7 يوليو الشهيرة قالت ملكة بريطانيا: أننا نسعى لتغيير طريقتهم في الحياة. وقد ذكرتني بقول فرعون عن هارون وموسى: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [ طه: 63 ] ؛ أي طريقتكم في الحياة.
وما نحسب الاستقامة على الطريقة المحمدية المعني بها هذا البند تخرج عن:
1 – تصويب عقائد الناس وتنقية ما يعلق بها من شوائب خاصة كتلك التي نراها في العديد من الطرق الصوفية.
2 – الإخلاص في العمل الشرعي و جعله وفقا لما في الكتاب والسنة.
نجد ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [ الكهف ].
أي أن الآية ( كما قال المفسرون ) تؤكد ثلاثة أمور:
1 – توحيد الإله، 2 – إثبات البعث، 3 – الأعمال الصالحة.
2 – {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}
وهو مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [ آل عمران: 118 ]، وقد قصد بها هنا أهل الكتاب والمعنى ينصب على البند الذي نحن بصدده لأن الإشراك بالله ظلم عظيم فلا يجب أن نركن إلى هؤلاء الظالمين من دون المسلمين، وقد فعلها حكام دويلات الأندلس حين استقووا على إخوانهم بحكام من الفرنجة فماذا كانت النتيجة ؟ ضاعت الأندلس ولم يكونوا من المنتصرين، كما قال تعالى في نفس الآية: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}.
لكن هناك فريق آخر من الظالمين تكلمت عنه السورة قبل فقرتنا هذه فعرفت الظالمين: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)} [ هود ].. أليس من حكامنا اليوم من يصد عن سبيل الله ويريد اعوجاج الأمور في الأمة ونشر الفساد كإبائهم حجب مواقع الإنترنت الإباحية ونظيراتها من الفضائيات ؟.
يؤيد ما ذهبنا إليه قوله تعالى في نفس السورة: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)} [ هود ]، أي أن من أهم أسباب هلاك قوم عاد طاعتهم للجبابرة من أصحاب النفوذ والسلطان. والذين نراهم اليوم يسارعون في إرضاء الغرب خشية أن تصيبهم دائرة من فرض ديمقراطية أو عزل وإسقاط أو ترحيل كما فعل بغيرهم، فيقدمون الخدمات قبل أن تطلب منهم وإن أدى ذلك إلى إهانة شعوبهم والعمل ضد مصالحهم الاستراتيجية، لدرجة تحميل بلد مسلم صغير معتدى عليه وزر الاعتداء بعد تهاتف بين إمام الكفر وأربعتهم.
الذين قبلوا أن يحملوا حقيبة تخويف سائر أصحاب السلطان وقولهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [ آل عمران: 173 ]، فانسحب أنت من هذه البلاد وفكك أنت سلاحك الاستراتيجي وتنازل أنت للغرب واقبل قسمة بلدك وإلا…. ثم يثبطون همة رعيتهم وجنودهم ويرفضون الاستعداد لاحتمال الحروب وهي لا بد واقعة، وقد أمرنا الله بإعداد ما استطعنا لا ما يكافئ عدونا.
والتفريط في ذلك من أشد أبواب هلاك الأمة؛ لأن الله بذلك يعذبنا عذابًا شديدًا ويستبدل قومًا غيرنا، وما وضعوا قوم الجهاد إلا وذلوا.
ونحن إن فعلنا غنمنا ستة مغانم [ ذكرت في سورة التوبة ]:
1 – يعذب الله أعداءنا بأيدينا.
2 – يخزي الله أعداءنا.
3 – ينصرنا الله عليهم.
4 – يشف الله صدور المؤمنين مما فعلوا بإخواننا.
5 – يذهب الله غيظ قلوبنا بزوال أسباب الانكسار أساسًا.
6 – يدخل العديد من أعدائنا في دين الله ؛ إذ يتوب الله عليهم من الكفر لانبهارهم بانتصارنا.
ومنهم من يُضغط عليه خارجيًّا بحجة انتقاص حقوق رعيته فيتنازل عن ثوابت ثقافة بلاده بدلًا من بذل الحقوق لأصحابها، ويعطي الوعود ببناء الكنائس ويعفو عن من يتهم بالردة ولعله يمهد بالسماح بالارتداد. ثم يأمر ببناء جامعات مختلطة على النمط الغربي بالقرب من آخر حصوننا الأيدلوجية وأهمها على الإطلاق. بعد ذلك نسعى إليهم بالزيارات والمؤتمرات التي ندفع تكاليفها الباهظة في أوقات الشح المالي، ثم لا نذكر شيئًا في هذا المؤتمر الذي دفعنا تكاليفه شيئًا من المظالم التي نتعرض لها بل ندعو صاحبها للحضور ونهش له.
