حركة التربة واهتزازها.. إشارة قرآنية لظاهرة زراعية
الثلاثاء/نوفمبر/2022
نتعرف في هذا اللقاء على إحدى الظواهر الزراعية، وهى حركة، أو اهتزاز، التربة بنزول الماء عليها، وما ورد بشأنها من إشارة قرآنية رائعة في الآية الخامسة من سورة الحج .. وبداية نذهب إلى ابن كثير لننظر ماذا قال (في تفسيره “تفسير القرآن العظيم” ) حول قول الله تعالى في هذه الآية الكريمة: “… وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت ورَبَت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)”: هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى.. فإذا أنزل الله عليها المطر “اهتزت”، أي: تحركت بالنبات وحييت بعد موتها، “ورَبت”، أي: ارتفعت لما سكن فيها الثرى، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والثمار والزروع، وأشتات النباتات على اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها ومنافعها، ولهذا قال تعالى: “وأنبتت من كل زوج بهيج”، أي: حسن المنظر طيب الريح ..
ويقول الألوسي (في تفسيره “روح المعاني”) : “وترى الأرض هامدة” حُجّة أخرى على صحة البعث، معطوفة على “إنا خلقناكم”، وما تقدم حجة أنفسية. والخطاب لكل أحد تأتى منه الرؤية، وقيل: للدلالة على التجدد والاستمرار.. “وربت”: ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات، وقرئت “وربأت” – بالهمز – أي: ارتفعت، فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو.. الأرض اليابسة (أو القاحلة) أرض ساكنة، أي: كل ما فيها ساكن، وكل سكانها وكائناتها محكوم عليهم بالهلاك إذا لم ينزل عليهم الماء..
إن البكتيريا والطحالب والفطور والبذور والسوق الأرضية والأبصال وحويصلات الديدان وبويضات الحشرات.. إلخ، كل هذه الأشياء تعيش تحت الأرض في سبات أو خمود، وتبقى هاجعة لا حراك لها، فتأخذ أقل حجم لها، وتشغل أضيق مساحة ممكنة، وتنخفض العمليات الحيوية في أجسام الكائنات الحية إلى أقل معدلاتها.. حتى إن جزيئات التربة ذاتها ومكوناتها المعدنية والأيونية تأخذ أقل حيز ممكن، ولذلك تتشقق التربة، وتصبح الأرض هامدة ساكنة هاجعة خامدة… إن حفنة من التراب تحتوى من الكائنات الحية ما يفوق أعداد البشر بمئات المرات، فلقد قدر العلماء المتخصصون ما يوجد فى جرام واحد من التربة الزراعية بما يلي : مائة مليون بكتيريا، مليونان وخمسمائة ألف فطر إشعاعي إضافة ألف فطر عام، وثلاثين ألف حيوان أولى.. وقدروا في الفدان الواحد من التربة الزراعية : ثلاثمائة مليار دودة ثعبانية , عشرة مليارات حشرة صغيرة الحجم, ملياران من أطوار غير يافعة كاليرقات والعذارى (الخادرات)، ثلاثة عشر مليونا من الحيوانات عديدات الأرجل، مثل (أم أربعة وأربعين) ، ومليون من ديدان الأرض.. وتتضاعف هذه الأعداد كلمات تمتعت التربة بخصوبة عالية، كأرض الغابات…
وعندما يهطل المطر على هذه الأرض تبدأ في حركة تشبه الاهتزاز، فتبدأ الحويصلات الهاجعة في الإنبات والحركة، وتنبت الجراثيم الموجودة وتتحرك. كما تنشط وتتحرك حويصلات الديدان وبويضاتها.. وكذلك، فإن البصيْلات، والبصلات، والدرنات، والسوق الأرضية، والحبوب، وملايين الكائنات، تدب فيها الحياة فتتحرك وتهتز ..!!