· ومن عدم الركون إلى الذين ظلموا من الكافرين، عدم السكوت على إساءاتهم لثوابتنا وما فعلوا ذلك إلا لنألفه مع الوقت فلا تصبح لثوابتنا مكانتها عندنا، في ذلك الوقت يعطينا أعداؤنا قيمًا أخرى من ثقافتهم، ولنستمع إلى ذلك من “جايمس بتراس” أستاذ الاجتماع الأمريكي في كتابه القيم “سطوة إسرائيل في الولايات المتحدة “: (( الحط من قدر المقدس هو مقدمة لمحاولات تهدف إلى فرض مجموعة جديدة من المعتقدات التي تؤدي أكثر من غيرها إلى الخضوع والاستغلال )) (1).
وردُّ المسلمين هنا واجب لأنه تعالى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [ الشورى ]، لا كما قال دعيٌّ حين يسب النبي صلى الله عليه وسلم: ( لأجل النبي لا تدافعوا عن النبي ) !!كيف وقد قال عليه الصلاة والسلام لحسان بن ثابت: (( اهجهم وروح القدس معك )) ؟.
يتبين من البندين السابقين أن الإصلاح السياسي ومعه التشريعي غاية في الأهمية لنهضة الأمة الإسلامية وهو ما نهضت به أوربا منذ قرون.
3 – {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)}.
أي أن ذهاب ذنوبنا وسيئاتنا من أهم أسباب النصر؛ لأنَّا لا نهزم إلا بذنوبنا ومن أهم أدوات ذهاب السيئات الصلوات.
وقد عبر عنها بالحسنات هنا – كما عبر عنها في سورة البقرة بالإيمان – والمتأمل لسورة هود يرى أن أغلب أنبيائها طالبوا قومهم بالاستغفار ثم التوبة، وحتى في مقدمة السورة قبل القصص: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)} وهذه سمة لا توجد في أية سورة أخرى ؛ أي أن الإقلاع عن الذنوب والتوبة إلى الله تنجي الأمم من الهلاك.
إذًا في أوقات الأمة العصيبة نقلع عن السيئات ونكثر من العبادات خاصةً الصلوات، وليس مجرد أداؤها بل إقامتها بما يليق بجلالها وعظم شأنها.
4 – {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}.
الصبر: هو المداومة على الأمر ؛ أي أن هذه البنود الثلاثة الماضية يجب أن نستمر عليها زمنًا ونواظب عليها ونحسن أداءها.
5 – {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)}.
بقية الأمة: هم نخبة الأمة، هم صالحي وعلماء الأمة ومثقفوها.
هؤلاء جميعًا يمثلون القاطرة التي تجر قطار ازدهار ونجاة هذه الأمة، لو تعطلت هلكت الأمة، لو لم تقم بدورها وتكن إيجابية وتأمر بالمعروف وتنه عن المنكر وتأخذ على يد الظالم هلكت الأمة.
لو سكتت على التطبيق الانتقائي للقوانين هلكت الأمة، كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ )).
لو سكتت على الاحتكار ومظالم الناس وإهانة المقدسات ونسيت أن من أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر.. هلكت الأمة.
فتلك الأمم التي هلكت لم تعدم بقية أو نخبة، لكنها كانت نخبًا صامتة، أو من تكلم منها كان أقلية ( نجوا وحدهم )، وحتى تنجو الأمة يجب أن تتحرك بقية الأمة في مجملها وفي أغلبها.
بعد استعراض بنود النجاة الخمسة في هذه الوصية الإلهية، لنا أن نتساءل:
هل في ظل ظرف الأمة الحالي الذي يعلمه القاصي والداني نطبق بندًا واحدًا منها ؟
الإجابة: هي أن العكس تمامًا هو الواقع، وكأن القرآن الكريم يكشف عورات الأمة.
هل استقامت الأمة على المنهاج النبوي بلا تفريط أو إفراط ؟
ألم تركن الأمة إلى الذين ظلموا من كفرة الخارج ومنافقي الداخل ؟
هل أقلعت الأمة عن المعاصي أم انتشرت الموبقات خاصةً بين الشباب عن طريق ثلاثي ؛ الهواتف النقالة وأجهزة الكمبيوتر ولاقطات الفضائيات، والتقبل التدريجي للاختلاط بل والتواصل بين الجنسين ؟ وصار منا من يفتي بأن ذلك وأكثر من اللمم ؟
هل أمرت نخبتنا وكبار علمائنا ومفكرينا بالمعروف ونهت عن المنكر أم اشترت السلامة ولم تكتف بالتقاعس بل صارت تزايد على الحكام في نفاق الغرب بعد أن سوقت للحكام ما يشتهوه؟ فمن تحليلٍ لفوائد البنوك إلى وصم من خاطر بنفسه للقمة العيش ( والمتسبب فيه الحكام ) بالمنتحر والطماع إلى السماح بوجود القاضية والمأذونة – وكان رافضًا لذلك قبل المنصب – تمهيدًا للسماح بوجود المفتية وشيخة الأزهر – كما تتمنى أمريكا -، بل وصل به الجنوح إلى التسويق لقوانين في الغرب تمنع بناتنا من ارتداء الحجاب عندهم وسمح بالحوار مع مَنْ تطاولوا على الإسلام، وقال لأهل الكتاب: لسنا مختلفون في الأصول، ولستم المعنيين بقوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [ المائدة: 72 ] !!.
ومنهم من قال أمام برلمانات الغرب: إن قضية الرسوم الدانماركية المسيئة تعرضت للتضخيم وقال: أنا علماني وشيعي بولائي ثم يدعو لعودة اليهود إلى بلاده خلال لقاءٍ بحاخام يهودي
· قد يقول قائل: ألسنا على أي حال أفضل من الغرب ؟ ألسنا موحِّدين ؟
والحق أن ذلك على عظم قدره ليس كافيًا لأن أمة وأدت القرآن أحق أن توأد.
تأمل معي كيف كان القرآن معجزًا في وصف الأمة في حال الانحطاط وكأنما ينبؤنا بما نحن فيه الآن.
مبشرات نهضة الأمة:
بالرغم من حال الانحطاط الحالي للأمة نرى العديد من المبشرات لو أخذنا بالأسباب سالفة الذكر لنجت الأمة.
من ذلك انتشار الإسلام بين الكاثوليك والمسيحيين عامة، خاصةً في أوربا لدرجة أن:
* ثلث سكان ” بروكسل ” حاليًا مسلمون ويتوقع أن يصبحوا أغلبية خلال عشرين عامًا..
* ربع سكان موسكو حاليًا مسلمون ويتوقع أن يصبح المسلمون أغلبية في روسيا عام 2050م..
* خلال ثلاثين عامًا سيصبح أغلب سكان هولندا وفرنسا مسلمين..
* 4000 ألماني يسلمون سنويًا…
* انتشار الإسلام بين الهنود الحمر في المكسيك..
* أحرق كاهن ألماني نفسه عام 2005م احتجاجًا على انتشار الإسلام في أوربا وعدم تحرك الكنيسة تجاه ذلك.
وقد صاحب ذلك قلة خصوبة رهيبة للكاثوليك خاصةً في أسبانيا وإيطاليا.
ومن ذلك مقال لعالم بريطاني كبير في كبرى جامعات أمريكا والعالم ( هارفارد ) ألا وهو ” نيل فيرجسون ” وهو من المحافظين المبغضين للإسلام، في مجلة فورن بوليسي الأمريكية، ذكر فيه أن العالم في القرن الحادي والعشرين سيكون متعدد الأقطاب وحدد أربع قوى لذلك:
1 – أمريكا القوة الحالية وذكر سبب انحطاط لها وهو كونها أكبر مدين والاستثمار فيها أجنبي – كتب المقال قبل انهيار البورصات و قد تبين صدق كلامه.
2 – أوربا الموحدة وذكر لها سبب انحطاط ألا وهو التناقص الديموجرافي ( السكاني ) في نفس الوقت الذي تزداد فيه مواليد المسلمين هناك علاوةً على تحول العديد منهم إلى الإسلام.
3 – الصين، القوة الاقتصادية الجبارة، ثم ذكر لها سبب انحطاط وهو أنها دولة غير ديموقراطية وتعاني تفاوت اجتماعي كبير.
4 – الإسلام، والعجيب أنه لم يذكر هنا أية بذور انحطاط.
·وهكذا كان القرآن الكريم معجزًا في وصف حال المسلمين في فترات الانحطاط وتشخيصه للداء، وكان معجزًا كذلك في وصف الدواء الناجع لهذا الداء، وكأن القرآن مع كل زمن نرى فيه ما لم نره من قبل، و نقرأ فيه مواضع كأنما نراها لأول مرة وقد قرأناها العديد من المرات قبل ذلك. فكأنه يعيش معنا فلا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه إذ كلما بلغ منه جيل مبلغًا امتد الأفق بعيدًا وراء كل مطمح.
يمكن إرسال التعليقات على المقالة على الإيميل التالي:
الهوامش:
(1) سطوة إسرائيل في الولايات المتحدة ص299.