تهتز الأرض باندفاع الماء في مسامها فيدفع الهواء أمامه، ويحل محله، فيزداد حجمها، كما تهتز باندفاع الجذور والشعيرات الجذرية في كل الاتجاهات عندما تتخلل التربة بنمواتها.. وتبدأ عمليات الانقسام وامتصاص الماء وتحلل الغذاء المعقد إلى وحدات أقل ارتباطا وأكثر عددا وأكبر حجما.. كما تبدأ عمليات التشريد، أو (تأين)، عجيبة في دقائق التربة.. وتنشط الديدان الأرضية (Earth worm) في شق الأنفاق الأرضية وابتلاع كميات هائلة من التربة المتماسكة وإخراجها – بعد ذلك – مفككة، وبهذا تزداد التربة في الحجم, و (تربو)، أي: تنتفخ… وكائن حي، مثل دودة الأرض، يشارك في هذه الظاهرة بعمل مضاعف، ولذلك تعد دودة الأرض عاملا أساسيا في تهوية التربة، لأنها تحفر الأرض فتساعد الجذور على اختراقها، وتسهل تهوية التربة باندفاع الهوا، ثم الماء، في هذه الفتحات والمسام. وتقوم هذه الديدان الأرضية بطحن التربة التي ابتلعتها، وذلك بأن تدخل الطين في حويصلاتها ثم تطحنه داخلها، وبعد طحنه تطرده ترابا للزراعة..!!. ولدينا مثال عملي يقرب هذه الصور لمن لم يرونها, وهو العجين الذي توضع فيه الخميرة، فحينما تبدأ الخميرة في نشاطها الحيوي، يزداد حجم العجين حتى يفيض عن حواف الإناء الموضوع فيه، وما هذه العملية التي تقوم بها دودة الأرض إلا واحدة من آلاف العمليات المشابهة التي تحدث في التربة بعد نزول الماء عليها .
وبالماء، وبالعمليات السابق عرضها، تصبح التربة أرضها زراعية تدب فيها الحياة ويزدهر فوقها النبات، وتزداد الخضرة كل يوم بإنبات البذور وزيادة الجذور وظهور السوق.. فالنباتات تحصل على غذائها من أملاح التربة، وذلك بفعل المعامل “المختبرات” الكيميائية الموجودة لديها في الأوراق، علاوة على أن بعض النباتات تدخر غذاءها كاملا تحت سطح الأرض، سواء في الجذور (كما في نبات الفول السوداني والبطاطا)، أم في السوق الأرضية (كما في النباتات الدرنية، مثل: البطاطس).. فكأن النبات بنموه إنما يزيد – بما تخزنه جذوره من غذاء – من حجم هذه التربة.
يقول الله تعالى في سورة الروم “فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 50)”[سورة الروم].
ويقول سبحانه: في سورة الروم “اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)” [سورة الروم]... وعموما، فإن العين المجردة لا ترى سوى الظاهري، غير ما تزخر به الأرض تحت الثرى، لكنها لا ترى الجيوش الجرارة من الكائنات الحية الكبيرة والدقيقة، وهى تعيش وتتفاعل وتتدافع وينتج عن أنشطتها المختلفة ازدهار النباتات فوق سطح التربة.. .
ونعود إلى الآية الخامسة من سورة الحج, حيث يوضح اهلت سبحانه وتعالى أن الماء الذي ينزله على الأرض الساكنة القاحلة الجافة الميتة (الهامدة), يبعث في مواتها الحياة والحركة والنشاط والنمو والازدياد، وينبت بذلك “كل زوج بهيج”، أي أزواج النباتات أو أصنافها، أو أنواعها، أو ذكورها وإناثها – وهو الأقرب إلى الصواب في رأينا – ويظهر هذا كله في أبهج مظهر له… ولقد ضربت هذه الآية القرآنية مثلا لتقريب فهم عملية (البعث) للناس, لأن الآية التالية لها هى قول الله تعالى من سورة الحج رقم {6}: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، فحين تشاء إرادة الله عز وجل بموت كافة الأحياء في هذا الكون، وفناء جميع ما فيه، سيقع هذا بلا شك، وحين تشاء إرادته ببعث الناس ليحاسبهم على ما قدموه من أعمال في حياتهم الدنيا، سيقع هذا بلا شك… فالأرض حين تبلى الأجساد فيها، وتكون موحشة بما تحتويه من قبور مقفرة، ينزل عليها أمر الله فتخرج منها أجساد الناس يانعة كما كانت في الحياة الدنيا، مثلما ينزل الماء على الأرض الزراعية القاحلة فتخرج نباتات يانعة منها ..
وختاما, هناك ما يزيد على الثلاثين آية في القرآن الكريم ترتبط بالخروج، أي البعث والإحياء بعد الموت، ونضرب لذلك مثالا توضيحيا رائعا، مثل قول الله تعالى: “وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً{17} ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً{18}”... إضافة إلى الآيات التي تحتوي إشارات علمية رائعة، كآية إخراج الحي من الميت، والميت من الحي، وهو موضوع واسع لا تسعه المساحة المخصصة للقاء الحالي، وإنما نعد بالحديث عنه في موضع آخر، إن شاء الله …
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم…